لا تزال صامدة رغم الزلازل وغزوات المغول والصليبيين.. قلعة حلب وتاريخها الذي يمتد لـ 5 آلاف عام
أخبار البلد - تعرضت قلعة حلب التي يعود تاريخ بنائها إلى ما قبل نحو 5000 عام، لأضرار طفيفة وتصدعات، بسبب الزلزال الذي ضرب مؤخراً جنوب تركيا وشمال سوريا صباح الإثنين 6 فبراير/شباط 2023؛ ما تسبب في خراب بعض الآثار المهمة داخل القلعة.
قلعة حلب.. أقدم قلعة في العالم
تعتبر قلعة حلب من أهم المعالم الأثرية في العالم، فهي أقدم قلعة في التاريخ، إذ يعود تاريخ بناؤها إلى العصور الوسطى، وتحديداً إلى الألفية الثالثة قبل الميلاد.
تقع قلعة حلب أعلى تل يتوسط المدينة القديمة، وقد تناوب عليها العديد من الحضارات، من ضمنها مملكة يمحاض الأمورية والحيثية والآرامية والآشورية والفارسية والهيلينية والرومانية والبيزنطية؛ والحضارات الإسلامية.
وترتفع القلعة عن مستوى المدينة نحو 33 متراً فوق تل بيضاوي الشكل، يحيط بها سور حجري به 44 برجاً دفاعياً من مختلف الأحجام بطول يصل إلى 900 متر وارتفاع نحو 12 متراً.
ووفقاً لما ذكره موقع Castles، فإن استخدام القلعة يعود إلى منتصف الألفية الثالثة قبل الميلاد على الأقل، عندما كان هناك معبد للإله القديم "هدد" أو كما يطلق عليه أيضاً "حدد"، وهو إله الطقس والمطر والرعد في سوريا القديمة.
كما يُقال إن النبي إبراهيم- عليه الصلاة والسلام- كان يحلب أغنامه على تل القلعة، نقلاً عن مصادر تاريخية نقلها موقع Discover Syria.
سلوقس نيكاتور الأول أول من استخدمها حصناً في وجه الأعداء
بعد دخول جيوش الإسكندر الأكبر مدينة حلب عام 333 قبل الميلاد، حكمها سلوقس نيكاتور الأول، الذي قام بإحياء المدينة تحت اسم "بيرويا".
ويُقول مؤرخو العصور الوسطى إن استخدام القلعة كـ"أكروبول مقدوني" أي بمعنى "حصن"، بدأ في عهد سلوقس نيكاتور الأول، وما يثبت ذلك هو وجود بقايا مستوطنة "هلنستية" في بقايا أجزاء القلعة، كما أن هناك شارعاً معمداً يصل إلى القلعة من الغرب له النمط ذاته لشوارع العصر الهلنستي.
الرومان أعطوا قلعة حلب أهمية دينية والبيزنطيون لجأوا إليها أثناء الخطر
بعد خلع الرومان للسلالة السلوقية في عام 64 قبل الميلاد تحت قيادة بومبيوس الكبير، أصبحت مدينة حلب في القسم الشرقي من الإمبراطورية الرومانية، وقد نالت قلعتها أهمية دينية عندما أنشأوا فيها العديد من المعابد المخصصة للآله "زيوس" الذي يُلقَّب عند الإغريق بـ"أبو الآلهة والبشر".
ويقال إنّ الإمبراطور الروماني جوليان زار أحد المعابد بالقلعة في عام 363 قبل الميلاد، وقدم فيها ثوراً أبيض لزيوس حسب العادات الإمبراطورية.
وبعد تقسيم الإمبراطورية الرومانية في عام 395 تمّ ضم حلب إلى الإمبراطورية البيزنطية، التي أدركت على الفور أهمية قلعتها كحصن منيع أمام الغزاة.
وبالفعل كان البيزنطيون يهتمون بالقلعة بشكل كبير، ويرممونها كلما تهدم جزء منها أثناء الحروب.
كما اعتاد السكان أن يلجأوا إلى القلعة عند الخطر، ففي عام 540 اجتاح الملك الساساني كسرى الأول مدينة حلب وبدأ يعيث فيها خراباً، ولولا لجوء السكان إلى القلعة لكانوا في عداد الموتى.
