«رسالة (3): إلى الاخوة في جماعة الاخوان المسلمين في الأردن»

العدل حقاً هو أساس الحكم. ومن أهم مركبات العدل، المساواة التي تعني المواطنة. صحيح أن مفهوم المواطنة حديث علينا في الوطن العربي، جاءنا في أعقاب الحرب العالمية الأولى، ولكن صحيح أن ما يقارب العقود العشرة منذ ذلك التاريخ حقيقة أن دخلت علينا ثقافة سياسية واجتماعية جديدة تجد اليوم لها أصداء في أفئدة وعقول شبابنا من أقصى الغرب إلى أقصى المشرق من وطننا العربي الأكبر. لقد تغيرت الأزمان ومع هذا التغير تغيرت الأحوال، وأصبح شبابنا، وحتى شيوخنا، أصحاب علم وفكر ورأي، ولم تعد هناك حاجة للبحث عمن “يفك الخط” حين تردنا رسالة كما كانت الحال في ذلك الزمان.

أنا لست من المؤيدين لسياسات مصطفى كمال، الذي يسميه الأتراك أتاتورك، أي أبو الأتراك، والذي أعتقد أنه، بدوافع لا يعلمها إلا الله، حاول اقتلاع وسلخ الأتراك عن محيطهم الجغرافي والديني والاجتماعي وتغريبهم عن تركة حضارتهم الإسلامية العريقة ليصبحوا أغراباً في غرب يرفض حتى اليوم قبولهم في ناديه. حتى أنه استبدل الحرف العربي بالغربي الأمر الذي سلخهم عن تاريخهم بحيث باتوا منذ ذلك اليوم غير قادرين على قراءة هذا التاريخ، الذي أصبحوا هم أغراباً فيه مثلما هم أغراب في عالم الغرب الذي لا يريدهم.

لكن لا بد من الاعتراف أن أتاتورك أدخل الاحتكام إلى العقل في التعامل مع شؤون الدنيا، وتمكن فعلاً، إلى حد كبير، من الجمع ما بين العقل والنقل بحيث أصبح الدين أمراً شخصياً خاصاً بالفرد الذي قاد بدوره إلى التدين الحقيقي الفعلي، لا مجرد الاكتفاء بالطقوس. وخير دليل على ذلك أن تركيا نفسها، التي أرادها أتاتورك لا دينية، يحكمها اليوم حزب إسلامي الهوى والمشرب، على الرغم من أن هذه لم تكن نيته أبداً. أما الأمر الآخر فهو دعوته الشعب التركي إلى ضرورة التغيير الجذري في أساليب التفكير والتعامل مع أمور الدنيا وإلا فليس أمامهم إلا الفناء. وقد جاء هذا في قوله مخاطباً شعبه “Change or Perish”.

واضح أن أسلوب تعاملنا مع الحياة، على مدى القرنين الماضيين، بحاجة ماسة إلى استبدال الكثير منه وإلاّ فسنستمر في المستنقع الذي نحن فيه اليوم، أو سنتردى إلى ما هو أسوأ من ذلك.

منذ نزول جند نابليون إلى مصر في نهاية القرن الثامن عشر إلى اليوم ونحن نتخبط، ونضرب الأخماس بالأسداس، في البحث عن المعادلة التي قد تعيد لنا بعضاً من مجدنا السابق. هذه الحيرة والضياع وحال المخاض التي لا زلنا نعاني منها، سببها فقدان المؤشر والبوصلة وكثرة الاجتهادات والفتاوي التي ما زادت إلاّ في تعميق حدة الضياع والشتات الحضاري والفكري.

