"العربجي" مسلسل شامي عن عالم سائقي العربات في دمشق

في قاع أي مجتمع مدني يكمن عالم مليء بالصخب والفوضى والحب والقوة والغدر، يتحرك بحيوية في أطراف المدن وأحيائها.. أفراده هم من ينقلون الناس وأغراضهم من مدينة إلى أخرى ومن حي إلى آخر، مستخدمين عربات تجرها الدواب. سميت مهنتهم بالعربجي، عنهم كتب بديع خيري ولحن وغنى سيد درويش:

مين زينا إحنا العربجية ياهوه مين

بنشوف غلب وتلطيم عقبال اللايمين

كل الناس في أشغالها يا أفندي رايحين جايين

إلا إحنا نفضل بالعشر ساعات قاعدين

الله يكفيكو ياهوه شر القعدة اللي بنقعدها مصلوبين

طول النهار أنا والجدع ده

ياما بنشوف م الشاويشية صبح ومغرب وعشية

على أي شيء يرازونا يخالفونا ويلعنو أبونا

أهي حالة يعلم بيها سيدك تشكي لمين شي مش هايفيدك

طول ما سرعك يا أسطا في إيدك أوعا تصدق إننا نتهان

لم يكن هدف الكاتب عثمان حجي من تأليف مسلسل العربجي، تقديم حكاية عن شخص واحد يعمل بهذه المهنة، هو عبدو العربجي (باسم ياخور)، بل تقديم رواية عن شريحة من المجتمع تمتهن هذا العمل الصعب، ورواية ما يرتبط بها من حكايا وأحداث.

ولم يكن العمل في مهنة العربجي يحتاج إلى العلم، ولا سعة المعرفة، بل إلى القوة الجسدية وإتقان التعامل مع الحيوانات، لذلك عمل بها كل من تقطعت بهم سبل الرزق. وجاء في قاموس المهن الذي ألفه الأديب والحقوقي ظافر القاسمي وصدر عن وزارة الثقافة السورية عام 1960 في تعريف مهنة العربجي أنها "سائق العجل المسمى عربة يعمل عند الوجهاء وعند الضرورة، أو عند أصحاب العربات ويلاقي مشقة دائما. عملهم في الربيع حيث يستنشق الراكب الهواء الطلق ويشاهد المناظر المحببة من الأماكن المرتفعة”.

وعاشت مهنة العربجي في دمشق طويلا، وهي تمثل شريحة من الرجال الذين يقومون بنقل الناس بين أحياء المدينة الواحدة أو بين المدن. والعربجية عالم يتداخل فيه الرجال بالنساء، والحقيقي بالمتخيل، عاش فيه هؤلاء الكثير من قصص الرجولة والشهامة، لكثرة ما كانوا يواجهونه في ترحالهم من مصاعب ومخاطر، ولكثرة ما يتعرفون على أشخاص جدد في كل الأماكن التي يزورونها. والعربجي في الغالب، رجل قوي شهم جريء، يحمي من يركب معه ليوصله إلى مقصده بأمان، خاصة لو كان الركاب من النساء. وكان العربجية في الغالب ينتقدون لمعاملتهم الحيوانات بقسوة، كما كانوا بسبب قلة معارفهم وخشونة حياتهم، يتسمون بالمزاج الحاد والغلظة في التعامل مع الغير. كما يتميزون بسطوة اللسان الفاحش، وهذا ما جعلهم مضرب المثل بخشونة السلوك، لكن الأمر لا يلغي روح الشهامة والنخوة الموجودة لديهم.

مسلسل ‘العربجي’ يدخل في تفاصيل هذه المهنة، مستعرضا الكثير من الأحداث التي يواجهها العربجية. ومن المنتظر أن يقدم عوالم حكائية تنتمي مكانيا وزمانيا لمدينة دمشق في أوائل القرن التاسع عشر، وتخرج عن كونها من أعمال البيئة الشامية الصرفة كما يقول كاتبها حجي، فهي أحداث ليست موثقة بوقائع تاريخية محددة وصارمة، بل تكتفي بيئة العمل بتكوين فضاء مكاني وزماني محدد ليكون الحاضن لحكايا المسلسل.

ويقدم المسلسل بشكل أساسي حكاية عبدو العربجي (باسم ياخور) الذي يقطن في حي النشواتي، وهو رجل يحمل معاني الرجولة والشهامة التي تربى عليها، يعيش في بيئته البسيطة بعيدا عن المشاكل اليومية، لكن القدر يسوقه إلى تقاطعات مصيرية مع أحداث حارة في الحي، يتصارع فيها الخير والشر. ويصبح أمام مفترق طرق وفي مواجهة أزمة مفاجئة تكاد تودي به إلى سقطة أخلاقية، فيما لو تخلى عن الضعفاء الذين كان يجب أن يدافع عنهم.

