البراغماتية الإسلامية !

ُتعرف البراغماتية بمعناها العام المتفق عليه ، أنها وسيلة نفعية تتبع المصلحة ، ولا علاقة لها بالايدولوجياأو العقائد الثابتة عند البعض ، فالمبادىء عند الايدولوجيين مرتبطة بتحقيق المصلحة شرط ارتباطها بالمبدأ ، اي تقديم المبدأ على المصلحة ، فيما ترتبط البراغماتية بمباديء الفائدة والمكسب و المصالح ولا علاقة لها بالمبادىء ، اي تقديم المصلحة على المبدأ ، فالتمسك بالمعتقدات أو تبرير التمسك بها لا بد أن يأخذ في الاعتبار عند البراغماتيين النتائج العملية المترتبة على الإيمان بهذه المعتقدات ,‏ فتُحرر أصحابها من كل إيديولوجيا, أو موقف مسبق, ويتصرفون وفق اللحظة أو الظرف .
نفهم انه على الإسلام السياسي التوصل إلى حلول وسط ما بين إحترام منظومة فقهية محددة ، وبين متطلبات التطورات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية . فاختارت جماعة الإخوان المسلمين وهي أكبر تلك القوى وأوسعها إنتشارا ذلك التمييز ، وهم يعلمون أن هذا الأمر يقتضي بعض التنازلات، لكن السلفيين أيظا، الذين كان يُنظر إليهم من زاوية التصلب العقائدي ، أقدموا على إجراء بعض الملاءمة مع المبادئ ، وقد تتبدل أفكار حتى حركة " حماس " أو الجهاد الأسلامي الى منهج " براغماتي " ويبدو أنهم قطعوا شوطا لا بأس به نحو براغماتية قد تدفعهما للتصالح مع اسرائيل وفتح قنوات إتصال منفردة أو مجتمعة مع بقية القوى الفلسطينية ترعاه قطر أو غيرها على ما يبدو ، ونفهم ايظا ، أن الإسلاميين واعين جدا بأنه ليس بإمكانهم تدبير السلطة في سياق منطق مواجهة مع الغرب أو تحرير أرض في ظل المعادلة الجارية ، وظهرت جميع مواقفهم وخاصة بعد الربيع العربي ، أنهم يحترمون التعهدات الدولية التي اتخذتها الحكومات السابقة، سوأ أكانت الاتفاقيات والمعاهدات مع اسرائيل او المعاهدات بين الدول وأنظمة الحكم البائدة ، وإحترامها للنظام الاقتصادي الحر ، فالتوجه العام هو التصرف بشكل يلغي مايسمى " صراع الحضارات " من وجهة نظر تلك الجماعات ، والتصرف على أساس تبادل المصالح والمنفعة .
الحركة الأسلامية التي كانت تعلن تمسكها بشدة بمباديء الإسلام القائمة على إقامة حكم الدين في الدولة ، و خدمة الناس ومنع الفتن ، وتحرير الأرض ،ونشر مباديء العدالة ، وتحمل المسئولية الكاملة حتى تحت اسواط التعذيب والاغتيالات والسجن والملاحقات ، قفزت وبشكل سريع وبخطى ثابتة نحو مربع أخر قد لاتجده مترابطا فكريا أو " عقائديا " مع ما وصلت اليه الحال بعد ما يسمى بالربيع العربي ، فأتجهت بعض تلك القوى الاسلامية الى مغازلة الغرب الأمريكي ، وتقديم ولاءات الطاعة بسيل من التنازلات " العقائدية " في سبيل انتقالها الى مرحلة الإسلام السياسي أو الديمقراطي الذي يقبل بالتعايش حتى مع المحتل من أرضه ، واحترام كافة المعاهدات والتحالفات التي كانت الى ما قبل عام تلقى سخط و " تكفير " تلك الجماعات ، وادارت حوارات مع الإدارة الأمريكية مستغلة ما تعيشه البلاد من أزمات وحراك سياسي في الشارع العربي ، فأعلنت بعض القوى الإسلامية إيمانها بالديمقراطية والتعددية والدولة المدنية وحرية المعتنق والفكر وحقوق الأقليات ، وإيمانها بالسلام والتسامح ، وطي صفحات الصراع بمجملها ، وهذا ما حدث مع الجماعة الأسلامية في كل من مصر وتونس والاردن وليبيا وسوريا ، فكانت نتائج تلك الحوارات و " الاتفاقيات " بمثابة تفكيك للفكر الأصولي المتزمت ونقله الى مربعات براغماتية ليست سوى " تنازلات سياسية " لتحقيق حلم الحركات الإسلامية بالوصول الى الحكم والمشاركة به ، ولكن برضا امريكي مشروط بعدة مبادىء ، تتعلق بأمن اسرائيل واحترام اتفاقيات السلام والاتفاقيات الدولية السابقة مع الدول التي شهدت تغييرا في انظمتها ، وكذلك وهو الأهم الإقرار بالمصالح الأمريكية في المنطقة على مستوى جميع الدول .
