ياسر عرفات.. القائد الذي رحل ولم يمت

أخبار البلد ــ صادف يوم الجمعة الماضي 11 / 11 / 2020 الذكرى الـ 18 لرحيل الشهيد القائد الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات أبو عمار حيث تشير كل الوقائع على الأرض إلى أن مرضه الخطير الذي أصابه في آخر أيام حياته وأدى إلى وفاته كان بسبب تعرضه لسم مجهول وصل إليه بطريقة لم تكشف بعد وان وفاته لم تكن طبيعية وهنالك اكثر من دليل علمي على أنّه ذهب ضحية اغتيال وإرهاب دولة منظم وهي إسرائيل التي كانت معنية بالتخلص منه.

ثمانية عشر عام مرت أزاح فيها الموت عرفات القائد عن شعبه واهله ولم يغيب فيهم ذاكرة ولا ذكرى وكأنه يعيش بينهم الفدائي الثائر والعسكري المناضل والسياسي الحذق والقائد الرمز والرئيس الحنون والعالم المجتهد والمؤرخ المتمكن والرمز القدوة والدبلوماسي البارع والخبير الضليع بكل الأحداث التاريخية والوقائع الوطنية والمعارف الإنسانية.

نذكره جيدا يوم خرج في زمن الهزيمة والرتابة والملل وفجر فتح الأمل والحلم والعمل والانتصار أعاد تشكيل الهوية الفلسطينية ووضع فلسطين على خارطة العالم ونفض عنها غبار الهزيمة والانكسار ودب فيهم الأمل بالانتصار بعدما خاض غمار المعركة السياسية بجدارة فلم يساوم ولم يفرط ولم يتنازل لم يقبل الدونية يوما حيث حارب العالم كله من أجل القرار الوطني الفلسطيني المستقل.

ياسر عرفات صاحب شعار إما الشهادة أو النصر الذي قاد مسيرة النضال الفلسطيني وتعامل بحنكة وقوة مع أقصى الظروف والتوازنات والمحاور المحلية والإقليمية والدولية وأوصل الصوت الفلسطيني إلى كل إرجاء العالم حيث أصبحت القضية الفلسطينية حاضرة في الأمم المتحدة وفي كافة المؤتمرات العربية والدولية حتى في زمن اتهام واشنطن لمنظمة التحرير بالإرهاب ذهب أبو عمار والقي خطاباً في الجمعية العامة عام 1974 وقال في كلمته الشهيرة (جئتكم بغصن الزيتون بيد والبندقية باليد الأخرى ).

عرفات كان قائدا استثنائيا ورمزا للوحدة الفلسطينية صائغ الكينونة السياسية الفلسطينية، الربّان الماهر المغامر الجامح الذي قاد سفينة الثورة في أعتى العواصف وكان، بجدارة وحقّ أبَ الوطنية الفلسطينية وحادي ثورتها المعاصرة التي قدح زنادها مع معشر المؤسسين الروّاد من الشهداء وأصحاب السير المضيئة كوفيته معادلاً موضوعياً لخريطة فلسطين وكنيته اسماً من أسمائها.

بكل معاني الأمانة والعزيمة والاقتدار استطاع عرفات تجميع الكل الفلسطيني المشتت تحت راية الوطنية التي تجاوزت عقد الأيديولوجيات واختلاف الفصائل وسطوة العشائرية والجهوية حيث لم يعرف يوما الضعف ولا المساومة ولا الخوف ولا المجاملة ولا الاستكانة ومنه استلهم كثير من أحرار العالم وثواره إرادة الصبر والصمود والمقاومة والإصرار على النضال حتى وإن كانت موازين القوى العسكرية مختلة وغير متساوية وقد لفت انظار العالم في حياته بمواقفه وشجاعته وما زالت قضية وفاته تشغل العالم وتثير غضب الشعب الفلسطيني الذي إلى الآن للأسف لم يسمع موقفاً أو تصريحاً رسمياً حول مرتكبي جريمة اغتياله والمتعاونين معهم وكيف أوصلوا السم إليه حيث مات على نحو تراجيدي.