ولا يتردد عبدو العربجي في الوقوف إلى جانب المظلومين، ويكون في مناهضة قوى الشر في الحي، وتوشك الأحداث المتسارعة أن تنهي حياته، وما يزيد من معاناته تعلق قلبه بامرأة في الحي، لا تبادله الحب، فتعرض عنه، لكنه لا يفقد الأمل في تحدي واقعه، ليدافع عن حبه لها ورغبته بالزواج منها متحديا كل الظروف. تختصر حياته في مقاومة مجموعة من التحديات العاطفية والحياتية.

وغالبا ما تثير في أعمال البيئة الشامية، مسألة الوثيقة التاريخية والتماهي أو التقاطع معها، فبعض من متابعي الأعمال الشامية يؤكدون أنها شوهت هذه البيئة وقدمت أجواء وأحداثا وتفاصيل لم تكن موجودة بالفعل، بينما يرى آخرون أنها أعمال تعتمد التاريخ وكذلك الخيال لتقديم الفائدة والمتعة معا. أحد هؤلاء كاتب المسلسل عثمان جحى الذي يؤكد أنه يترك مساحة كبيرة لخيال الكاتب في ما يقدم.

ويقول حجي "أنا واع لقضية الخيال والتوثيق، بحكم دراستي، وإنجازي لعدة أعمال تاريخية، فأتعامل بصرامة مع التوثيق داخل وخارج الدراما، مع إدراكي أن هناك هامشا لخيال الكاتب في الدراما والأدب، يستطيع الإفادة منها في رفع سوية النص الدرامي أو الأدبي، دون المساس بالحقائق أو تغييرها أو قلبها، ويمكن الاعتماد على روايات تاريخية ضعيفة في الدراما إذا لزم الأمر”.

ويتابع "على هذا الأساس بدأت بكتابة العربجي في حقبة زمنية معروفة ومؤطرة ومستندا إلى حدث تاريخي أورده مؤرخون عدة منهم: عبدالله حنا وليلى الصباغ، لكن مع بدء تنفيذ العمل اكتشفنا صعوبة التقيد الحرفي بلوازم المرحلة من ديكور وملابس وطبيعة الأجواء، فكان القرار الهروب من التوثيق وجعل العمل مستندا إلى إشارات زمنية بدت واضحة وجلية في قصة عبدو العربجي نفسه”.

ولم يكن إنتاج المسلسل عملا هينا، بل رافقته سلسلة من المصاعب، فهو جاهز للتصوير منذ ثلاثة أعوام، لكن مشاكل في مرحلة الإعداد والتنفيذ عطلت تنفيذه مرارا، وتناوب على العمل عليه عدد من المخرجين وتبدل مرارا فريق العمل وخاصة النجوم من الممثلين المشاركين فيه. لكن في هذا الموسم، تم الاتفاق النهائي على أن يخرجه سيف الدين سبيعي ويلعب دور البطولة فيه الممثل باسم ياخور وسلوم حداد وديمة قندلفت، بمشاركة ثلة من الممثلين السوريين.

ويوضح جحي "لا بد أن يتعثر أو يتعسر عمل للكاتب في مسيرته المهنية، لأسباب متعددة، والعربجي دخل مرارا في التأجيل والتسويف، لأسباب مختلفة، منها ما كان متعلقا بالشركة المنتجة، ومنها ما كان متعلقا بالنص. وعندما بدت الشركة بهذا العام جدية بإنجاز العمل، اتخذت قرارا جريئا بإعادة كتابة النص، وهذا القرار كان سببه أنني لم أعد أرى النص إلا من زاوية واحدة، وتعدد المخرجين جعل رؤيتي للعمل ضبابية، لذلك استعنت بالصديق الكاتب مؤيد النابلسي، وأعدنا كتابة النص من عدة وجهات نظر، ولا أغفل دور الفنان ياخور بمتابعة النص وتفاصيل العمل”.


ويؤكد كاتب المسلسل أنه ليس صحيحا أن دراما البيئة الشامية ليست محل ثقة الجمهور، فهي تستطيع أن تحمل هذه الصفة للجمهور الذي يتابعها بشغف.

ويبيّن "يدور الحديث دائما عن التشكيك في قدرة أعمال البيئة الشامية على تصدير دراما تهمنا أو تمثلنا أو تشبه مجتمعنا، هنا لا بد من القول إن الدراما مهما كان نوعها، يستطيع المتلقي أن يجد فيها ما يشبهه أو يشبه محيطه، فأعمال البيئة هي بالنهاية دراما مجتمعية تجد رواجا محليا وعربيا، هدفها الأول التسلية ومن ثم الإسقاط أو المحاكاة”.

وتجدر الإشارة إلى أن مسلسل "العربجي” سيقدم ضمن الموسم الرمضاني القادم، بمشاركة مجموعة من المبدعين المعروفين في المشهد الفني السوري والعربي. وتتولى إنتاجه شركة "غولدن لاين” التي قدمت في العام الماضي مسلسل "جوقة عزيزة” والذي كان مثار جدل كبير بين مؤيد ومعارض، تصدت هذا العام لإنجاز عملها حاشدة له طاقات ومواهب كبرى.