قد يبدو كل ذلك مفهوما ومقبولا لدى قوى اسلامية عربية بعيدة كل البعد عن الصراع العربي – الاسرائيلي ، ولا تتعرض بلادها لمشاريع ومؤامرات تستهدف كياناتها ودولها وشعوبها كما هي الأردن ، ولا بد للحركة الأسلامية في الاردن وحتى لحركة حماس التي قد تنزع البندقية عن كتفها وتتجه للعمل السياسي الخالص تحت مسمى إخوان فلسطين أن تعي وتحترم تلك الخصوصية ، ولا تسير وفق التجربة التونسية أو المصرية والسورية ، لأن الرؤية الأمريكية للإصلاح في الأردن ينطلق من قواعد تتعلق بضرورة منح الفلسطينيين في الأردن حقوقهم السياسية على مستويات العمل بمختلف الأجهزة الامنية والمدنية ، ومنحهم مقاعد برلمانية تبعا للكثافة السكانية ، و " الخلاص " من حملة البطاقات الخضراء باعتبارهم عبئا على الدولة اليهودية من خلال الإسراع بتجنيسهم واعتبارهم مواطنين اردنيين يفقدون الحق في العودة مباشرة تمهيدا لجعل الاردن وطننا بديلا ! فكان أن التزمت الحركة الأسلامية بالعمل على تنفيذ ما اُكل اليها من مهام ، فعارضت اي تعديل دستوري يحفظ حق الفلسطينيين في العودة الى فلسطين( رفض قوننة قرار فك الأرتباط مع فلسطين ) ، ولم تبدي أي معارضة لما يجري الأن من عمليات تجنيس لمليون مواطن فلسطيني من حملة البطاقات الخضراء ، كما أنها لم تعد تطالب حتى برحيل "حكومة التجنيس" التي تنفذ تلك الالتزامات ، وأخر دعواتها هنا هو الإبقاء على مجلس النواب الحالي بحجة منحه الفرصة لإستكمال التعديلات الدستورية المطلوبة في وقت ينادي الناس عامة وحتى اعضاء الحركة من غير القيادة بحل مجلس النواب منذ لحظة منح حكومة الرفاعي 111 صوتا ، وللخروقات والتجاوزات التي تمر دون رقابة أو تشريع من قبل المجلس .
يبدو أن هناك ميلادا "شرعيا" لنوع جديد من البراغماتية ، لايشبه ذلك الذي برع فيه وصاغه رواد ومنظروا مدرسة البراغماتية "وليم جيمس و جان ديوي " ، إنها "براغماتية إسلامية " نرحب بها بالقدر الذي تحترم فيه خصوصية الوضع في الاردن والحفاظ على مكاسب الشعب الأردني ، وعدم مواجهة ابناء العشائر في فرض معادلات سياسية مرفوضة جملة وتفصيلا والتي ينادي البعض بها تحت مسميات الحقوق السياسية لابناء فلسطين في الأردن، وهي عطايا مجانية تقدم لإسرائيل دون مقابل ، وتثير الفتن والمحن بين ابناء الشعب ، او تلك التي تنادي بالملكية الدستورية قبل ثبات ونجاح تجربة العمل السياسي للنُخب الوطنية والشعبية عبر الصناديق الانتخابية ، ومدى نجاح تلك النُخب بتطبيق العدالة واحترام الرأي والحريات الشخصية، والبعد عن الاحتكار والتفرد في الحكم ...
فهل يعرف الاسلاميون معنى استخدام البراغماتية في الحكم !! وهل ستحترم الحركة الأسلامية بشقّيها الفلسطيني والأردني تلك الخصوصية المتعلقة بالمواطنين الاردنيين ، أم تسير وفق المنهج والرؤية الأمريكية للإصلاح بهدف بلوغ حلمها بالمشاركة بالحكم ،فيما تؤسس الى فتنة ونزاع داخلي لا تُعرف عواقبه !!