واصف يعقوب عازر.. رفيق درب أمين
أخبار البلد-
لقد عادت نفسك يا رفيق الدرب، أخي «أبو خالد»، عادت نفسك إلى ربِّها مطمئنة عمّا قدمته من واجب وإنجاز، راضية مرضية، ندعوه جلّت قدرته، أن يجمعك والصالحين في جنات النعيم.
لقد نشأت في ديرة الحُصن.. ديرة منيعة وحواسّك كحصن مدينتك؛ دوما قريب من القلب، دمثاً ودوداً. بل الواسط لبيتك وديرتك، من ديرة ذكية سُمِّيَت «الحصن» كشخصك منيعة عن الضعف المعنوي والهوان أمام الدرهم، وسوء المسلك. ديرةً تحتضن «الصريح والنعيمة وأيدون وشطنا وكتم"؛ اعتمدتها الإدارة الاموية في دمشق موقعا إداريا، وأرضا خصبة، فكانت المقر التاريخي للواء بني عبيد؛ مدينة متميزة بتآخيها عباداً ومعابد, مسيحية ومسلمة، احتضنت بحنان من فاءوا إليها من لاجئي فلسطين.
إنها ديرة عشائر طيبة, منهم النصيرات، والعوازر الذي ينحدر منها رفيق الدرب المرحوم «أبو خالد» واصف عازر. لقد أنبتت قادة في السياسة والاقتصاد والعلوم، والتراث، ومن بعدهم خَلَفُهُم الطيب. واقصِر الحديث هنا، معتذرا، إذ أذكرُ من عاصرتهم من كبار مدينة الحصن، أمثال أستاذي ومعلمنا الباني المرحوم د. خليل السالم وخلفه الطيب حاتم وباسم؛ والقامة نجيب أبو الشعر، ود. فهد الفانك الكاتب الاقتصادي المرموق؛ والشهم والقامة عوض نصير؛ والإعلامي الدولي جميل عازر؛ والفنان الشعبي جميل النمري. ولقد أنبتت الحصن وشقيقاتها من مدن وقرى?لواء بني عبيد، رجالات ونساء آخرين كُثْر افاضل، وقامات طيبة لا يتسع الحيز هنا لذكرهم.
عرفت الصديق المرحوم واصف عازر، في الستينيات من القرن العشرين، ورغم فروقات السن بيننا، إلا أن من يقترب من «ابو خالد»، يدخل في فلكه بارتياح، لمنطقه وجَديَّتِه وجرأته. لقد وجد جيلي من الاقتصاديين فيه شابا متحمسا «khalid shaq»، يعشق العمل العام، منطقي، عرفناه مذ كنّا ندرس الاقتصاد، فكان المرجع للمعرفة الرقمية كمبيوتراً متنقلا، في دائرة الاحصاءات العامة في الدوار الاول، التابعة حينذاك لوزارة الاقتصاد الوطني، فكان مُحرِّكُها وصانع الرقم فيها للوطن. خاصة في بيانات التجارة والاقتصاد والسكان والدخل القومي. وبعد تخر?ي وعملي في البنك المركزي، رئيسا لقسم الاقتصاد المحلي، عام 1966، ازدادت معرفتي وأُلفتي بأبي خالد، لترابط المهنة، والنهج والخدمة العامة. فالارواح جنود مجنَّدة، ما تعارف منها ائتلف، وما تنافر اختلف.
وكما أسلفت، كان «أبو خالد» المرجع الرقمي الاحصائي الاقتصادي الوحيد الذي يُحضّرُ ويُحدِّث إحصائيات الدخل القومي الاجمالي. وعندما غاب عن الوظيفة معتقلا، لم تجد الحكومة لفترة، من يضع ارقام الدخل القومي. فاضطرت الحكومة عام 1966 إخلاء سبيله مع تخلِّيه عن الانتماء الحزبي. وجاءت كارثة احتلال الضفة الغربية عام 1967 فرصة أخرى برزت فيها حاجة الدولة له. ولقد شاركت معه في لجنة من البنك المركزي، لوضع صيغ جديدة لحسابات الدخل القومي للمملكة بعد أن فقدنا باحتلال الضفة، 45% من الدخل الاجمالي للاقتصاد الوطني.
كنا نلمح في «أبو خالد» شفافيته الحزبية اليسارية واختلافه مع بعض التوجهات السياسية والاجتماعية العامة. فكان ميله نحو العمل القومي السياسي الجماعي الاشتراكي، باعتباره جدارا أمام اطماع إسرائيل، فتعلق بمفاهيم كان نبعها من احزاب بمصر والشام والعراق ولبنان. ورغم أن جذور الحكم عندنا في الاردن منشؤها داخلي عربي محافظ، راسخ واقدم، الا انه لم يكن لها، عند وُلاةِ الامر والعهود الحزبية والعسكرية، في تلك البلدان، مخزوناً من ودٍ. وجاءت الايام لاحقا شواهد مقنعة لأخي «أبو خالد»، الرجل المنطقي، المتابع للاحداث والواعي على ?حة منطق الداخل، فتنحى عن تلك الأحزاب. لكن ذلك لم يُطفِئ شعلة التنظيم الحزبي والعشق للخدمة العامة المخلصة، عنده. فانضم لمجموعات ورفاق آخرين من اليسار.
وكنّا سويةً مُنَظَّمِين في حزب جديد متنور اسمه الحزب الوحدوي العربي الديمقراطي (وعد)الذي كان امينه العام الدمث ذو الشخصية الحضارية المتفتحة والتي تفرض الاحترام،الصيدلاني المرحوم أنيس منصور المعشر.وانتخبني الحزب، المساعد الأول للأمين العام. فضم الحزب اقتصاديين ورجال فكر وطني معتدل، أمثال د. طاهر كنعان وواصف عازر، وبكر عليان السالم الحياري، وكمال فاخوري، وطلال الرمحي. وتلبية من الحزب لدعوة من المرحوم الملك الحسين، لدمج الأحزاب المعتدلة تجنباً للازدحام الحزبي، وقف بجانبي الوفي واصف عازر لرئاسة لجنة من الحزب م?متها الاندماج مع حزب «عهد» الذي يرأسه المرحوم عبد الهادي باشا المجالي. وكان مقابلي رئيس لجنة حزب العهد، العسكري المهاب عواد باشا الخالدي. وتم الاندماج وانسحب أنيس من الرئاسة واندمجنا لنصبح الحزب الوطني الدستوري الذي تولى رئاسته لفترة المرحوم عبد الهادي باشا المجالي ودولة الدكتور عبد الرؤوف الروابدة. ولم يمكث المرحوم واصف عازر في الحزب الجديد طويلا لاختلاف في النهج, وكذلك المعشر.
رحل عنّا رفيق الدرب الوطني المنجز المرحوم واصف عازر، «أبو خالد»، ولسوف نفتقده، وعزاؤنا خَلَفَة الطيب. وستتخلد ذكراه المنجزة، وأمثاله من رجال الوطن الاوفياء وعشاقه، الملتزمين بالعهد والوعد بأن تبقى راية الاستقامة، والعدل، والوفاء للوطن، عالية.