لأ يا شيخ؟!
على الرغم من أن الطغاة جعلوا الموت عاديًا جدًا هذه الأيام، إلا أن موت إبراهيم أصلان فاجأ الكثيرين، أما المفاجأة الأكبر، للكثيرين أيضًا، فقد كانت حقيقة عمره!
كثيرون فوجئوا بأن أصلان في السابعة والسبعين وتوقفـــــوا عند هذه الحقيقة المثيــــرة للدهشة، ربما ليحجـــبوا عــــن أنفســــهم الحقيقة الأولى، وهي أن هذا الكاتب الرهيف في الحقيقة مات.
كان أصلان ـ للمصادفة الحلوة ـ لا يكبر أبدًا، وعلى الرغم من مظاهر التعب في الفترة الأخيرة بقيت له ابتسامة شاب وتصفيفة وشارب دون جوان ودهــشة طفل، لهذا لم يصدقه الكثيرون عندما مات، ولم يحضر عزاءه مقربون منه، لأنهم لا يريدون هذا الوداع.
الموت أوضح وأسوأ حقائق الحياة، لا نحبه للقريبين منا لأننا نحبهم، وأما أصلان فموته مكروه لسببين: لحبنا له وحبنا لأنفسنا؛ فهو نوع من الناس يترك في كل مكان موقف وفي كل زاوية حكاية، ورحيله يعني تقويض عالم بكامله، أو على الأقل زعزعة علاقة الكثيرين بهذه الأماكن. من بكى أصلان ليس أصدقاءه فقط ولا مريدي نصوصه، بل الكثير من البشر يحلو للبعض وصفهم بكلمة متعالية ومضللة: 'البسطاء'.
عاش أصلان حياته محبوبًا في حي الكيت كات الشعبي؛ غير بعيد عن حي العجوزة الراقي الذي عاش فيه نجيب محفوظ كهولته، لم تكن شقة محفوظ كبيرة أو واسعة، لكن بضعة مئات من الأمتار وضعت كاتبًا في حي برجوازي والآخر في حي بروليتاري.
كان أصلان سعيدًا بالمكان المزدحم بالدفء، ولم يتركه إلا بسبب الشيخوخة التي دبت في جدران بيته فاضطر إلى البحث عن سكن آخر، وزين له سعيد الكفراوي هواء المقطم الذي انتقل إليه هو الآخر. ولم يكن أصلان سعيدًا بهذا الانتقال الاضطراري الذي انتزعه من بين جيرانه.
عندما كان مشرفًا على سلسلة روايات بهيئة قصور الثقافة المصرية أصدر ضمنها رواية حيدر حيدر 'وليمة لأعشاب البحر' وهاجت القوى السلفية ضدها وأباحت دم ناشرها، طالما أن الكاتب بعيد في حصين البحر بسورية. وكنا نلتقي في مقهى الغريون بوسط القاهرة للدفاع عن حرية الكتابة وعن أصلان شخصيًا. في الاجتماع الأول، عندما هم أصلان بالانصراف إلى بيته أبدى الكثيرون مخاوفهم من أن يتعرض لطعنة في الحي الشعبي المتدين، وكان في ذهننا الطعنة التي تلقاها نجيب محفوظ في زمن وكان غير بعيدين. ولكن أصلان أصر على العودة. وفي اليوم التالي حكى كيف استقبله جيرانه الساهرون على المقهى استقبال الأبطال:
ـ 'ولعتها يا برنس؟!'.
بادروه، وكانوا سعداء لأن جارهم صار اسمه يوميًا في مانشيتات الصحف وتصريحات كبار المسؤولين في الدولة. وأدركنا أنه كان يعرف من يعيش بينهم.
كانت لأصلان لازمة في الحديث يرددها دائمًا: لأ يا شيخ! ياراجل!
وفي شبه الجملة الشفاهي هذا تلخيص لأسلوب كاتب قليل الإنتاج، يكشف رؤيته للكتابة التي لم يتحدث عنها كثيرًا؛ فهذا التعجب لا يذهب في اتجاه واحد كل مرة، لكن تتعدد معانيه وتتلون طبقًا للموقف.
'لأ ياشيخ' يقولها أصلان أحيانًا ليحتمي به من استرسال مادح لقصة من قصصه استرسل فيه صاحبه، لا يجد لكي يسكته إلا أن يقول له 'ياشيخ!' وهذه الـ 'ياشيخ' يستعيض عنها محمد البساطي بنكتة يقول: 'دا أنا كاتبها بصباع رجلي'. كلاهما عذب وكلاهما يخجل من المديح، فليمد الله في عمر الثاني.
