لأكثر من قرن ونصف.. لماذا ظل الجينز الأزرق موضة لا تفنى أبدا؟
اخبار البلد-
لا يكاد مكان يخلو من أحد يرتديه، ولا تكاد خزانة أحدهم تخلو من قطعة إذا لم يكن أكثر منه، ولكل أسبابه، لأنه عملي أو أنيق، مريح أو متين، ويسهل تنسيقه مع كل القطع الأخرى، لكن هذا الحضور القوي لقطع الجينز الأزرق وبقاءها في صدارة الموضة على مدار أكثر من قرن ونصف منذ ظهر أقدم السراويل الجينز في العالم يثير التساؤل حقا عن السبب الذي يجعلنا نعشق القطعة الزرقاء ونجد فيها الراحة.
الجينز.. هدية أميركا للعالم
تعود قصة ظهور السراويل الزرقاء المميزة إلى شراكة بين "ليفي ستراوس" الذي انتقل من نيويورك إلى سان فرانسيسكو ليفتتح محلا لبيع الملابس والأقمشة، والخياط "جاكوب ديفيس" الذي طلب منه أحدهم أن يحيك له سروالا متينا ليرتديه أثناء العمل، قدم ديفيس فكرة غير مسبوقة هي استخدام مسامير معدنية في مناطق معينة في السروال تجعله أقوى ويدوم لفترة أطول، وراقت الفكرة للعمال وتزايد الطلب على مزيد من السراويل، ولما لم يستطع ديفيس تقديم العدد المطلوب، بحث عن شريك ليقدم له براءة اختراعه، ووجد بغيته في ليفي.
حصلت شركة جاكوب ديفيس وليفي ستراوس، التي حملت اسم "ليفايز" (Levi’s)، على براءة الاختراع في مايو/أيار من عام 1873، وتطورت تصميماتها، فقدمت أول تصميم لسروال بجيب واحد من الخلف، وجيب صغير للساعة، وحزام عريض، وبالطبع المسامير النحاسية التي تزيده متانة وقوة.
أما النسيج القطني القوي فقد استقدمه ديفيس من مدينة "نيم" الفرنسية، وكان يُستخدم في صناعة سراويل البحارة في مدينة جنوة الإيطالية، ومن هنا جاء أصل التسمية، نسبة إلى "جين" (Gen) -التسمية الفرنسية لمدينة جنوة- الذي حوله ليفي إلى "جينز"، وأطلق هذا الاسم على منتجات الشركة في الحملات الإعلانية، وظل اسم دينيم (نسبة إلى مدينة نيم) حاضرا أيضا عند الحديث عن الجينز(1).
بعد أعوام، قدمت ماركة ليفايز تصميمات أخرى، فأضافت الرقعة الجلدية المميزة من الخلف، لتكون ملابس عمل قوية تعيش طويلا، ووُضعت صورة الحصانين اللذين يسحبان السروال كل في اتجاه مختلف في إشارة إلى المتانة، يقول كيلسي تيمزمان في كتاب "أين تصنع ملابسنا؟": إن الأميركيين لم يخترعوا الجينز الأزرق، لكنهم جعلوه رائعا، حيث صار الدينم الأزرق كما يقول المصمم تشارلز جيمس "هدية أميركا للعالم" (2).
نوعت ليفايز في تصميماتها والفئات التي تستهدفها عبر العقود، ولم يخلُ تاريخ الشركة من أزمات تتعلق أحيانا بمتانة السراويل، لكنها كانت سريعا ما تعيد تصميم منتجاتها لتُرضي عملاءها ولتقتنص في الأزمات فرصا تعاود من خلالها النمو، وتجد لمنتجاتها أرضا ثابتة بين المستهلكين (3).
انتهت في عام 1908 صلاحية براءة اختراع ليفي، وتسابقت العلامات التجارية الأخرى في صناعة الجينز وتقديم تصميمات مختلفة، وكانت ليفايز حاضرة أيضا، والغريب أنه بقي على قائمة الموضة كل هذه العقود، وتزايدت أعداد مستخدميه عاما بعد عام (4).
