الديموقراطية السياسية في عصر المعرفة

أخبار البلد - لتحقيق الانسجام بين طريقة صنع الناس للثروة وطريقة حكمهم لأنفسهم يقول توفلر، تنشأ الحاجة لتحقيق هذا الانسجام بين طريقة صنع الناس للثروة وطريقة حكمهم لأنفسهم في أي نظام، سواء أكان ديموقراطياً أم غير ديموقراطي، فإذا كان النظام السياسي غير منسجم او غير مماثل للنظام الاقتصادي فإن أحدهما سيدمر الآخر لا محالة.

في كل مرة يخترع البشر فيها طريقة جديدة لخلق الثروة يخترعون معها شكلاً جديداً من أشكال الحكم ينسجم معها، فانتشار الزراعة قضى على الجماعات المتنقلة من جماعات الصيد والبدو الرحل، وغير ذلك من الترتيبات الاجتماعية والسياسية عندما حلّت الدولة المدينية والسلالات الحاكمة والامبراطوريات الاقطاعية محلها.

كما قضت الثورة الصناعية بدورها على كثير من ترتيبات الثورة الزراعية، فمع الانتاج بالجملة mass production، والاستهلاك بالجملة mass consumption، والاتصال بالجملة mass communication انبثق نظام سياسي مناظر وهو نظام الدولة القومية والديموقراطية الجماهيرية mass democracy. وقد واجهت هذه الدولة، بالطبع، مقاومة شديدة من سدنة النظام الزراعي، أو القوى الاقطاعية القديمة والنبلاء والكنيسة والمثقفين التابعين. ولم يكن الصراع بين القوى الجديدة والقديمة طبقياً أو صراعاً بين يمين ويسار، كما توهمنا، بمقدار ما كان صراعاً بين ق?ى الموجة الأولى وقوى الموجة الثانية.

ويشتد الصراع اليوم بين بقايا قوى الموجتين الأولى والثانية من جهة، وقوى الموجة الثالثة المعرفية اللامركزية الصاعدة من جهة أخرى. إن العالم، وان كان يبدو وكأنه يتجه نحو المركزية أو الوحدة، إلا أن ما يجري فيه من أحداث وصراعات عرقية وإثنية ودينية وتطورات اقتصادية وثقافية يمكن أن يؤدي إلى اندثار كثير من الدول، وكأن الناس في كل دولة ينقسمون إلى أربع فئات:

1. العالميون Globalists

2. والوطنيون/ القوميون Nationalists

3. والاقليميون Regionalits

4. والمحليون localists

إن كلاً من هؤلاء يدافع عن هويته وعن مصلحته الاقتصادية، كما يراها، بكل ضراوة. وسيتحالف كل منهم مع من يؤيده من رجال الأعمال والصناعة والفنانين والكتاب والمثقفين.

ومهما كان الأمر فإن الديموقراطية الصحيحة تتسامح مع التنوع والاختلاف في الأصول والمنابت والأعراق والاثنية والأديان والمذاهب في المجتمع، فلا شيء يخشى معه تهديد النظام السياسي ما دام النظام متوازناً، فالقوة ترتبط ببيولوجيا الفرد ودور الحكومة أو الدولة، لأن كلاً منهما يشترك مع الآخر في النزوع المتجذر بيولوجياً فيها (وفينا جميعاً) وبشكل لا يقاوم، إلى اليسير من النظام أو الأمن Order في حياتنا اليومية جنباً إلى جنب مع التعطش إلى الجديد والمثير.

إن الحاجة إلى النظام/ الأمن Order هو المبرر لوجود الدولة والحكومات، وإذا كان الأمر كذلك فإن الوظيفة الأولى للدولة، ممثلة بالحكومة، هي ضمان النظام أو الأمن لكل فرد ولكل فئة في المجتمع، ولكن ما هو، يا ترى، القدر الكافي من هذا النظام/ الأمن Order؟

وعلى كل حال، هناك نوعان من النظام/ الأمن Order: النظام/ الأمن Order الذي يمكن تسميته بالنظام الضروري اجتماعياً، Socially necessary order، والنظام أو الأمن الزائد عن الحد surplas order ليس من أجل الصالح العام، وانما من أجل صالح من يتحكمون بالدولة. إن نظاماً Order زائداً عن الحد، كهذا، هو نقيض للنظام الاجتماعي الضروري. فالدولة أو الحكومة الجيدة في عصر المعرفة تعتمد كلياً على الاتصال الفوري وعلى حرية نشر البيانات والمعلومات والأفكار والرموز بين الناس.

یری دراكر أن المهمة الرئيسة للحكومات في عصر المعرفة هي وضع القوانين والأنظمة والمعايير والمواصفات والمقاييس، فلا تعمل مباشرة في الإنتاج، فنجاح كل من اليابان والمانيا الاقتصادي يعزى إلى تركيزهما على المناخ الاقتصادي Climate المؤاتي للإنتاج بدلاً من الطقس Weather المتقلب. لقد كان هدف سياسة كل منهما ليس جعل المريض يشعر أن صحته حسنة، وانما جعله صحيح الجسم والمحافظة على صحته.

لقد طورت بريطانيا، مثلاً، قبل غيرها المضادات الحيوية والمحرك النفاث والكمبيوتر، ولكنها لم تستطع تحويل تلك الانجازات المعرفية إلى سلع وخدمات ناجحة، وإلى وظائف وصادرات وأسواق بعد الحرب العالمية الثانية، الأمر الذي تعاني منه امريكا اليوم، حيث تتهاوى صناعة وراء اخرى، مع ان امريكا هي التي طورت التكنولوجيا الجديدة، ولكن اليابان والمانيا فازتا عليها في تحويلها إلى سلع وخدمات مطلوبة، وأسواق مفتوحة، لأن المدخل المعرفي الاضافي أو القيمة المعرفية الاضافية Value added knowledge في الولايات المتحدة أقل منها مما في كل م? اليابان والمانيا، ومن الصين على الطريق (يتبع: البقاء في عالم متغير).