ثقافة الاختلاف والمتفيهقون
أخبار البلد-
الاختلاف ظاهرة طبيعية ما دامت ضمن الأخلاق وآدابها، إذا كان القصد تبادل وجهات النظر ومن باب الإثراء الفكري واكتشاف الحقائق، فيقوم كل طرف بطرح أفكاره حول قضية ما وإن لم يقتنع أحدهما بما تحدث به الآخر، إلا أن الاختلاف وثقافته تملي عليهما احترام الرأي والرأي الآخر.
الحوارات العامة التي تعنى بالرأي العام وأحوال البلد يتم تداولها من قبل عدة أطراف، في الغالب لكل طرف موقف معلن مسبقا لا مجال للتراجع عنه على طريقة "لا تراجع لا استسلام"، والمغزى ليست المصلحة العامة بقدر ما إن يثبت كل طرف أنه صاحب الرؤى الثاقبة "والفهمان" الوحيد، وأن يخضع الطرف الآخر له ولو على مبدأ "خذوهم بالصوت"، وقد يستخدم كل مصطلحات التخوين والتجريم، وكأن الوطنية والرأي الصواب حصريا له ولمن يتوافق معه، ومن يخالفهم خارج عن الدين والوطنية.
هذه الاستنتاجات لا تندرج تحت أي من بنود ثقافة الاختلاف، تلك الثقافات التي تبنتها بعض الأمم واستطاعت جعل دولهم من الأفضل في الديمقراطية والتقدم وأسهمت في نهوض مجتمعاتها، وإنتاج قيادات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، حققت الازدهار والرخاء لمواطنيها، لأن الاختلاف كان لأجل الأوطان وليس لإثبات الذات وجنون العظمة أو جنون الألقاب والبحث عن المناصب والمكاسب.
الأردنيون في السابق كانوا يختلفون فيما بينهم كما حدثنا التاريخ عنهم، لكن اختلافهم ضمن الأخلاق العامة وضوابطها، وليس بهدف وأْدِ آلاراء الشخصية لمن يختلفون معهم ، لأن معنى ذلك لا يمت لاحترام الرأي، بل اعتبروه دعوة صريحة إلى نشر الاستبداد داخل المجتمعات وتجسيد ظاهرة الاختلاف العدواني.
مما لا شك فيه قد يكون الخلاف لدى البعض وليد رغبات نفسية لتحقيق غرض ذاتي أو شخصي، وقد برز ذلك من خلال شخصيات يعرفها الشارع الأردني استطاعت تحقيق مكاسبها من خلال تأجيج الخلافات في الرأي العام، فتحولوا من مسرب إلى آخر، مثلما قد يكون الدافع للخلاف رغبة التظاهر بالفهم أو العلم أو الفقه، وهذا النوع من الخلاف مذموم بكل أشكاله ومختلف صوره.
هنالك آيات وأحاديث نبوية شريفة تعلمنا الآداب في الحوار وثقافة الاختلاف وطرح القضايا العامة، ومن النصوص الصريحة الداعية إلى التمسك بالحوار وآدابه قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل: 125]، وحينما بعث الله سيدنا موسى وهارون إلى فرعون في قوله: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44]، فعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن من أحبكم إليَّ وأقربكم من مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا، وإن أبغضكم إليَّ وأبعدكم مني مجلساً يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون، قالوا: يا رسول الله قد علمنا الثرثارون والمتشدقون، فما المتفيهقون؟ قال: المتكبرون، وقال الترمذي عقب رواية الحديث: والمتشدق الذي يتطاول على الناس في الكلام ويبذو عليهم.
وكذلك المتشدق الذي يلوي شدقه للتفصح، ويتوسع في منطقة من غير احتياط وتحرز، والتشدق من شدق الفم، أي جانبه.. فالمتشدق هو المتكلم بملء شدقه تفاصحاً وتعظيماً لكلامه.
والمتفيهق: أصله من الفهق وهو الامتلاء، وهو بمعنى المتشدق لأنه الذي يملأ فمه بالكلام ويتوسع فيه، إظهاراً لفصاحته وفضله، واستعلاء على غيره.
ما نمر به اليوم ونعيشه من اختلافات ينطبق في كثيرها على ما أوردناه، ولا بد من التوقف عندها، فهل نحن نختلف اختلاف الناقد أم اختلاف الحاقد؟، فالخاسر بالنهاية الوطن ونحن جميعا وسنبقى نلتف حول أنفسنا بنفس الدائرة ولن نخرج منها لأننا نضع الخلافات ونصنعها ولا نضع الحلول.