بعد الحرب العالمية الأولى كانت النساء يدخلن إلى سوق العمل، وظهرت الحاجة إلى ملابس مريحة ومتينة، وكانت ليفايز مستعدة بتصميمات مخصصة للنساء، حتى ذلك الحين كان ارتداء الجينز لا يزال غير مقبول بين طبقات بعينها في المجتمع، إذ كان إشارة إلى مكانة اجتماعية أقل (5).
ولكن في الثلاثينيات، وبفضل الحملات الإعلانية، أصبح الجينز عنصرا أساسيا في الملابس الغربية، إذ صار يميز رعاة البقر وراكبي مسابقات الروديو، وتتابعت الإعلانات التي روجته لفئات أخرى، وظهر الجينز في الأفلام ليزيد عدد الراغبين في اقتنائه، ويرتبط بالرغبة في التمرد، وتتسع الفئات التي تعتبره ملابس يومية، الجنود وراكبو الدراجات النارية والفنانون والموسيقيون والمراهقون، وأصبح الجينز بالنسبة إلى كثيرين أسلوب حياة، وكانت الشركات بدورها تواكب اختلافات عملائها وتقدم لهم التصميمات المناسبة (6).
حتى ما قبل الحرب العالمية الثانية كان ارتداء الجينز يقتصر على سكان الولايات المتحدة، لكنه بعد الحرب صار رمزا لحياة البساطة والتمرد على الحياة المدنية، كان الأوروبيون في ذلك الوقت يرون في نمط الحياة الأميركي سعادة وراحة لم تكن موجودة لديهم، وكان ارتداء الجينز أحد مكونات هذا النمط، وهكذا وجد الجينز طريقه إلى أوروبا، ومنها إلى بلدان العالم المختلفة (7).
بدا أن ارتداء الجينز يضع طبقات اجتماعية مختلفة في الخندق نفسه، كانت تكلفته في المتناول، كما لم يكن في حاجة إلى الكي أو الغسيل المتكرر، ويبدو جديدا مهما تكرر ارتداؤه، كانت تصميماته تتسع للضيق والواسع واللون الأزرق المتوهج والباهت، بحيث صار في بساطته وعفوية ارتدائه وتنوع تصميماته تعبيرا عن عامة الشعب، عن كل الشعب، لكن أسبابا أخرى كتبت العمر الطويل للجينز الأزرق، فتخطى بتصميماته المختلفة حدود الدول، وعبَر لعقود متعددة إلى الأجيال المختلفة أيضا، فكان كل جيل يحتضن سروال الجينز بطريقته الخاصة (8).
في كتابه (الجينز الأزرق: فن العادي)، يقول عالم الأنثروبولوجيا "داني ميللر" إن للأمر علاقة بالرمز الثقافي الذي يمثله الجينز إلى جانب تصميمه بالطبع، حتى الثلاثينيات كان الجينز الأزرق جزءا من يوم العمل للمزارعين وعمال المصانع وعمال المناجم، وكان ارتداؤه بدافع الضرورة، وخلال الحرب العالمية الثانية ظل الجينز علامة مميزة للجنود الأميركيين عند استراحتهم من الخدمة، ولباس ملايين النساء العاملات أثناء غياب رجالهن في الحرب.
بعد مرور تلك السنوات اكتسب الجينز الأزرق طابعا رومانسيا يذكّر المواطنين بتلك الأزمات، ويذكّر مواطني الحضر بالريف الذي كان ملجأهم خلال الحرب. وفي الخمسينيات ارتدى الممثل الأميركي "مارلون براندو" الجينز الأزرق في دوره في فيلم "البري" (The Wild One ) الذي دار حول عصابة من راكبي الدراجات المشاغبين، ما جذب المراهقين لارتداء الجينز (9).
خلال الستينيات، انتشر ارتداؤه بين شباب الجامعة تضامنا مع الطبقة العاملة، وقدمت الشركات تصميمات تزيده أناقة بارتدائه مع قميص أبيض ناصع، وصار قطعة يرتديها ببساطة وعفوية رؤساء الولايات المتحدة وممثلوها من الشباب، وبقي رمزا للتعبير عن الذات والتمرد على العرف وتجاوز الحواجز الثقافية، ومثّل لمرتديه ببساطةٍ رمزا للشعور بالحرية وعدم الاكتراث بما يقوله الآخرون.
