خاص إنكلترا "البيضاء" في ذمّة التاريخ؟

أخبار البلد-

 
فجأة، وبلا استئذان، انفجرت قنبلة اسمها "إحصاء إنكلترا وويلز لعام 2021" أواخر الشهر الماضي، وأدرك المسيحيون أتباع الكنيسة الأنغليكانية البريطانية الرسمية، أنهم باتوا أقلية في بلادهم. تضاعف فيها عدد الملحدين، وزادت جموع المؤمنين من المسلمين والبوذيين والهندوس، مرات عدة عما كانت عليه حين أجري الإحصاء السابق في 2011

كثيرة وخطيرة هي التساؤلات التي يثيرها هذا الإحصاء. ولن تكون مؤسسات أساسية وتشريعات وفلسفات ومواقف وسياسات، في مأمن من هذا الزلزال. وتأتي العنصرية في صدارة هذه المسائل التي يسلّط الإحصاء الضوء عليها، علماً أنه جاء في توقيت غير موات بسبب العنصرية نفسها!

لا تأتي المتاعب فُرادى في بريطانيا التي تعيش اضطرابات حادة على أكثر من صعيد، ولا سيما منذ استفتاء 2016 حول خروجها من الاتحاد الأوروبي (بريكست). فجلبة افتضاح أمر عنصرية الليدي سوزان هاسي، الأم الروحية لولي العهد الأمير وليام والوصيفة السابقة للملكة إليزابيث ولكاميلا عقيلة الملك، لم تهدأ بعد. كما أن الضجيج حول وثائقي نيتفليكس "هاري وميغان"، آخذ بالتصاعد

في خضم هذا الصخب، كانت نتائج الإحصاء هي آخر ما تحتاجه الحكومة التي يرأسها ريشي سوناك، الهندوسي، الهندي الأصل، للمرة الأولى في تاريخ بريطانيا. والعادة أن يكون رئيس الوزراء أنغليكانياً، لأنه عملياً هو من يعيّن رئيس أساقفة الكنيسة الرسمية ومطارنتها. ليس من الواضح حتى الآن كيف ستلتف الحكومة على هذا الأمر، لكن ثمة أصوات تتساءل وتبدي استغرابها سلفاً

ولعل لهذا "التهاون" بما يتصل بموقع الكنيسة الرسمية، له ما يبرره، كما تدل نتائج الإحصاء. بات المسيحيون (27.5 مليون نسمة) يمثلون 46 في المئة من السكان للمرة الأولى في تاريخ إنكلترا وويلز، أي أقل من نسبتهم في الإحصاء السابق في عام 2011 بـ13 في المئة. ومع أن المسيحيين إجمالاً لا يزالون المكوّن الأكبر في إنكلترا وويلز، فمعظمهم لا يتبعون الكنيسة الرسمية التي لا تزيد نسبة أعضائها في البلدين على 15 في المئة، بعدما كانت قرابة 40 في المئة من السكان في 1983. أما المسلمون الذين يشكلون ثالث أكبر مجموعة، بعد المسيحيين وغير المؤمنين، فارتفعت نسبتهم من 4.9 في المئة (2.7 مليون نسمة) قبل نحو عشر سنوات إلى 6.5 في المئة (3.9 ملايين نسمة)

وتبدلت حظوظ الكثير من الجماعات الدينية الصغيرة، بعدما كانت حفنة من الأشخاص، مثل الشامانية والوثنية بأنواعها، والعلوية، التي أصبح عدد أتباعها، الأتراك في الغالب، 26 ألف نسمة ويأتون في المرتبة الثانية ضمن هذه الفئات بعد الوثنيين

والتغير في مدى رواج المذاهب الدينية يتناسب مع التبدلات العميقة في حجوم المجتمعات الإثنية المختلفة. ففي برمنغهام، ثاني أكبر مدن بريطانيا الواقعة في وسط إنكلترا، حيث ألقى الوزير المحافظ السابق إينوك باول عام 1968 كلمته الشهيرة عن "أنهار الدماء" التي صارت ركناً أساسياً في الخطاب العنصري المعادي للأجانب، صارت نسبة أبناء البلاد من ذوي الأصول الأجنبية، 51 في المئة. أما ليستر، المدينة الأخرى في وسط إنكلترا، فبلغت نسبة أبنائها من ذوي البشرة السمراء 59 في المئة

