كهف في الشتاء وعريش في الصيف...!

أغبط أولئك الذين لم يتلوثوا بالمدنية الزائفة ، ولم تصيبهم التقنيات بأمراضها ، لا يخضعون لمعادلات السياسة ولا ينشغلون بصراع القوى ، لا يعنيهم ما جرى أو سيجري من مناكفات بين الحكومة ومجلس النواب ،لا يأبهون لصراعات النفوذ على المناصب ،غير معنيين من أين يأتي الغاز، لا يهتمون بالأسماء أو الألقاب ، متحررون من القيود ، أحرار بالفطرة وفي سبل العيش وبساطته ، قانعون بما تيسر لهم من رزق مهما يكن مستوى الضنك ، لا يلهثون وراء الأوهام والسعادة المصطنعة ، فهم في حالة إيمان وقناعة ، تنحسر أفراحهم وأحزانهم في محيطهم وضمن واقعهم ومقتنياتهم على محدوديتها ، يتعايشون مع الطبيعة وتقلبات الطقس ، في سياق البحث عن حماية أنفسهم وممتلكاتهم من حيوانات ودواجن من الحرارة والبرودة ، يتحسبون للغد بلا هلع ولا يرتعبون من حدث قادم ، فهم مؤمنون وقدريون ،وفي ذات الوقت لا يرمون أنفسهم للتهلكة ، يؤمّنون حظائرهم ويغلقون أقنان الدواجن ، ينامون بعيون الذئاب ، ويُفعّلون الموروث وما تناقلته الأجيال في تربية ابنائهم ، على القيم الإنسانية الفطرية ، الصدق ، التعاون ، العمل ، الرجولة ، الشهامة ، الكرم ، الذود عن الحمى والحب ، التعايش مع الواقع وليتعلموا الوداعة من الحمل ، اليقظة من الديك ، المثابرة من النمل والصبر من أيوب عليه السلام ، ربيعهم خبيزة ،شيح ،دحنون ، شقائق النعمان وخضرة وأعشاب ومراعٍ خضراء للأنعام ، لا علاقة لها بما يهذر به المعارضون أو الموالون ، ولا يعنيهم صراخ الأزلام ولا صرير الأقلام .

- إنهم الإنسان ،أعلى مراحل الحياة ، إنهم الطبيعة ، يمارسون الحب الفطري بغير تكلف وبدون تنميق ، بلا ورود حمراء في 14 شباط ، إنهم الأرض والزرع ، حليب ولبن وثغاء ،دجاج ينق وديك يصيح في الفجر ، كلب يعوي ،حمار ينهق وحصان يصهل ، بعير يرغي وناقة تنيخ ، عربود في الجمر وإبريق شاي ، سنابل القمح والشعير وهطل الندى في الفجر ، لفح القيظ والأشمغة والناي وأهازيج المساء ، حكايات حول الموقد ، دلال قهوة وهيل وترحيب بالضيف وحماية المستجير ، دفء الفراء ونوم براحة البال في ضوء القمر ، في ليل بهيم أو على إيقاع المطر ، صراع محبب مع الطبيعة بلا تذمر من مجريات الأقدار ، لا بغضاء ولا حسد ، تعاون وتناغم وتقسيم أدوار يمارسها الجميع ، الرجال والنساء ، الكبار والصغار .

- هذا المشهد الفطري ، حيث يعيش الإنسان على إيقاع الطبيعة البكر ، يأتي نقيضا لما أصبح عليه البشر في المدن عامة والعواصم خاصة ، فالناس في المدن يغرقون بالتفاصيل ، تقتحمهم الأخبار ويندمجون بتفاوت في مجريات الأحداث السياسية ، الإقتصادية ، الإجتماعية والأمنية في الداخل ، الإقليم والعالم ، وهنا يبدأ المشهد الإنساني بصورة أخرى وربيع مغاير ، حياة معقدة ولاهثه ، لدرجة أن البعض يعيشون حالة صراع مع الذات ، لا يتوانى واحدهم عن قتل أخيه ،تبشيع صورته ، إغتيال شخصيته وتدمير سمعته لأتفه الأسباب،وفي سبيل مصالحهم يتغولون على الحقيقة ، يقوْلبون الصحيح ، يخلطون الحق بالباطل ، يشوهون النقاء ، لا يفرقون بين الشياطين والعلماء ،ينتشون بأفعال الطغاة ويسفهون الحكماء ، ويا حسرتاه أن بين ظهرانينا بعض من نفر أطاحت بهم لوثة الأنا ، يتخبطون لحد كره الذات ، يبحثون في ثنايا الحقد عن إختصاصي لتفصيل الوطن ، طولا ، عرضا ومربعات على مقاس هذا المريض بالأنانية أو ذاك الدعي بالوطنية ، ليبقى الفطريون على حالهم يكدحون بالرضا ، ينعمون براحة الضمير ، في كهف في الشتاء وعريش في الصيف . لهذا أُغبطهم .
نبيل عمرو-عمان
nabil_amro@hotmail.com