ابو عمار الشهيد كان وسيقى أول الرصاص وقبضة الدم وروح الثورة في حركة تحرر وطني مقاومة فرضت على العالم الاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره والعودة إلى وطنه حين تمسك رحمه الله بالكفاح المسلح نهجا وأسلوبا على طريق التحرير ورفض التفاوض والاستسلام وصنع الديمقراطية في جوف غابة البنادق وقد كان له بصمات واضحة في استرداد الشعب الفلسطيني لبعض حقوقه المشروعة واستنهاض هويته الوطنية التي لولاها لبقي الفلسطينيون حتى اليوم مجرد جموع لاجئين في دول الشتات المختلفة يبحثون عن كرت التموين والخيمة تختطفهم مشاعر العطف والشفقة والنظرة الإنسانية المجردة.

لقد كان عرفات على مر سنين حياته الأب الحنون الذي استقبل الجميع في مكتبه وفي القواعد والمخيمات في لبنان وتونس واليمن وليبيا والعراق والجزائر ومصر والأردن وبعد عودته الى ارض وطنه احتضن جميع أبناء شعبه بدون استثناء وكلما رأى مشاعرهم الطيبة نحوه كان يجهش بالبكاء ولا زلنا نتذكر مقولته الشهيرة بانه سيرفع يوما شبل من أشبال بلادي او زهرة من زهراتها علم فلسطين فوق مآذن وكنائس القدس شاء من شاء وابى من ابى.

ولعلنا نتذكر اليوم جميعا في هذه المناسبة الاليمة موقفه الحازم من عملية التفاوض مع الجانب الصهيوني واسلوب نقاشاته ومباحثاته المنسجمة مع طموحات شعبه ورؤية الكل الفلسطيني رغم المعارضة المباشرة من امريكا وبعض حلفائها في المنطقة.

السؤال المنطقي المطروح في هذه الذكرى العطرة لماذا تصمت الجهات الرسمية الفلسطينية حتى اليوم عن كشف حقيقة وملابسات مقتل رئيس الشعب الفلسطيني الذي نال مكانة واحتراماً دولياً لم ينالها أي رئيس او قائد في العالم كمناضل ومقاوم ومسالم وهل هنالك ضغوط دولية أم هو مجرد خوف من فتنة داخلية بعد كشف تواطئ الكثيرين أم هو خوف من أن يكون مصيرهم كمصير أبو عمار وهل تم إغلاق ملف القضية نهائيا والسؤال الأهم ألا يشجع عدم كشف ومحاسبة ومتابعة المجرمين على أن يكرروا جريمتهم مع أي زعيم فلسطيني آخر قد يسير على نهج الرئيس عرفات في الوطنية والكفاح.

الحقيقة الساطعة انه لا يخفى على الشعب الفلسطيني والعالم أن إسرائيل وعملائها في الداخل يقفون وراء الجريمة خاصة وان لإسرائيل تاريخ طويل في اغتيال القيادات الفلسطينية وسبق وأن حاولت اغتيال أبو عمار أكثر من مرة قبل ذلك منها في حمام الشط في تونس 1985ولكن الشعب على معرفته هذه يريد تصريحاً رسمياً يتهم إسرائيل بالقيام بالجريمة ويكشف ادواتها لان المعلومات المؤكدة بهذا الخصوص بين أيديهم ( في انعقاد المؤتمر السابع لحركة فتح في تشرين الثاني 2016 صرح الرئيس أبو مازن أنه يعرف من يقف وراء مقتل أبو عمار وأنه سيعلن الحقيقة وفد جاءت تصريحاته اعتماداً على تقرير أولي من اللجنة الفلسطينية المكلفة بالتحقيق برئاسة عضو اللجنة المركزية لحركة فتح توفيق الطيراوي وهنالك لجنة أخرى أيضا برئاسة عزام الأحمد ذكرت نفس الشيء ولكن حتى اللحظة لم يحدث شئ ).

