استنفار يساري لمواجهة المدّ الاسلامي!!

اذا كنت “يسارياً” فأنت مدعو للمشاركة في “التحضير” لاستراتيجية مواجهة صعود الاسلاميين، ثمة “نخب” ممن تثق بها مشغولة بتقديم ما يلزم من خطط ونصائح للحفاظ على “وزنها” الذي اكتشفت ان رصيده في الشارع اصبح “متواضعاً”، ان أردت ان تصدقها فهذا شأنك، لكن ارجوك ان تسألها فقط: من يتحمل مسؤولية هذه “الخيبة” التي انتهى اليها “اليسار”؟: الناس الذين صدقوا دعوات العدالة الاجتماعية ومبادىء الديمقراطية وقيم التعددية واحترام الآخر.. أم “النخب” التي جلست على مقاعدها في المكاتب الفاخرة، وتحالفت مع الحكومات والاجهزة، واكتفت بالتنظير وابتعدت عن هموم الناس واستعلت عليهم؟

اذا أردت ان تعرف “الوصفات” الجديدة التي انشغل بها هؤلاء لمواجهة حالة الفشل التي وصلوا اليها في “استمالة” الناس الى خطابهم وتضحياتهم واقناعهم ببرامجهم، فتأمل معي في هذه “الدعوات” الاستباقية الذكية: أحدهم يدعو الى “العلمانية كحل” للخروج من هذا المأزق، آخر يتساءل عما يمكن للاسلاميين ان يفعلوه بنا: الحجاب سيصبح الزامياً، الرجال سيعزلون عن النساء في المؤسسات العامة، صناعة الكحول ستكون محرمة، السياحة ستتوقف، فوائد القروض المحلية والاجنبية لن تدفع، ثالث يحاول ان يقنعنا “بشرعية” مجلس النواب، ويحذرنا من التشكيك فيه بعد ان استعاد “روحه” ونشاطه، والهدف - بالطبع - هو عدم اجراء انتخابات برلمانية مبكرة خوفاً من “انكشاف” وزنه امام شعبية الاسلاميين المتصاعدة، أما مصلحة “البلد” فهذه في آخر القائمة.

على جبهة اليسار - ايضا - ثمة استنفار “حزبي” للهجوم على “كتائب” الاسلاميين التي اقتحمت الصناديق أو الاخرى التي تستعد لذلك، وثمة اشتباكات نوعية على مستوى النخب “بالتحالف” مع امريكا والغرب، ومع “اذناب” الامبريالية والصهيونية العالمية (تصوّر!)، وثمة هجمة مبرمجة ضد “الدين” الذي “سيركب” الثورات والديمقراطيات الوليدة لاعادة الناس الى القرون الوسطى.

يا إلهي، ألهذه الدرجة وصل تفكير بعض النخب “بالانقلاب” على مبادئهم وقيمهم التي “صدعوا” رؤوسنا بها على مدى عقود، ألهذا المستوى بلغوا في خطابهم مع خصومهم السياسيين، ألهذا الحد “اساءوا” الى ارادة الناس الذين انحازوا لغيرهم بعد أن اكتشفوا بأنهم خذلوهم؟

حين تدقق في مواقف بعض اخواننا في “اليسار” وفي دعواتهم تكتشف أنهم اسرع الناس “انقلابا” على الديمقراطية والاصلاح اذا ما خرجوا “خاسرين”، وانهم اقل الاطراف ثقة “بالشارع” اذا ما تبين لهم انه سينحاز لغيرهم، وانهم غير معنيين بهموم الناس واولوياتهم وانما معنيون بحصتهم في “السلطة”.

وحين تدقق اكثر تكتشف ان اكثر ما يفزع البعض هو “الدين” حين يكون خياراً للناس، وباعثاً قوياً لاستعادة الهوية وتصحيح مسارات السياسة، وتحقيق الكرامة، واستعادة التوازن مع الآخر.

وكأن امتنا غريبة عن هذا “الدين” او مقطوعة الجذور بحضارة انتجتها هي ذاتها انطلاقاً من “فكرة” الدين ذاته، أو كأننا بحاجة الى “استيراد” علمانية “مجربة” لم تنجز على مدى عقود سوى التخلف والاستبداد.

كنت اتمنى على اخواننا في اليسار ان ينشغلوا بنقد تجربتهم بدل ان ينشغلوا بتحميل الآخرين اوزارهم، او ان يسألوا “النخب” التي قادتهم الى هذا المصير لماذا فعلت ذلك، وان يطالبوها بالانسحاب من المشهد والاعتذار ليتسنى لهم ان يعيدوا حساباتهم وترتيب علاقاتهم من جديد مع مجتمعهم، كنت أتمنى ان يخرجوا من “عقلية” الثأر والهجوم والبحث في “المجرّب” البائس الى منطق جديد يتعامل مع التاريخ بلا عناد، ومع الواقع بلا استعلاء ومع الآخر بلا اقصاء، ومع “الاوطان” بلا ازدواجية في المكاييل والمعايير.. ومع قيمهم ومبادئهم التي بشرونا بهم باحترام والتزام ايضاً.

آخر ما يخطر الى البال أن ادافع عن “الاسلاميين” فهؤلاء أيضاً لهم اخطاؤهم، وانشغالاتهم التي ابتعدت عن هموم الناس، لكن مع ذلك لم يجد الناس غيرهم ليصوتوا لهم، وحين “وازنوا” بينهم وبين الآخرين انحازوا “للفكرة” التي ينطلقون منها، وهي “فكرة” الدين التي أصبحت اليوم تستقطب اشواق “الشارع” في عالم عربي مسلم ديناً أو ثقافة، وهذا ما لا يريد اخواننا في اليسار ان يعترفوا به.

كان يمكن للجميع، يساريين وقوميين واسلاميين، ان يلتقوا على ارضية “المشترك” الوطني، وعلى هدف “خدمة” الناس والانشغال بقضاياهم، بدل ان يضيعوا تضحيات طويلة دفعت جماهيرنا ثمنها باهظاً، وتريد “النخب” الآن ان “تضعها” في حساباتها السياسية الفقيرة.