وجماعة الاخوان المسلمين التي أسسها السيد حسن البنا في العشرينيات من القرن الماضي قادرة، إذا أحسنت التدبير، وتمكنت من مواكبة العصر وإدخال مفهوم التجربة والخطأ والعقل إلى حياتنا؛ قادرة على الإسهام في تقديم المؤشر المنشود. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الحقائق الأزلية النافعة لكل زمان ومكان هي في مجال العبادات والعقائد والمقاصد العامة، وأن المجال واسع وفسيح في ما يتعلق بالمعاملات للتناغم مع متطلبات العصر، وإتاحة الفرصة لأبنائنا كي يتمكنوا، في الأقل ولو مبدئياً، من الدفاع عن أنفسهم ثم بعد ذلك للإسهام في بناء الحضارة الإنسانية على النحو الذي نريد ونرغب. نُقَصِر كل التقصير في واجبنا تجاه أبنائنا إذا لم نعمل منذ اليوم على تمكينهم من التعامل مع الحياة بعقلانية ورشد، مع الالتزام بمكارم الأخلاق والقيم الروحية والاجتماعية المستحبة والضرورية لتحقيق التوازن في حياة الإنسان.

الجماعة عندها التنظيم الجيد والفكر المستند إلى حضارتنا العربية الإسلامية، لكن لا بد لها من الاتفاق على أن ما مضى قد مضى، وأنه، وإن كان النهج سابقاً على نحو معين، فلا بد من عصرنته. ما كان صالحاً في معاملات البشر قبل جيل أو اثنين أو أكثر بحاجة إلى إعادة النظر فيه. من يرغب في الحفظ فليحفظ، لكن لا بد من إدخال نهج التجربة والخطأ إلى مناهج تعليمنا، على الأقل، حتى نتمكن من الدفاع عن أنفسنا.

“إقرأ” هي أو كلمة في القرآن الكريم، وقد جاءت بصيغة الأمر لغاية نبيلة تعني في ما تعني مواكبة الزمن. فالقراءة هنا تعني التفكير والتعقل في الأمور لا مجرد المطالعة ومجالسة الكتاب وحسب. أما العبادات فهي حقاً حقائق أزلية لا يجوز الخوض فيها.

فلا خوف على الإسلام وعلى العقيدة من إدخال العقل والاحتكام إليه في أمور الدنيا. فالإسلام هو الأجواء التي حولنا، والأصوات التي نسمعها، وحتى الطعام الذي نتناوله. وكما أن الإنسان العربي، مسلماً أكان أم مسيحياً، غير قادر على الخروج من جلده فهو غير قادر كذلك على التخلص أو التملص من ثقافته وأصالته العربية الإسلامية. بل أحسب أن ما حصل يوماً في الغرب، وفي نهايات العصور الوسطى حين دخلت العقلانية إلى مجالات حياتهم بحيث انطلقوا عبر القرون الخمسة الماضية إلى ما هم فيه اليوم، سيحصل عندنا، هم لم يتركوا دينهم ولم يكفروا بل تمكنوا من التمسك بدينهم كما نعرف، مع التكيف بعقل وروية وتطور مع متطلبات الزمان.

ليس المطلوب الخروج عن الدين، لكن العمل حسب أصوله، ولنتذكر أن أول دستور لدولة مدنية في التاريخ هو “دستور المدينة” الذي سُنّ في حياة الرسول (صلى الله عليه وسلم). هذا الدستور الذي اعترف أن “لكم دينكم ولي ديني”، وأن الاختلاف من روائع الخلق، وأن التضاد في الحياة من آيات الله، وكل ذلك ضمن مفهوم وحدة الأمة. هذه الأمة التي تجمع كل الأقوام والديانات تحت عباءتها.

مرة أخرى اعتقد بضرورة قيام الأخوان بشرح مقاصدهم ورؤيتهم للمستقبل، لا لإزالة الغموض فقط وإنما لطمأنة الناس، المواطنين كافة، مسلمين ومسيحيين، أن رؤيتهم للمستقبل رحبة تتسع للمواطنين من كافة المذاهب والملل والنحل، وأن الدين فعلاً دين يسر وإخاء ومحبة ومواطنة، وأن في هذا الشرع تطور ورحمة لأبنائنا، حيث سيمكنهم فعلاً من إمكانية الدفاع عن أنفسهم، الأمر الذي ينسجم مع مقولة سيدنا علي بن أبي طالب (كرّم الله وجهه) “علموا أولادكم غير ما علمتم فإنهم خُلقوا لزمان غير زمانكم”.