في هذا السياق، صار الناطقون باللغة العربية في المركز السادس من حيث العدد بين أصحاب اللغات الأجنبية، متقدمة على الإسبانية والفرنسية والصينية. إلا أن أوسع اللغات انتشاراً بعد الإنكليزية والغالية (اسكتلندا وأيرلندا) والويلزية، تأتي البولندية (612 ألف نسمة) ثم الرومانية (291 ألف نسمة)

ومن النتائج البالغة الأهمية لهذا الإحصاء الكشف عن أن أسرع السكان الأجانب تزايداً في إنكلترا وويلز هم الرومانيون الذين يحلون في المرتبة الرابعة من حيث العدد، بعد الهنود والبولنديين، ثم الباكستانيين

يضع هذا "التضخم" في أعداد الرومانيين والبولنديين إشارة استفهام كبيرة أمام نجاح سياسات حزب المحافظين الحاكم منذ 2010، الرامية إلى تقليص الهجرة و"السيطرة على البلاد" وحدودها، وهو الهدف المزعوم لمشروع أنصار خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (البريكست). فالهجرة مستمرة وبوتيرة عالية رغم كل التطبيل والتزمير الذي قام به المحافظون، ومتطرفون آخرون يقفون إلى يمينهم، وصار أبناء الأقليات العرقية يشكلون حالياً 18 في المئة من سكان إنكلترا وويلز. فما هي جدوى المجموعات العنصرية التي هاجمت وتهاجم "الغرباء" والآسيويين والسود، إذا كانت أعداد هؤلاء ما فتئت تتزايد؟

تشدق العنصريون بالعداء للسامية في ثلاثينات القرن العشرين. ورغم بقاء هذه النزعة آفة حقيقية، وليست مفبركة دائماً، فقد بات الإسلام في السنوات الأخيرة هو العدو الأكبر، وأحياناً الأوحد، لأحزاب من اليمين المتطرف

إلا أن التساؤلات الأهم تعود إلى الجوانب المتعلقة بالكنيسة. فهل ينبغي أن تبقى الأنغليكانية هي المذهب الرسمي للدولة، والأساس الذي يرتكز عليه نظامها السياسي؟ أنهى رئيس الوزراء الأسبق غوردون براون مساهمة النواب في تعيين المطارنة. لكن لا تزال جلسات البرلمان تبدأ بالصلاة الأنغليكانية الفريدة إلى حد ما، وليس بصلاة مذهب مسيحي أو دين آخر، كما يرأس الكنيسة الرسمية الملك نفسه

وفي العام المقبل سيُقام حفل كبير لتنصيبه من قبل كبير أساقفة الكنيسة الأنغليكانية، التي تتمتع بصلاحيات واسعة تفوق الأديان الأخرى بما يخص مدارس الدولة وبمكانة مميزة في الاحتفالات الوطنية الكبيرة. ويحتل كبار قادتها الحاليين والسابقين أيضاً عدداً من مقاعد مجلس اللوردات دائماً

وتملك الكنيسة الأنغليكانية عدداً هائلاً من العقارات الثمينة، حتى أن نصف الأبينة التاريخية النفيسة المصنّفة من الدرجة الأولى (يمنع التصرف بأي شيء يخصها من دون إذن رسمي من الدولة) في البلاد هي كنائس ترقى إلى القرون الوسطى. ولها في كل مدينة وبلدة وقرية كنيسة أو أكثر، وكاتدرائيات في المدن. والكثير من دور العبادة هذه يبقى فارغاً تقريباً، كما تدل نتائج الإحصاء، حتى في الأعياد!

فما السبيل إلى تقليص دور الكنيسة الأنغليكانية بما يتناسب مع عدد أعضائها الآخذ بالتضاؤل؟ ثمة اقترحات لا تبدو مجدية، في طليعتها تجريدها من مكانتها التي أرسيت أُسسها منذ أربعة قرون، وهذا سيستغرق زمناً طويلاً إذا كان ممكناً. أما اشتراكها في أداء بعض مهامها الحالية مع مذاهب وأديان ذات حضور مناسب في إنكلترا وويلز، فسيكون حلاً توفيقياً لا يلغي هيمنتها على شعب تمثل أقلية فيه. كما أن تقاسم الأدوار لن يكون سهلاً، لا سيما أن ثمة خلافات بين أبناء المجتمعات الدينية تبلغ أحياناً درجة الصدام المباشر، كما حصل أخيراً بين الهندوس والمسلمين في ليستر

سيستغرق العثور على حل بعض الوقت. الإحصاء الجديد فتح "صندوق باندورا" على مصراعيه، وسيكون المعنيون محظوظين إذا استطاعوا إغلاقه من خلال تفكيك بعض عقد الحاضر والماضي الشائكة