الوزير كلّاس يكتب من لبنان : نودّع عصام الموسى بزخم التأليف والتأريخ

أخبار البلد ــ أطبق الباحث العلاَمة البروفسور عصام الموسى عيْنَيهِ على الدنيا، شَغوفاً بالأردنَّ وطناً وقيماً وتراثاً، ورقدَ على رجاء القيامة، مُكفَّناً بالشهامةِ الأردنية، مَلْفوفاً بمؤلّفاتٍ ثَرَّة، في الإعلام والفكر والتواصل، تاركاً صورته في قلوب زملائه وطلابه وقادريه

كلُّ العزاءات لأهله والمجتمع الأكاديمي الأردني، وأصلّي أن يكون ذِكره مُؤَبَّداً، واستذكار قامة كـ عصام الموسى لا بُد وأن يكون الحديث عن إبداعاته البحثيّة، وهو الباحث في تاريخِ الاتصالِ والإعلام العربي، الذي أرّخ حضارةَ التواصل بِحِرفيَّةِ أكاديمية وذائقةٍ فكرية ،وهُنا أستعيد بحثاً قدَّمته عن بُعد في مؤتمرِ الجامعة الأردنية في أيلول ٢٠٢١، كان حول آخر إصداراته

يُتَوِّجُ الدكتور عصام سليمان الموسى، أستاذ الإعلام في جامعَتَيْ اليرموك وفيلادلفيا، مجموعاتِه الكتابِيَّة الثريَّةَ والمُوَزَّعة بفنِّيّةٍ أسلوبيةٍ راقيةٍ، ووِفقَ تَنَوُّعٍ مايزٍ للنتاجاتِ التي تَرَكَتْ تَحَوُّلاتٍ دالَّةً في الحركةِ الفكريَّةِ الأردنية الحديثة، بأَثَرٍ أكاديميٍ أصيلٍ عَنْوَنَهُ بِحِرَفيَّةٍ علميةٍ واحترافية إعلامِيَّةٍ : ( تاريخ الاتصال والإعلام العربي 150 ق.م -الحاضر الرقمي) ، وهو الكتابُ الذي أَسَّسَ لمرحلةٍ جديدةٍ من الفكرِ التواصليِّ الرقميِّ المبني على مُرتكزاتٍ معرفية واسعة منذُ بدايات المعرفة الإنسانيةِ وبدائياتِ التواصل، انتهاءً إلى ما واكبَ حضارةَ الاتصال وتطوّراتِ تحديثاتها على مدىً تاريخيٍّ كثير الإيغال في {الزَمَنِ الحضاري} ، الذي انطلق من عصور الاتصال الأولى ( 800 ق.م ) وحتى تَكَوُّن صورة المعلوماتية وشيوع التواصل الرقمي ، الذي بَدَّلَ من حياة الشعوب في مسيراتها التاريخية ومساراتها التَطَوُّرِيَّة . ويحملُ هذا الكتاب في فصوله الثلاثة عشر، والمنتظِمَة صفحاته في 364 صفحة مُدَّعمة بمصادر ومراجع عربية 56 وأجنبية63 ، رؤيةً جديدة لتاريخِ الحضارة العربية بالارتكاز على منظور الاتصال ونُشُوءِ فكرة التبادل المعرفي على مختلف المستويات النقيّشة والكتابية واللَّفظِيَّةِ

و يُؤسِّسُ هذا النوع من البحوث الأكاديمية، المازِجِ بينَ الصحافة وتاريخ الفكر والادب وعلم الحضارات، لِنَمَطٍ جديدٍ من الدراساتِ الصَلْبَةِ المَبْنيةِ على رُؤيةٍ مَنهجيةٍ هادفةٍ لتقديمِ إضافاتٍ جديدة على التراث العلمي العربي، في فنون التواصل وعلوم التاريخ وتركيز تطلُّعاتٍ مُستقبليَّةٍ، كما تسعى الى تَقعيدِ أُسُسٍ حديثةٍ لِفَهْمِ أسراريَّةِ الفكر العربي، بتراكماته التراثية والتَغَيُّراتِ التي فرضتها قواعد التماشي مع التطوّر الحضاري، حيثُ تحوَّلتْ المجتمعاتُ البشرية المتُراميةُ التوزُّعاتِ جغرافيًا ، إلى مُجتمعٍ كبير تتَداخَلُ فيه جماعاتٌ، تتفاعلُ حيناً تتنافرُ مرّاتٍ كَثيراتٍ، مع حفاظ كلٍّ منها على خصوصياتها كَنُوَاةٍ و مُرتَكَزٍ حضور، رُغْمَ التداخلات والتأثيراتِ والتأثُراتِ التي تتشابكُ بواسطتها مع خصوصيات وفرادات مجتمعات أخرى

مع هذا الكتاب المَرجَعِيّ، يخلصُ القارئ الى مُسَلَّمَةٍ ثابتة، هي أنه لَيْسَ بالإمكان مُقاربَة التاريخ الحضاري للشعوب دون الانطلاق من إشارات الحضارات الأولى المايزِةِ لعلاماتها الفارقة، مُستنداً في بحوثه المركَّزة التي انتظامها محطَّاتٍ تاريخية، بدءاً من الرسوم الاولى التي ولَّدت ثورات اتصال معرفية، مُفصِّلاً عصورَ الاتصال الخمسة الاولى 8000 ق.م . وصولا الى الحاضر الرقمي ، مع ما تتطلَّبه البحث حول مركزية الاتصال في الحضارة الانسانية ، وانعكاساتها الإيجابية على المجتمعات والتطورات البشرية

