التراجم العربية بين الأسطورة والواقع

أخبار البلد-
نقد الروايات التاريخية يعرض من يخوض فيها لكثير من سوء الفهم خصوصا التي تتناول التراجم والسير، فهي غالبا مثالية تخلو من العيوب ومن العثرات، وفي غالبها كتبت بعد فترة طويلة من وفاة أصحابها، وفيها مبالغات لا توصف.

خذ هذا المثال، شخصية رابعة العدوية، أكثر شخصية أقحمت في حياتها الأقوال والقصص والمعجزات التي فاقت حتى معجزات الأنبياء، لم يتفق أحد على تاريخ ميلادها ولا على تاريخ وفاتها وأين دفنت، وبعض الروايات تقول بأنها كانت تعيش حياة لهو ومجون ثم تابت وزهدت وتحولت إلى "الحب الآلهي"، لكن روايات مريدها تقول بأنها عاشت طيلة حياتها متعبدة وناسكة.

المؤرخون والكتاب الذين عاصروا فترتها أو بعدها بقليل ذكروا أقولا وأبيات شعر قليلة على لسانها، فهي لم تؤلف كتبا ولا حتى كتابا واحدا ولا يوجد أي نص مكتوب لها، ومجموع ما قيل على لسانها، مؤكد أو مشكوك بنسبه إليها، لا يتجاوز 31 قولا.

وغالبية ما نسب إليها جاء في كتابات متأخرة جدا عن الفترة التي عاشت فيها (717م - 796م) تقريبا. وبعضها ليس لها وإنما لسيدات أخر عشن في فترتها وحملن اسم رابعة أيضا.

المتصوفة اعتبروها واحدة منهم رغم أن الفترة التي عاشت فيها لم يكن مصطلح التصوف قد ولد بعد، فهي تصنف زاهدة، كما أنها تتحدث عن "حب الله" ولم تذكر كلمة العشق التي أصبحت ملازمة للمتصوفة.

وزاد من غموض شخصية رابعة الفيلم العربي "رابعة العدوية" بطولة نبيلة عبيد ليزيد من حجم الفوضى حولها، فلهجة الفيلم لهجة بدوية مع خليط من اللهجة المصرية، مع أن رابعة "الأصلية" عاشت في مدينة البصرة بالعراق في عصر الدولة الأموية.

خذ أيضا، خولة بنت الأزور، فهي شخصية عاشت خلال فترة الخلفاء الراشدين، تم ذكرها في كتاب "فتوح الشام" المنسوب إلى الواقدي، حسب الرواية هي مقاتلة وشاعرة من قبيلة أسد وهي أخت الصحابي ضرار بن الأزور، تصور خولة كأشجع نساء عصرها، وتوفيت آخر عهد الخليفة عثمان بن عفان. لكن بعض المؤرخين يؤكدون أن كتاب "فتوح الشام" الذي يعتبر المصدر الأول والأوحد في استلهام بطولات خولة بنت الأزور قد ألف في فترة متأخرة جدا من الفترة التي عاصرتها خولة على يد مؤلف مجهول نسبه زورا للواقدي الذي لا يأخذ عنه كثيرون.

وفي بعض الدراسات البحثية ذكر ابن حجر 28 صحابية باسم خولة ولكنه لم يذكر مطلقا اسم بنت الأزور. كما ذكر ابن حجر ترجمة الصحابي ضرار بن الأزور وذكر ثلاثة من إخوته ولم يكن بينهم أي امرأة. وقد ذكر أبو الفرج الاصفهاني صاحب كتاب "الأغاني"، ست خولات، وليست بينهن خولة بنت الأزور، وكذلك، ابن قتيبة الدينوري صاحب كتاب "الشعر والشعراء"، وابن سلام الجمحي صاحب كتاب "طبقات فحول الشعراء".

لكن بعض المؤرخين يؤكدون أنها ليست شخصية خيالية بل هي شخصية واقعية لها بطولاتها وأعمالها، ويستندون إلى كتب تاريخ مثل كتاب "الأعلام" للزركلي، لكن الزركلي اعتمد على تاريخ "فتوح الشام" ويعتبر كتابه في التراجم حديث بالنسبة لكتب التراجم الأخرى. كما جاء ذكرها في عدة كتب تراجم منها "طرفة الأصحاب" وفي "نهاية الأرب" للقلقشندي وابن خلدون "الإكليل" وفي "معجم البلدان" و"معجم قبائل العرب".

لكن يفند البعض هذه الروايات بحكم أنها جاءت في كتب متأخرة اعتمدت على كتاب "فتوح الشام" للواقدي.

بعض النقاد يقولون بأن إنكار وجود خولة وبطولتها ينبع من جانب ذكوري، وهو نفس الأمر بالنسبة لشخصية رابعة حيث يقفون موقفا سلبيا من أي عمل بطولي أو متفرد للمرأة، وأن تاريخ النساء كتبه ذكور.

أنا شخصيا لا أصدق قصة قتال خولة بنت الأزور متخفية بلباس فارس ملثم ومرورها بكل شجاعة في معركة اليرموك من أمام القيادي العسكري الفذ خالد بن الوليد، دون أن يعرف أن هذا الفارس المغوار امرأة.

وقصة بحثها عن أخيها ضرار غير منطقية وفيها مبالغات لا يقبلها العقل، فالصحابي ضرار، حسب رواية ابن حجر، استشهد أثناء حروب الردة في عهد الخليفة أبي بكر الصديق، وهو يناقض ما ذكر حولها أنها كانت تبحث عن أخيها في حرب الروم في عهد الخليفة عمر بن الخطاب.

المتفق عليه بين أهل العلم أن الأخبار إنما تصح إذا صحت أسانيدها، بأن تكون متصلة من رواية الثقات العدول الضابطين لمروياتهم.

ثم انظر في كثير من التراجم والسير التي ذكرت دون أسانيد أو روايات متواترة متتابعة تجيء الواحدة بعد الآخرة ويشترك في روايتها أكثر من مصدر وسند.

أنا لست مؤرخا أو ناقداـ لكن بعض التراجم التي كتبت في فترة متأخرة تحتاج إلى إعادة تحقيق خصوصا التي كتبت منذ بدء الخلافة الأموية وحتى عام 202 الحالي.

وإذا كانت الأحداث التي لا زلنا نعيشها يتم تنقيحها وتشويهها فكيف بما مضى!!