أصلان كان يقول 'لأ يا شيخ' كذلك عندما لا يريد أن يمنح ناقل نميمة رأيًا فيما ينقل وإنما يظل محايدًا خارج الحكاية، ويقولها ليشجع المتحدث عندما يكون مستمتعًا حقيقة بما يقول، ويقولها عندما يكون شاردًا من ثرثار ويريد أن يوهمه ـ حياء ـ أنه يتابعه، ويقولها كذلك عندما يندهش حقيقة.
الاختصار وتعدد المعنى هما السمتان المميزتان للعبارة الشهيرة على لسان أصلان. وعلى المتكلم أن يختار من بين هذه الاحتمالات النية التي يضمرها السؤال المقتضب. وبالمثل تكون مسؤولية القارىء تجاه كل سطر في كتب نحيفة وتعد على أصابع اليد الواحدة لكنها وضعت اسم صاحبها بين الكبار. كان الكاتب الذي بدأ حياته ساعي بريد وعامل تلغراف إنه تعلم الاختصار من عمله في التلغراف تحديدًا، حيث ينبغي أن يدفع صاحب البرقية على كل كلمة زائدة، لكنه لم يكن يدفع، كان فقط يرى من يدفعون من أصحاب البرقيات وعندما صار كاتبًا رأى من يدفعون من قيمتهم بسبب الثرثرة التي تتضمنها كتبهم.
هو بالأحرى تعلم من الكبار، فكان له ألق همنغواي وحيويته وكان له حنان تشيخوف تجاه أبطاله. وكانت له تلك العزلة التي ساعدته على تأمل جماليات الفنون التي أحبها وتأمل كل كلمة يكتبها. لم يكن يقلقه مرور الأعوام من دون أن يصدر كتابًا جديدًا. ولم يعتبر نفسه في سباق مع أحد، بل مع نفسه على الاختصار ومراجعة ما يكتب لحذف كلمة هنا أو تغيير كلمة هناك. وحتى عندما اضطر إلى كتابة مقالات في بعض الصحف كان يبذل المجهود الخارق، وكانت النتيجة مجموعة من الكتابات غير مرشحة للنسيان تنتمي إلى سرده القصصي والروائي أكثر مما تنتمي إلى جنس المقال.
بمجموعة قليلة من الكـــــتب النحيفة أّمّن أصــــلان لنفسه البقاء، وعندما أخبرنا بموته لم يسمع إلا جوابًا واحدًا: لأ يا شيخ!
كثيرون فوجئوا بأن أصلان في السابعة والسبعين وتوقفـــــوا عند هذه الحقيقة المثيــــرة للدهشة، ربما ليحجـــبوا عــــن أنفســــهم الحقيقة الأولى، وهي أن هذا الكاتب الرهيف في الحقيقة مات.
كان أصلان ـ للمصادفة الحلوة ـ لا يكبر أبدًا، وعلى الرغم من مظاهر التعب في الفترة الأخيرة بقيت له ابتسامة شاب وتصفيفة وشارب دون جوان ودهــشة طفل، لهذا لم يصدقه الكثيرون عندما مات، ولم يحضر عزاءه مقربون منه، لأنهم لا يريدون هذا الوداع.
الموت أوضح وأسوأ حقائق الحياة، لا نحبه للقريبين منا لأننا نحبهم، وأما أصلان فموته مكروه لسببين: لحبنا له وحبنا لأنفسنا؛ فهو نوع من الناس يترك في كل مكان موقف وفي كل زاوية حكاية، ورحيله يعني تقويض عالم بكامله، أو على الأقل زعزعة علاقة الكثيرين بهذه الأماكن. من بكى أصلان ليس أصدقاءه فقط ولا مريدي نصوصه، بل الكثير من البشر يحلو للبعض وصفهم بكلمة متعالية ومضللة: 'البسطاء'.
عاش أصلان حياته محبوبًا في حي الكيت كات الشعبي؛ غير بعيد عن حي العجوزة الراقي الذي عاش فيه نجيب محفوظ كهولته، لم تكن شقة محفوظ كبيرة أو واسعة، لكن بضعة مئات من الأمتار وضعت كاتبًا في حي برجوازي والآخر في حي بروليتاري.
كان أصلان سعيدًا بالمكان المزدحم بالدفء، ولم يتركه إلا بسبب الشيخوخة التي دبت في جدران بيته فاضطر إلى البحث عن سكن آخر، وزين له سعيد الكفراوي هواء المقطم الذي انتقل إليه هو الآخر. ولم يكن أصلان سعيدًا بهذا الانتقال الاضطراري الذي انتزعه من بين جيرانه.
