الصراع على النموذج بين أميركا والصين
والآن بعد انتهاء الحرب الباردة بثلاثة عقود تقريباً هيمن خلالها النموذج الغربي وحيداً على المجال العالمي بدون أي منافس، وهو الذي يتبنى على الأقل نظرياً عناصر رئيسة تشمل سيادة القانون، والتعددية السياسية، والتسامح الثقافي، وحصول الجميع على فرص متساوية في النجاح بناءً على موهبتهم، وهي كما تُعرف بالرأسمالية الليبرالية والتي أنهى بها فرانسيس فوكوياما ذات يوم التاريخ قبل أن يعود عن ذلك، هذا النموذج جرّ الويلات على شعوب كثيرة حينما طُبق بشكل اعتباطي لم يأخذ بعين الاعتبار العناصر الداخلية المعقدة فيها، فأدى إلى تفككها ودخولها في احتراب أهلي لم تنتهِ منه أو من تداعياته حتى الآن، والعراق هو النموذج الأكثر كارثية حينما فُرض بالقوة العسكرية، وتسبب في نتائج معقدة انعكست سلباً على بريقه في المنطقة العربية على الأقل حيث الدكتاتورية أمر مقدس والديمقراطية مكروهة، والاستعصاء على التحول الديمقراطي هو العلامة الأبرز، طبعاً كانت النتيجة اعتبار النموذج الغربي الأميركي هو سبب كل الويلات التي تعيشها المنطقة، بالتالي تبدو المنطقة متلهفة لنموذج آخر بديل، بالذات أنها لا تزال عاجزة عن إنتاج نموذجها الحضاري الخاص بها.
وفي الوقت الذي تحتدم حرب الحاضر على تخوم أوروبا نجد أن حرب المستقبل تشتعل في مكان آخر، هناك في أقصى الشرق في الصين، حيث ينهض هذا المارد بعد قرن من إذلال الغرب له بنفس أدوات الحضارة الغربية، وبعيداً عن أعداد الأسلحة والقطع الحربية من صواريخ وبوارج، وبعيداً عن السيطرة الجيوسياسية والسيطرة على المضائق، فكل تلك ما تزال تميل لمصلحة الغرب والولايات المتحدة تحديداً، فهناك مسافة مهمة حتى تتمكن الصين من مجاراة الغرب، هذا إن استطاعت ذلك، لكن في قلب تلك المعمعة المحتدمة يبرز صراع آخر ربما لا يتم الانتباه إليه كثيراً، وهو الصراع بين نموذجين، نموذج الغرب المعروف، والنموذج الجديد قيد التشكل بطابع شرقي وبمكونات شرقية لكن الملفت أن القوة الدافعة لهذا النموذج هي الجزء المهم من النموذج الغربي وهي الرأسمالية، وهي هنا ليست ليبرالية بل رأسمالية سياسية، حيث تتمتع الحكومة وليس المجتمع المدني بالسلطة النهائية لاتخاذ القرار بشأن الاقتصاد والمجتمع، وهذا النموذج الأخير يستمد شرعيته من نجاحه، فهو يقدم حتى الآن نتائج مهمة على مستوى العوائد، وتكدس الثروة في أيدي المستثمرين، ويحقق مستوى عاليا من الرفاه والاستقرار الاجتماعي.
ومن المبكر القول إن هذا النموذج يمكن أن ينتصر بسهولة على النموذج الغربي، لأن استمرار نجاحه مرهون بنجاح القوة الدافعة له وهو الاستقرار الاقتصادي والرفاه الاجتماعي، ففي حال أي إخفاق فإنه ينعكس على الجهات المسيطرة على الحكم، بينما في الغرب سيقع اللوم على الصندوق الذي أفرز هذه المجموعة السياسية وبالتالي سيتم الاحتكام إلى الصندوق من جديد، بينما في النموذج الصيني لن يقتصر الأمر على مجموعة ضيقة من السياسيين بل يتعداها إلى جوهر الدولة مما قد يؤدي إلى اضطرابات على مستويات مختلفة قد تهدد النظام برمته، ومع ذلك ربما يبدو هذا النموذج مغرياً بالنسبة لمنطقتنا، حيث يعتبر ملائماً لنمط تفكيرها.
يبدو من المبكر الحديث عن نموذج صيني متكامل في مواجهة النموذج الغربي الناجز، والذي يتعرض للنقد وإعادة التقويم بين الحين والآخر، لكن المؤشرات تذهب باتجاه أن الصين تُعد نفسها لإنتاج نموذجها الخاص في مواجهة الغرب، وهي تدعمه بمشاريع اقتصادية عملاقة وعسكرية كبيرة، لكن لا يبدو أن من المنطق الحكم بشكل مبكر على؛ أي النموذجين سيكون الأقدر على الانتصار؟ فدون ذلك هيمنة اللغة الإنجليزية، والأطعمة، ونمط الحياة عدا عن السينما، وثقافة متشعبة تمكنت من أن تسكن عقول النخب السياسية، لكن الصين تتقدم اقتصادياً في كل مكان بشكل يعجز الغرب عن مجاراته، وهذا بالتالي سيؤدي في النهاية إلى سيطرة اقتصادية، وبدون شك هذه السيطرة ستفرض طابعها ونموذجها، ويبقى المستقبل هو الحكم
في آخر المطاف.