وذلك قبل أن يعود الإمبراطور جستنيان البيزنطي ويعيد بناء المدينة، ويضع لها سوراً مبنياً من الحجر.
ومن الآثار البيزنطية المتبقية داخل قلعة حلب، مسجدا "الكبير" و"إبراهيم"، اللذان تم تحويلهما إلى مسجدين بعد أن كانا كنيستين بناهما البيزنطيون.
الفتح الإسلامي وإصلاح القلعة من آثار زلزال مدمر
في عام 636 م، قام الصحابيان أبو عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد بفتح مدينة حلب، وطرد البيزنطيين منها، وسرعان ما قاما أيضاً بإصلاح الدمار الحاصل في قلعتها بسبب زلزال مدمر كان قد ضرب المدينة في تلك الفترة.
في الحقيقة لا يعرف الكثير عن قلعة حلب في تلك الفترة سوى أن حلب كانت مدينة حدودية على حواف الدولتين العباسية والأموية، إلى حين دخول الحمدانيين إلى المدينة في عام 944 والذين جعلوا من مدينة حلب واحدة من أهم المدن بالعالم في ذلك الوقت.
قلعة حلب.. حصن منيع للحمدانيين للاحتماء فيها من غزوات البيزنطيين
وقام الحمدانيون، بقيادة أميرهم "سيف الدولة الحمداني"، بجعل المدينة عاصمة لهم، كما جعلوها عاصمة الفن والشعراء والأدباء، إضافة إلى تعزيز قلعة حلب من الداخل.
ولكن في عام 962 عاد البيزنطيون بقيادة "نقفور فوقاس الثاني" إلى مهاجمة المدينة مجدداً، ليحتلوها ويحرقوا مساجدها ويدمروا بيوتها، كما ارتكبوا مجزرة رهيبة راح ضحيَّتها كثيرٌ من الأهالي، وأسروا عدداً كبيراً من النساء والأطفال.
في حين لم يسلم من القتل والأسر إلا من فرّ إلى القلعة من العلويين والهاشميين والكُتّاب وأصحاب الأموال، إذ لم يكن لِلقلعة يومئذٍ سُور، فحاصر البيزنطيون القلعة، لكنَّها صمدت واستعصت عليهم، قبل أن يغادروا المدينة بعد دخولها بـ8 أيام فقط، لأسباب غير معروفة.
زلزال ضخم دمرها مجدداً، والزنكيون أعطوها شكلها الحالي
في القرن الثاني عشر، كان الزنكيون يحكمون مدينة حلب خلال فترة الاحتلال الصليبي في الشرق الأدنى، وقد وصلت معهم القلعة في ذلك الحين إلى ذروة أهميتها، لاسيما في عهد الحاكم عماد الدين زنكي وابنه نور الدين زنكي الذي جعل من القلعة سجناً للعديد من القادة والصليبيين المشهورين، من بينهم:
ملك القدس بلدوين الثاني الذي أطلق سراحه مقابل مئة ألف بيزانت (عملة ذهبية).
وفي عام 1157 تعرضت مدينة حلب لزلزال قوي، يعد أحد أقوى الزلازل في التاريخ من حيث الخسائر، إذ راح ضحيته أكثر من 230 ألف إنسان، كما أدى إلى أضرار جسيمة في القلعة.
ولكن الأمير نور الدين زنكي أعاد بناء أسوار مدينة حلب وقلعتها حتى أخذت شكلها النهائي الذي نراها عليه اليوم تقريباً، كما قام بإدخال العديد من التحسينات مثل الارتفاع وجدران الطوب في المدخل المنحدر والقصر الملكي، كما قام إضافة إلى ذلك بترميم وإعادة بناء المسجدين الموجودين داخل القلعة، وتبرع بتفصيل محراب مسجد إبراهيم الخشبي الذي اختفى في فترة الاحتلال الفرنسي.