يوم رحيلك أبا عمار أبكيت السماء قبل الأرض والرجال قبل النساء والأطفال وودّعك الشجر والحجر كنت عاصفة لا تهدأ وهاهي ( العاصفة جناحك العسكري ) تشتاق إليك ويستذكرك إبطالها يوم كسرت القيد وبددت الظلام ولعنت القهر وثرت على الظلم وتحديت الخوف وأشعلت بشعبك نار الثورة تاريخاً ونضالًا حتى أصبحت كوفيتك وساما للثوار وشعارا لكل الأحرار ورمزاً لكرامة الأمة وشرفا لشعبك فكم مرة انحنى الموت أمامك والقذائف تنهمر بين ذراعيك وبين إصبعيك اللتين تشيران إلى النصر بعد كل مواجهة واستهداف من القريب والبعيد.

لا شك ان استشهاد عرفات في ظروف غير طبيعية وأوضاع غير ثابتة اثر كثيرا على مسيرة القضية الفلسطينية والمشروع الوطني الفلسطيني وعلى أوضاع فلسطين ووحدة الوطن الفلسطيني وشعبه بعدما وصل إلى حالة مؤسفة ومؤلمة لا زال عاجز على مواجهتها من الانقسام البغيض والتشرذم المتواصل الذي قسم شطري الوطن الواحد ودمر النسيج الاجتماعي الفلسطيني حيث لا توجد رؤية موحدة ولا خطة مدروسة للخروج منه فالأيدي في لقاء تتصافح لكن القلوب لا تتصافى والنوايا غير صادقة ( تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ).

أبا عمار أيها الخالد في وجدان الأمة يا سيد الرجال ويا اكليل الوفاء الفارس الذي ترجل غدرا كما حال كل الأبطال الشرفاء ما أحوج شعبك إليك اليوم في ظل ما يعانيه من تشظي وانقسام وتشرذم ويأس فالساحات والشوارع التي ملأها الاحتلال بالقتل والتدمير والخراب غادرها الناس خوفا على حياتهم والقلوب لا زالت متفرقة وممزقة والعنصرية الفصائلية تنمو وتزداد وقد صدق رهان الاعداء على تفريق شعبك بعد رحيلك وغيابك

أبا عمار امتشق بندقية الثائر في أصعب الأوقات ليؤكد أن الثورة هي أصوب الخيارات أمام الشعوب المقهورة والمستضعفة ختم حياته بطريقة تليق بقائد أخلص لتطلعات وآمال شعبه وحرصه على عدم التفريط بحقوقه الوطنية.

يا شهيد الوطن والأمة لقد سقطت راية الفارس التي حملتها وتبدد الحلم الذي تمنيته في القدس والأقصى وشرك الأنانية تطاول على أهل فلسطين وحبائل من أرادوا الشر بالوطن تمادوا في غيهم وظلمهم ( لقد اهلك شعبك من بعدك ) بقسوة وعنف الأجهزة الأمنية التي انشأتها والفساد الإداري والمالي الذي استشرى وسوء الخدمات والبنى التحتية التي تردت والجهل والمرض والحرمان والتشرد التي تنهش قلوب البسطاء وهم يشاهدون بعض المسئولين يعيشون حياة الترف والبذخ والتبذير والإسراف والرفاهية وسهرات وعطر الفنادق بعد تراب الخنادق وكثير من أبناء المقاومين والمناضلين في عيشة ضنكا لا يجدون قوت يومهم ويعيشون في الرعب والفوضى والضياع وهم يحترقون بنيران الاحتلال الصهيوني والانقسام الأخوي وقد افتقدوا طلتك وهيبتك ووقفاتك البطولية ونظراتك الشامل المعبرة والحريصة.

