البرازيل تدخل النفقَ الأميركي
أخبار البلد-
السجلُ التاريخي لنظام حُكم العسكر الديكتاتوري في البرازيل، الذي استمر لفترة 21 عاماً وانتهى عام 1985، ليس مدعاة لفخر الشعب البرازيلي. إلا أن أنصار الرئيس البرازيلي السابق جايير بولسونارو، عقب فشله في الانتخابات الرئاسية، في نهاية شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، دأبوا على الجلوس أمام معسكرات الجيش في العاصمة برازيليا، مطالبين الجنرالات بالقيام بانقلاب! والسبب رفضهم لنتيجة الانتخابات بزعم أنها تعرضت للتزوير.
حزب الرئيس السابق بولسونارو، في الانتخابات نفسها، فاز مرشحوه بأغلبية مقاعد مجلسي النواب والشيوخ، كما فاز مرشحوه في انتخابات حكام المدن. تلك الأغلبية البرلمانية البولسوناروية ستكون بمثابة العظم في حلق الرئيس الجديد لويز إيناسيو لُولاَ دا سيلفا، وهو يبدأ ولايته الرئاسية، في بلد منقسم.
في اليوم الأول من العام الجديد 2023، أدى الرئيس الجديد القسم، وتسلم رسمياً مهامه في مراسم سلمية اتسمت بالبهجة والفرح، ومنقولة مباشرة على الهواء. قبل ذلك الحدث، كانت وسائل الإعلام الدولية تتحدث عن مخاوف من نشوب حرب أهلية في البرازيل، نتيجة عدم اعتراف الرئيس السابق بولسونارو بنتيجة الانتخابات. بولسونارو تغيب عمداً عن حضور مراسم التسليم، وغادر العاصمة برازيليا، قبل يومين من مراسم التسليم، قاصداً ولاية فلوريدا الأميركية. ما يميز الحدث البرازيلي عن الأميركي، هو أن قوات الشرطة البرازيلية المكلفة الحراسة تكفلت بتسيير الأمور أمام المهاجمين، وفتحت لهم أبواب القصر الرئاسي.
لدى انتهاء حفل تنصيب الرئيس الجديد بسلام، تنفس الجميع الصعداء. ولم يكن يخطر ببال أحد من الحاضرين، ما كان يدبر وراء أبواب مغلقة. يوم الأحد الماضي، أي بعد انقضاء أسبوع فقط، من بدء العهد الرئاسي الجديد، انقض آلاف من أنصار الرئيس السابق بولسونارو على مقرات مجلس النواب والقصر الرئاسي والمحكمة العليا، في هجوم يذكر بما حدث في مبنى الكابيتول، في واشنطن يوم 6 يناير (كانون الثاني) 2021، وبهدف إحداث أزمة دستورية، وهو التكتيك نفسه الذي استخدمه أنصار الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب، ولتحقيق الهدف نفسه.
الرئيس بولسونارو، من مقر إقامته في ولاية فلوريدا، أصدر بياناً يدين فيه ما حدث، ولم يدن الهدف منه. وبعدها بث شريطاً مسجلاً قصيراً، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، يكرر فيه مزاعم تزوير الانتخابات. إلا أنه عاد وسحب الشريط. وفي الوقت ذاته، ارتفعت أصوات في أميركا والبرازيل تطالب بطرده من فلوريدا ومحاكمته بتهم فساد. إدانات الشجب الدولية للحدث في برازيليا كانت واسعة وموحدة. اللافت للانتباه أن قوائم المنددين شملت حتى الرئيس الأميركي السابق ترمب، حليف بولسونارو.
ما حدث يوم الأحد الماضي في برازيليا، ليس حدثاً عارضاً، سيطويه الزمن ويرميه على رفوف النسيان، بل جاء ليؤكد المؤكد، وهو أن البرازيل لحقت بأميركا، ودخلت بعينين مفتوحتين نفق انقسام معتماً. أميركا ما زالت حبيسة ذلك النفق. والترمبيون، أنصار الرئيس ترمب، ما زالوا يقفون بالمرصاد متوعدين، وفي انتظار أن تحين فرصتهم ثانية، في الانتخابات الرئاسية المقبلة. ستيف بانون، المستشار الآيديولوجي للرئيس السابق ترمب، أعلن تأييده للتمرد في برازيليا. وهذا يعني أن خروج الرئيسين ترمب وبولسونارو من الحكم، أن اليمين المتطرف لن يرفع راية التسليم، ولن يغادر ساحة الحرب.
الرئيس الجديد لُولا، لدى عودته إلى الحكم، لن يكون في وضعية مشابهة لحكمه السابق، قبل تعرضه للاتهام بالفساد وتنحيته وإدانته قضائياً، وسجنه. التقارير الإعلامية الغربية تتفق على أن سنوات حكم الرئيس بولسونارو غيرت البرازيل بشكل كبير، وأن الفساد طال كل القطاعات، وعلى كافة المستويات، وبقيادة الرئيس بولسونارو وحاشيته المقربة. وأن محاولات الرئيس الجديد لُولا لتوحيد البرازيل لن تكون سهلة، في ظل التهديدات المتواصلة من قبل اليمين الشعبوي. وأن تحقيقه ما وعد به الناخبين ليس في المتناول، خصوصاً أن ولايته الجديدة تزامنت مع الظروف الاقتصادية الصعبة التي تواجهها البلاد، في ظروف مقرونة بضعف في النمو الاقتصادي، وارتفاع في أسعار الفائدة وصل إلى 13 في المائة. مضافاً إلى ذلك حرمانه من الأغلبية، في برلمان يسيطر عليه أنصار بولسونارو، ما يستلزم منه الدخول في عمليات تفاوض معقدة، إن أراد تمرير برنامجه الإصلاحي.
ما حدث في واشنطن أولاً، وفي برازيليا لاحقاً، كان بهدف خلق أزمة دستورية، قد تعصف بالعملية الديمقراطية. وهو، في جوهره، صراع بين يمين يزداد تطرفاً، ويسار ليبرالي. ولا يقتصر على الأميركتين، بل يطال أيضاً القارة الأوروبية، ويخلق مناخاً سياسياً انقسامياً شديد التوتر. وهو في سياق متسق مع ما حدث في إيطاليا مؤخراً، من وصول حزب يميني بصلات فاشية إلى الحكم. وقبله ما حدث في الانتخابات النيابية الفرنسية الأخيرة. ولا ننسى كذلك ما حدث في المجر وبولندا والنمسا، بل طال الأمر حتى مملكة السويد التي كانت تعد قلعة حصينة لليبراليين.