كان العامل الآخر المهم الذي أسهم في نجاح الجينز في البقاء هو إبداع مصمميه في استخدام نسيج من القطن تخترق الصبغة الطبقة السطحية منه فقط، لذا فهي تبهت مع الزمن وتتخذ شكلها المميز، وتعكس طبيعة مرتديها ونمط حياته، ويبدو كأنها تتقدم في العمر معه، وهكذا كانت جاذبيته في ارتباطه بنا كلما ارتديناه أكثر. لا بد من الإشارة هنا إلى أن نسيجه لا يبدو عليه الاتساخ، وكما سنرى فإن الأمر يعود لتكوينه من النسيج الذي لا يراكم البكتيريا بالفعل حتى لو تجاوز 15 شهرا دون غسله، إنه سبب إضافي ليعيش الجينز الأزرق طويلا (10).
كان هناك سبب آخر يتعلق بتغير علاقتنا بالموضة يشير إليه عالم الاجتماع الفرنسي "جيل ليبوفيتسكي" في كتابه "مملكة الموضة: الموضة ومصيرها في المجتمعات الغربية"، الذي صدر لأول مرة في الثمانينيات من القرن الماضي، حيث رصد ليبوفيتسكي تحرر الشارع في لحظة ما من هيمنة الموضة فلم يعد يتبنى من ابتكاراتها إلا ما يتوافق مع إيقاع حياته واختياراته.
لم يختفِ اتباع الموضة وظواهر المحاكاة للطبقات الأعلى بشكل كامل، لكنه خفت إلى حد كبير، إذ كانت طبقة أخرى تتشكل -وهي الطبقة البرجوازية- وكانت كما يقول الكاتب: "تُعرف نفسها من خلال الثروة الثقافية وليس من خلال الثروة المادية"، فضلا عن أنها "واثقة في شرعيتها" وليست في حاجة إلى "ارتداء مظاهر سلطتها".
كانت النزعة الفردانية سببا لتقليل الانشغال بالموضة، التي دخلت إلى ما أطلق عليه ليبوفيتسكي "عصر اللامبالاة"، فقلّت في الستينيات النسبة المخصصة للملابس في ميزانيات الطبقات الوسطى تحديدا، كما اتجهت الأذواق نحو الزي المتحرر والعملي والملابس الرياضية، وكان الميل نحو "الاسترخاء" هو رمز عصر الفردانية الجديد.
في تلك الآونة بدا الجينز خيارا مثاليا، فارتدى الكهول والشباب الملابس الرياضية والجينز الذي مثّل استجابة لتغير أذواقنا لصالح الراحة، انتهت ديكتاتورية الموضة وحصل الأفراد على حرية أكبر في اختيار ملابسهم، إنها الموضة المرنة، كما يسميها ليبوفيتسكي، والتي عنت أيضا أن نقبل كل الهيئات ونحكم بشكل أقل على الآخرين.
في لحظة ما صار الفرد معنيا أكثر بإظهار حريته وشبابه من خلال ما يرتديه، أكثر من اهتمامه بالتعبير عن الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها، تلك الرغبة في مظهر شبابي فاقت الرغبة في الظهور بمظهر أنيق، وقد قد تزامن ذلك مع تحول آخر رصده المصممون، مثل الفرنسي "إيف سان لوران" (1936-2008) حيث بات الآباء هم من يقلدون أبناءهم وليس العكس، وهكذا إذن ظل الجينز حاضرا في ملابس الكهول والشباب. (11)
تتعدد الأسباب إذن، حمل الجينز -بسبب ارتباطه بالثائرين والطلبة وغيرهم- تعبيرا عن التطلع لحياة خاصة، أكثر بساطة وحرية، وكان نموذجا مثاليا للموضة الجديدة التي تسمح للجميع بممارسة ذوقهم الخاص فيما يرتدونه. تبقى جاذبية الجينز الأزرق باللون الباهت في بعض أجزائه، وحتى البقع أو الأطراف البالية في أجزاء منه، في أنه يحكي قصتنا ويرتبط بنا بشكل لا تفعله أي قطعة ملابس أخرى في خزانتنا.