واللّافِتُ في مضامين هذا الكتاب المرجعي، واعتقد انه أوّل مُؤلَّفٍ علمي يتناول تطورّات بيئتنا الحضارية، من منظور اتصالي، هو تناوله لمظاهر الاتصال في حضارتَيْ ( ما بين النَهريَن ) و ( ووادي النيل )، بأسلوبٍ تَعَقُّبيٍّ ورؤيةٍ عُمقيَّةٍ وموضوعية. فضلاً عَمَّا ضَمَّنهُ الدكتور عصام الموسى من بحثٍ مُفيضٍ ومُفيدٍ يتعلق بثورة الأبجدية الالفبائية في بلاد الشام ، مع تعريفٍ لمُحَدِّداتِ الأبجديات الفينيقية والآرامية والعربية القديمة ، بما يُمَهِّدُ للكلام التفصيلي عن ثورة الاتصال الأولى وعلاقتها بالحضارات العبرية والفارسية واليونانية والرومانية بين 1500 ق.م و 150 ق.م. وتأسيساً على هذا الذُخْرِ من المعلومات التاريخية والأسانيد الأثرية ، وظَّفَ البَاحِثُ ثقافته الأنسكلوبيدية الغنيَّة المدارك والنَوعيَّة المعارف، للإنتقال الى دورِ العرب الأنباطِ في ثورة الاتصال الاولى بين ( 150 ق. م و 106 م ، و مُتعرِّضاً للحضارة الورقية في العصر العباسي واثرها في ترخيم النشاط الادبي الشعري والروائي والعلمي ، وصولاً الى انعكاسات منع إدخال المطبعة ، وحالة الجمود الفكري والوقفية الحضارية بين (1439 ق.م و 1916ق.م )

هذه التمهيداتُ المازجة بين عِلمَيْ التاريخ والحضارة الإنسانية ، أَفضَتْ الى نظريةٍ ( تعميق الشفاهية ) التي أَبْدَعَ الدكتور الموسى بتفصيلها وشرح مظاهرها وتأثيراتها على التطوّر الاتصالي ، وفتحَ الأذهان للتفاعل معها من حيث هي المدخل الى بناء علاقات تواصل وتلاقٍ على مستويات الحوارات الدينية والحضارية ، بما يُوَفِّرُ إمكاناتٍ جيِّدة للتواصل الثقافي و تلاقُحِ الحضارات. ولعلَّ ما أستَشِفُّهُ من أفكارِ الدكتور عصام هو سَعيُهُ للإنتقال من الكلام عن مفهوم (تعايش الحضارات) الى ( نظرية تكامل الثقافات )، حيثُ يَعتَبرُ ان الاتصال الجيِّد يُمهِّدُ الى التواصل المُحترم والمفيد لكل الأطياف المُشاركة في عملية ( التثاقف المفتوح )، وهذه أفضل وأقصرُ وأسلَمُ الدروب الى صناعة السلام بين الشعوب، على قاعدة الإحترام المجتمعي والتاريخي وحفظ كرامة الكيانات الحُرَّة والمستقلّة

و زُبدَةُ الكلام في هذا الأثر المعرفي الفريد، هو التوقف ملياً عندَ الصورة الرقمية وأثرها على الاعلام العربي بكلِّ فنونه و توجُّهاته، وتَفْنيدِ التحديَّاتِ التي اعترضته في بداية تعامله مع الاعلام الرقمي منذ 1990 ، الى الزمن الحَاضِر الذي يترك إِرهاصَاتِهِ على الساحة الاعلامية العربية بشكلٍ واسع و تركيزٍ عميق

(تاريخ الاتصال والاعلام العربي) ، كِتابٌ إستثنائيُ الطرح والمعالجة والإستخلاص، يُضاف الى نتاجات الدكتور عصام سليمان الموسى الأربعة عشر والموزعة بالعربية والانكليزية بين الاعلام والحضارة والرواية والقصص القصيرة، مما يَدُلُّ الى الذُخْرِ الثقافي والفكري والذائقة الأدبية التي تربَّى عليها في بيته الوالدي، حيث كان للأستاذ سليمان الموسى جولاتٌ تأريخية وفكرية، تشهد لها المكتبة العربية

والدعوة موصولة الى كليات ومعاهد الاعلام العربية لاعتماد هذا الكتاب مرجعاً علمياً يُستنَدُ اليه في البحوث الحضارية والتواصلية ، واستراتيجيات بناء الجسور الحضارية والثقافية بين الشعوب، تَوصُّلاً الى التوفيق بين الإعلام الكلاسيكي والتواصل الرقمي الذي سيكونُ من أبرزِ التحوُّلاتِ في حضارة الألفية الثالثة

رحمك الله الدكتور عصام الموسى الذي سيبقى حاضراً في عقولنا ومدارسنا وجامعاتنا وفي مجالس العلم

*الدكتور جورج كلّاس أستاذ الإعلام في الجامعة اللبنانية/ وزير الشباب في حكومة تصريف الأعمال