يجب ان نعلم إن احترام ارث ابو عمار وماضيه لا يكون أبدا في التنافس المحموم على إقامة المهرجانات والفعاليات والاحتفالات لإحياء ذكراه ورفع صوره وترديد خطاباته فحسب بل الأولى والأحق استلهام تجربته الرائدة وتجديد نهجه النضالي القويم الذي استشهد من اجله والسير على خطاه بالتواضع والتقرب من الشعب وتفهم وتحسس معاناته وهمومه والتمسك بنهج المقاومة بكل إشكالها المتاحة والمشروعة فلا تعارض بين الفعل المقاوم والعمل السياسي والدبلوماسي والتمسك بالوحدة الوطنية واستقلالية القرار الوطني وعدم التبعية لأي محور أو مشروع خارجي.

اليوم مع ذكرى الشهيد البطل ياسر عرفات نقف إجلالاً وإكراماً وتقديراً لروحه الطاهرة ومواقفه الوطنية الثابتة والصلبة والشجاعة والفلسطينيون في كل العالم يجددون العهد والبيعة مع شهيد الوطن والثورة ويطالبون باقتداء نهجه في الفداء والإقدام والاعتدال والتسامح والأصالة والكرم والجهاد والنضال والمقاومة والوطنية والحرية والاستقلال والنظام والعدالة ويستذكرون في الوقت نفسه رمزاً كبيراً من رموز فلسطين الوطن العظيم بتضحياته وتاريخه ومشروعه وتطلعاته وآماله وبكل ما حققه من انجازات ومعطيات.

في هذه الذكرى الغالية لا خيار امام الشعب العربي الفلسطيني الا مواصلة الكفاح التحرري بكل اشكاله وصولا لأهدافه في الحرية والاستقلال والعودة وتقرير المصير فلسطين الارض والتاريخ والحضارة وهي فرصة لتجديد العهد والقسم على المضي قدما في طريقه من أجل تحقيق آمال وتطلعات الشعب الفلسطيني ودعوة لتعزيز الوحدة الوطنية والتوافق على استراتيجية نضالية موحدة لمواجهة الاحتلال ومخططاته ومشاريعه العدوانية ضد الأرض والشعب والمقدسات والمضي في الكفاح ومواجهة الاحتلال من أجل استرداد الحقوق المغتصبة والتصدي لمخططات الضم التي قد تعود مع الحكومة الإسرائيلية الجديدة وتقضي على حلم الحرية والاستقلال.

الحادي عشر من تشرين الثاني/ نوفمبر من كل عام سيظل يشكل ذكرى أليمة تذكر برحيل قائد خاض نضالاً تحررياً في سبيل قضيتنا الوطنية لعشرات الأعوام، وواجه من أجلها معارك عسكرية وسياسية لا حصر لها، حتى انتهت باستشهاده في العام 2004 بعد حصار وعدوان إسرائيلي دام أكثر من ثلاثة أعوام لمقره في مدينة رام الله حيث غاب ياسر عرفات بجسده عن فلسطين لكن إرثه النضالي ما زال راسخا لدى أبناء شعبه الوفي

بكل حسرة وألم نقول وداعاً أيها القائد والمعلم وداعاً أيها الإنسان النبيل والفدائي الجبار وداعاً أيها النقي الناصع فإن روحك الطاهرة لن تغادر قلوب أبناء شعبك الوفي وأمتك الماجدة لأنك ملأتها من فيض لطفك وإنسانيتك وتضحياتك ووطنيتك شغفاً وحبا لكً ولأرض وشعب فلسطين الصابر الصامد لروحك السلام ويبقى اسمك وكوفيّتك اختصاراً للقضية عاشت فلسطين وعاش نضالها وانها لثورة حتى النصر والتحرير واقامة الدولة المستقلة على التراب الوطني الفلسطيني وعاصمتها القدس الشريف

mahdimubarak@gmail.com