عندما كان مشرفًا على سلسلة روايات بهيئة قصور الثقافة المصرية أصدر ضمنها رواية حيدر حيدر 'وليمة لأعشاب البحر' وهاجت القوى السلفية ضدها وأباحت دم ناشرها، طالما أن الكاتب بعيد في حصين البحر بسورية. وكنا نلتقي في مقهى الغريون بوسط القاهرة للدفاع عن حرية الكتابة وعن أصلان شخصيًا. في الاجتماع الأول، عندما هم أصلان بالانصراف إلى بيته أبدى الكثيرون مخاوفهم من أن يتعرض لطعنة في الحي الشعبي المتدين، وكان في ذهننا الطعنة التي تلقاها نجيب محفوظ في زمن وكان غير بعيدين. ولكن أصلان أصر على العودة. وفي اليوم التالي حكى كيف استقبله جيرانه الساهرون على المقهى استقبال الأبطال:
ـ 'ولعتها يا برنس؟!'.
بادروه، وكانوا سعداء لأن جارهم صار اسمه يوميًا في مانشيتات الصحف وتصريحات كبار المسؤولين في الدولة. وأدركنا أنه كان يعرف من يعيش بينهم.
كانت لأصلان لازمة في الحديث يرددها دائمًا: لأ يا شيخ! ياراجل!
وفي شبه الجملة الشفاهي هذا تلخيص لأسلوب كاتب قليل الإنتاج، يكشف رؤيته للكتابة التي لم يتحدث عنها كثيرًا؛ فهذا التعجب لا يذهب في اتجاه واحد كل مرة، لكن تتعدد معانيه وتتلون طبقًا للموقف.
'لأ ياشيخ' يقولها أصلان أحيانًا ليحتمي به من استرسال مادح لقصة من قصصه استرسل فيه صاحبه، لا يجد لكي يسكته إلا أن يقول له 'ياشيخ!' وهذه الـ 'ياشيخ' يستعيض عنها محمد البساطي بنكتة يقول: 'دا أنا كاتبها بصباع رجلي'. كلاهما عذب وكلاهما يخجل من المديح، فليمد الله في عمر الثاني.
أصلان كان يقول 'لأ يا شيخ' كذلك عندما لا يريد أن يمنح ناقل نميمة رأيًا فيما ينقل وإنما يظل محايدًا خارج الحكاية، ويقولها ليشجع المتحدث عندما يكون مستمتعًا حقيقة بما يقول، ويقولها عندما يكون شاردًا من ثرثار ويريد أن يوهمه ـ حياء ـ أنه يتابعه، ويقولها كذلك عندما يندهش حقيقة.
الاختصار وتعدد المعنى هما السمتان المميزتان للعبارة الشهيرة على لسان أصلان. وعلى المتكلم أن يختار من بين هذه الاحتمالات النية التي يضمرها السؤال المقتضب. وبالمثل تكون مسؤولية القارىء تجاه كل سطر في كتب نحيفة وتعد على أصابع اليد الواحدة لكنها وضعت اسم صاحبها بين الكبار. كان الكاتب الذي بدأ حياته ساعي بريد وعامل تلغراف إنه تعلم الاختصار من عمله في التلغراف تحديدًا، حيث ينبغي أن يدفع صاحب البرقية على كل كلمة زائدة، لكنه لم يكن يدفع، كان فقط يرى من يدفعون من أصحاب البرقيات وعندما صار كاتبًا رأى من يدفعون من قيمتهم بسبب الثرثرة التي تتضمنها كتبهم.
هو بالأحرى تعلم من الكبار، فكان له ألق همنغواي وحيويته وكان له حنان تشيخوف تجاه أبطاله. وكانت له تلك العزلة التي ساعدته على تأمل جماليات الفنون التي أحبها وتأمل كل كلمة يكتبها. لم يكن يقلقه مرور الأعوام من دون أن يصدر كتابًا جديدًا. ولم يعتبر نفسه في سباق مع أحد، بل مع نفسه على الاختصار ومراجعة ما يكتب لحذف كلمة هنا أو تغيير كلمة هناك. وحتى عندما اضطر إلى كتابة مقالات في بعض الصحف كان يبذل المجهود الخارق، وكانت النتيجة مجموعة من الكتابات غير مرشحة للنسيان تنتمي إلى سرده القصصي والروائي أكثر مما تنتمي إلى جنس المقال.
بمجموعة قليلة من الكـــــتب النحيفة أّمّن أصــــلان لنفسه البقاء، وعندما أخبرنا بموته لم يسمع إلا جوابًا واحدًا: لأ يا شيخ!