خلال العقد الأول من القرن الثالث عشر ميلادي تطورت القلعة لتصبح آنذاك مدينة فخمة داخل مدينة حلب نفسها، وقد شملت جميع المعايير ما بين السكنية كالقصور والحمامات، والدينية كالمساجد والأضرحة، والمنشآت العسكرية للتدريب والأبراج الدفاعية، ومخازن الحبوب.
غزو مغولي للقلعة، وتراجع دورها بالدولة العثمانية
في عام 1260، استولى المغول على قلعة حلب بقيادة هولاكو خان، وتعرضت لأضرار بالغة نتيجة لذلك، قبل نهاية القرن الثالث عشر قام السلطان المملوكي الأشرف خليل بإصلاح هذه الأضرار.
في نحو عام 1400، استولى المغول على المدينة والقلعة مرة أخرى، هذه المرة تحت حكم تيمور، وقد تم تدمير جميع المباني داخل القلعة تقريباً، ولكن في عام 1415 تم ترميم قلعة حلب مرة أخرى.
خلال الفترة العثمانية، تضاءل ببطءٍ الدور العسكري للقلعة كحصن دفاعي، ففي عام 1521 تم ترميم القلعة من قبل السلطان سليمان الأول، واستخدمت كثكنات للجنود العثمانيين فقط.
وفي عام 1822 تضررت القلعة مرة أخرى بشدة، بسبب زلزال مدمر حصد أرواح نحو 20 ألف شخص في المدينة، قبل أن يتم ترميم القلعة مجدداً نحو عام 1850 من قبل السلطان عبد المجيد الأول.
أما خلال الانتداب الفرنسي في الجزء الأول من القرن العشرين ، فتم إجراء حفريات أثرية وأعمال ترميم واسعة النطاق في القلعة، وسرق كثير من آثارها، لاسيما "محراب مسجد إبراهيم الخشبي".
قلعة حلب في الحرب السورية الأخيرة
منذ بدء محاولات الجيش السوري الحر تحرير مدينة حلب، اتخذ جيش النظام السوري من قلعة حلب حصناً لعناصره، لاسيما أن منطقة حلب القديمة كانت نقطة تماس بين الطرفين.
وخلّفت عشرات التفجيرات والهجمات المتبادلة بين الطرفين دماراً كبيراً في القلعة، لاسيما عند بواباتها الخارجية التي باتت مليئة بآثار الطلقات النارية والشظايا، إضافة إلى انهيار جزء من سورها التاريخي.
وتعتبر قلعة حلب في المدينة القديمة من المواقع الأثرية التي أدرجتها اليونسكو على لائحة مواقع التراث العالمي عام 1986، وقد سبق هذا التصنيف العالمي تشييد مدرج على سطح القلعة يتسع لنحو ثلاثة آلاف متفرج، فيما يرجّح أحد الباحثين وجود آثار رومانية تحت هذا المدرج الحديث الذي لم ينقب فيه من قبل.
ومن الأجزاء التي تحبس الأنفاس في القلعة قاعة الأسلحة والقاعة البيزنطية وقاعة العرش ذات السقف المزين المرمم، حيث تعتبر القلعة مثالاً للهندسة العسكرية العربية، وقد شبّهتها الكاتبة والرحالة الأثرية جرترود بل بالفنجان داخل صحنه، حيث الفنجان هو القلعة والصحن هو مدينة حلب.
تضرر قلعة حلب في زلزال 2023
وألحق الزلزال الأخير الذي وقع في جنوب تركيا عام 2023 ووصل صداه حتى معظم المدن السورية، ضرراً كبيراً بقلعة حلب، حيث سقطت أجزاء من الطاحونة العثمانية، وحدثت تشققات وتصدعات وسقوط أجزاء من الأسوار الدفاعية الشمالية الشرقية، كما سقطت أجزاء كبيرة من قبة منارة الجامع الأيوبي، وتضررت مداخل القلعة، وسقطت أجزاء من الحجارة، ومنها مدخل البرج الدفاعي المملوكي، وتعرضت واجهة التكية العثمانية لأضرار.
وتقع مدينة حلب على طول الجزء الشمالي من صدع البحر الميت، وهو عبارة عن فالق يفصل الصفيحة العربية عن الصفيحة الإفريقية.