في الاستعطاء والعطاء

أخبار البلد-

 

وهو أحد عناوين فصول كتاب "محاضرات الأدباء ومحاولات الشعراء والبلغاء " لأبي القاسم حسين محمد الراغب الأصبهاني (343 هـ) وفيه يستعرض موضوع الاستعطاء والعطاء في الثقافة العربية السائدة آنذاك. والاستعطاء كلمة لطيفة تعني الاستجداء. وبمطالعة هذا الفصل نجد أن استجداء الحاكم أو المسؤول او الثري تقليد عربي قديم، وبخاصة عند الشعراء في تلك الأيام الذين كانوا يمارسون الاستعطاء بالمديح أو يهددون صاحب السلطة او السلطان أو الثري بالهجاء إذا لم يعطِ ومن ذلك مثلاً الفضل بن سهل – وهو وزير عباسي شكا إلى صاحب له كثرة من يقفون ببابه للحوائج فقا له: لا عليك إن أحببت أن لا يلتقي ببابك اثنان، فاعتزل ما أنت فيه من عمل السلطان، فإن نعم الله جاءت بهم إليك ثم أنشده!
من لم يواس الناس من فضله
عرض للإدبار إقباله
فرد عليه: صدقت وبررت.
وقال أعرابي: قصدت فلاناً فوجدت بابه كعرصة المحشر، يهوي إليه كل معشر، فداره مجمع العفاة (الفقراء) ومرجع المكرمات، حاضرة الجود والحسب.
ودخل رجل على إبان بن الوليد فقال: أصلح الله الأمير أحفيت إليك الركاب، وقطعت العقاب، وأخلقت الثياب، فقال: إبان: ما دهاك! أِلقرابة أم جوار أم عشرة متقدمة أم وصلة متأكدة؟ فقال: لم يكن من ذلك شيء ولكن سمعت الناس ينشدون بيتاً قلته فيك فعلمت فيك خيراً فأمر له بجمالٍ ومال.
ولما قصد ذو الرّمة بلال بن أبي بردة وأنشده:
سمعت الناس ينتجعون غيثاً
فقلت لصيدح: انتجعي بلالاً
وصدح اسم ناقته: قال: يا غلام اعلفها قتاً ونوى.
قال أبو عثمان المازني: أشخصني الواثق (الخليفة العباسي) فلما دخلت عليه سألني عن اسمي فقلت: بكر بن محمد، فقال: هل لك من ولد ؟ قلت نعم بنية: قال: فما قالت حين فارقتها؟ قال: أنشدتني بيت الأعشي:
فيا أبتا لا ترمِ عندنا فأنا بخير إذ الم ترم
أرانا إذا أخمرتك البلاد بخفي ويقصع منا الرحم
قال: فبم أجبتها؟ قلت: ببيت جرير:
ثقي بالله ليس لي شريك ومن عند الخليفة بالنجاح
فقال: أعطوه ألف دينار.
دخل رجل على معاوية فقال: هززت ذوائب الرجال إليك إذ لم أجد معولاً إلا عليك، أقيطي بعد النهار واسم المجاهل بالآثار، يقودني نحوك رجاء ويسوقني إليك البلاء، والنفس مستبطئة لي والاجتهاد عاذر إذا بلغتك فقط. فقال له معاوية: احطط رحال وقوّ أمالك وكن على ثقة بالإنصاف والإسعاف.
وقدم وفد بني تميم على عبد الملك (الخليفة الأموي) وفيهم عمرو بن عتبة فقال: يا أمير المؤمنين:
من نُعرف وحقنا لا ينكر، وجئناك فنحن أهله، وما ترى من جميل فأنت أصله، فضحك عبد الملك وقال: يا أهل الشام هؤلاء قومي وهذا كلامهم!
ولعل المتنبي – شاعر العرب الأكبر- الذي قضى حياته يستجدي سيف الدولة الحمداني أعطياتٍ ومنصباً، دليل على تقليد الاستعطاء، فقد اضطر بعد خيبة أمله في سيف الدولة إلى شد الرحال إلى مصر ليمدح حاكمها آنذاك كافور الإخيشدي:
قواصد كافور توارك غيره ومن ورد البحر استقل السواقيا
فجاءت به انسان عين زمانه وخلّت بياضاً خلفها وأمانيا.
وأنشده في مناسبة أخرى:
أَبا المِسكِ هَل في الكَأسِ فَضلٌ أَنالُهُ فَإِنّي أُغَنّي مُنذُ حينٍ وَتَشرَبُ
وَهَبتَ عَلى مِقدارِ كَفّى زَمانِنا وَنَفسي عَلى مِقدارِ كَفَّيكَ تَطلُبُ
إِذا لَم تَنُط بي ضَيعَةً أَو وِلايَةً فَجودُكَ يَكسوني وَشُغلُكَ يَسكُبُ
وقيل: أصاب القوم مجاعة في عهد هشام، فدخل إليه وجوه الناس من الأحياء وفي جملتهم درواس بن حبيب العجلي، وعليه جبة صوف، متمشل عليها بشملة، فنظر هشام إلى حاجبه نظر لائم في دخول درواس إليه وقال: أيدخل عليّ كل من أراد الدخول؟ وكان درواس مفوهاً، فعلم انه عناه فقال درواس: يا أمير المؤمنين ما أخل بك دخولي عليك، ولقد شرفني ورفع من قدري تمكني من مجلسك، وقد رأيت الناس دخلوا لأمر أعجموا عنه، فإن أذنت لي بالكلام تكلمت. فقال هشام: لله أبوك! تكلم فما أرى صاحب القوم غيرك، فقال: يا أمير المؤمنين تتابعت علينا سنون ثلاث: أما الأولى فأذابت الشحم، واما الثانية فأكلت اللحم، وأما الثالثة فطالت المخ ومصّت العظم، ولله في أيديكم أموال، فإن تكن لله فأعطوا بها عباد الله، وإن تكن لهم فعلام تحبسونها عنهم؟ وإن تكن لكم فتصدقوا بها عليهم، فإن الله يجزي المتصدقين ولا يضيع أجر المحسنين. فقال هشام: لله أبوك: اما تركت واحدة من ثلاث، وأمر بمائة ألف دينار فقسمت في الناس، وأمر لدرواس بمائة ألف درهم فقال: ألكل رجل من المسلمين منها؟ قال لا ولا يقوم بذلك بيت المال.
ومثل هذا الاستعطاء كثير في التاريخ والأدب العربيين، وكانت البلاغة والحكمة في القول سبيله لدرجة جعلت المستشرق الانجليزي روم لاندو يقول قولته المشهورة: "واخيراً استقرت الحكمة في ثلاث: في عقل الفرنجة، وفي أيدي الصينين، وفي ألسنة العرب”. ترى هل يختلف الوضع العربي في الاستعطاء/ الاستجداء في هذا الزمان عنه في الأمس؟