القمامة بين الأنانية والنّحْنوية!

أخبار البلد-

للمرة الألْف أعود وأكتب عن القمامة

عذرا.. فلعل وعسى تحدث معجزة تغير الواقع الأليم.. لأن طَرْح النفايات المنزلية قرب الحاويات هو بمثابة قنبلة بيئية معدَّة للتفجير بسبب تفاعل مكوناتها التي تطلق غازات تلوِّث الأجواء فتنجم عنها أمطار حمْضية، فضلا عما تخلفه عصارتها من مركّبات كيمائية معقدة تمتصها التربة ملوثة بذلك نباتاتها ومزروعاتها..

فالقمامة الملقاة عشوائيا سواء حول الحاويات أو البيوت والدكاكين، كلها تشكل مكرهة صحية وبيئية، متسائلين: تُرى على من تقع مسؤولية هذه المَكْرَهة على الجهات المعنية أْم على المواطنين؟

على الإثنين طبعا، إذْ يجب توفير حاويات تتناسب وكمية النفايات، دون إهمال دور المواطنين في المحافظة على النظافة العامة وعدم إلقاء القمامة عشوائيا..

حتى لو توفرت كل الحاويات والأجهزة وكوادر النظافة على مدار الساعة، فلن نلمس الجانب الإيجابي لذلك إذا كان المواطن نفسه لا يطبّق فحوى الحديث الشريف: إماطة الأذى عن الطريق صدقة.. بل يفعل العكس تماما لكوْن البعض لا يأبهون بنظافة محيطهم الذي يحيط مباشرة ب (منازلهم أو دكاكينهم أو مزارعهم.. الخ).. محيط صغير قطره لا يتعدى الثلاثة أمتار.. لو اعتنى كل واحد منا بنظافة هذه الرقعة الصغيرة المحيطة به لأضحى كل شارع ودرب ومنطقة عنوانا للنظافة.. وهنا مربط الفرس.. والكرة الآن بملعب المواطن..

فالبعض لا يحلو له سوى حرق النفايات البلاستيكية وغيرها في الصباح الباكر فعلى الفور نستنشق النسيم «المُعِلْ» عند فتحنا النوافذ، فإن لم تصلنا مخلّفات القمامة الصلبة أو سوائلها المنسابة فحتما ستخترق نوافذنا وجدراننا وأجهزتنا التنفسية أكاسيدها السامة.. وكلها من الممنوعات التي تهز من قيمة ونوعية الحياة المعاشة التي لا تًقدر بثمن ولا يمكن أن تحققها الأنفاق أو الجسور ولا الأبراج ولا السيارات الفارهة والأزياء الباهظة ولا شوفة الحال الفاضية..

الحياة المعاشة المقصودة هي التي تتناسب نوعيتها تناسبا طرديا مع نسبة الالتزام الفعلي للمواطنين والمسؤولين، علما بان المسؤول هو مواطن أولا قبل ان يكون مسؤولا، والمواطن هو بدوره مسؤول قبل ان يصبح مسؤولا بموقعه..

فالمسؤولية الفاعلة تتحقق عبر الالتزام بالقوانين: 1- الطبيعية التي تفسر الظواهر والوقائع الفيزيائية والبيئية.. الخ، و2- القوانين المعيارية الممثلة لقواعد السلوك عبر تشريعات قانونية او حقوقية او أوامر اخلاقية، لتحقيق التحكم الاجتماعي من خلال قرار يضع وازعا يردع الفئات المخالفة للقوانين..ولكن بين تغييب مقصود لفهم القوانين الطبيعية، واستهتار واضح بالقوانين المعيارية، تغرق البلاد النامية بفوضى القمامة الافتراضية والواقعية!

باختصار شديد: الإلتزام يعني النجاة، فالأخطار البيئية قد تسارعت وتيرتها بعد أن اختل الميزان وكان الذي كان! وبدأ الإنسان يحصد نتيجة لامبالاته، لضعف واضح بالالتزام او غيابه نتيجة افتقار البعض لمنهجية سلوكية ضابطة على الصعد كافة.. فالانضباط والإتقان وجهان لعملة واحدة.

فعنصر الإتقان مثلا هو نتيجة حتمية لها الانضباط، كما ان الإتقان بحد ذاته هدف تربوي، يدعمه الحديث النبوي: «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه».. فلا يكفي الفرد أن يؤدي العمل صحيحاً بل لا بد أن يكون صحيحاً ومتقَناً، ليصير الإتقان جزءاً ثابتا من سلوكه الفعلي..

فصفة الإتقان وصف الله بها نفسَه لتنتقل إلى عباده (صُنْع الله الذي أتقن كل شيء)..

والإتقان في المفهوم الإسلامي ليس هدفاً سلوكياً فحسب أو ظاهرة حضارية ترتقي بالجنس البشري، بل هو هدف من أهداف الدين لأن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً لوجهه، وإخلاص العمل لا يكون إلا بإتقانه..

كما ان الانضباط الذاتي مِثْله مثل الفضيلة فهو ظاهرة حضارية تميز شخصا عن آخر أو مجموعة عن أخرى أو حتى شعبا عن آخر، وهذا الانضباط لا يمكن أن يتَأتى بين يوم وليلة فبقدر ما يولد أناس يتمتعون بقدر وافر من الانضباط، بقدر ما يحتاجون لأن يعيشوا في بيئة تشجع وتكافئ على هذا الانضباط وإلا سيتسرب تدريجيا من بين أيدينا ليصبح هباء منثورا..

فالمحافظة على البيئة تتطلب «الانضباط » من الجميع، وبخاصة الشباب اصحاب الطاقات الرافضة للمستحيل في قواميسهم الحياتية والعملية، ولكن هذا الشغف بأمسّ الحاجة إلى تقنين وترتيب وتنظيم لينأى بنفسه عن التسيّب وعدم الثبات بعد أن طغى المتغير على الثابت في عالمنا النامي، حتى لم يعد للثابت مكان، مزعزعا بذلك الركائز والبنيان..

ولهذا فإن أسباب التخلف في المجتمعات تعود لغياب خاصية الانضباط سلوكا وعملا ولهذا تنتشر الصفات المناقضة كالفوضى والتسيب وفقدان النظام واللامبالاة واختفاء الإحساس الجمْعي حول مستوى النظافة العامة وغيرها.. فالبعض يعتنون بنظافة كل ما هو خاص من بيت وحديقة مهمِلين خارج حدود خصوصيتهم، نتيجة تربية أُسَرية تمجّد الخاص وتهمل العام..

متخذة من المثل العامي أساسا ترتكز عليه في تربيتها للأجيال: برّاة سُكَّرَتي.. مَسْخَرَتي

يعني كل شيء يقع خارج حدود منزلي لا قيمة له!

وهذا قمة الأنانيةّ وابعد ما يكون عن النحنوية!!!.

hashem.nadia@gmail.com