أربعون عاماً على مجزرة صبرا وشاتيلا ومازال المجرمون طلقاء

اخبار البلد - 
 


تمر هذه الأيام ذكرى مرور اربعين عاما على مجزرة صبرا وشاتيلا التي ارتكبت ضد السكان المدنيين في المخيمين في بيروت حيث استطاعت اسرائيل استغلال مقتل بشير الجميل، رئيس الجمهورية الذي فرضته على لبنان، لتنفيذ تلك المجزرة المروعة بواسطة بعض عملائها في البلد، وعلى رأسهم حزب القوات اللبنانية، بزعامة ايلي حبيقة، وبالتعاون مع جيش جنوب لبنان، أي جيش لحد.

على الرغم من أن المنفذين للمجزرة هم من اليمين اللبناني إلا أن المحرض والمخطط للمجزرة هو وزير دفاع اسرائيل الجنرال ارئيل شارون، حيث كان الجيش الاسرائيلي بقيادته يحتل جنوب لبنان ومدينة بيروت وجوارها، وحيث كان بعض ضباط الجيش الاسرائيلي يشرفون على المجزرة ويراقبون تنفيذها من اماكن مجاورة للمخيمين.

لقد استغلت اسرائيل عملية ترحيل المقاتلين الفلسطينيين من لبنان قبل المجزرة بعدة أسابيع وكذلك عملية مقتل الرئيس بشير الجميل، وقررت تنفيذ المجزرة بالتعاون مع القوات اللبنانية. ويبدو أن الجيش الاسرائيلي أراد إظهار أن المجزرة هي عمل محلي من فئات لبنانية، انتقاماً لمقتل رئيسهم، إلا أن ايدي شارون وبعض جنرالات جيشه كانت ظاهرة، وهناك عدة أدلة على أنهم كانوا المخططين للمجزرة والمحرضين عليها والمشرفين على تنفيذها، وعلى رأس هذه الادلة ما ورد في تقرير لجنة كاهانا الاسرائيلية عام 1983، التي حققت، فيما بعد في تصرفات ارئيل شارون وإدانته بالمشاركة والتخطيط للمجزرة، وكذلك تواجد بعض كبار ضباط الجيش الاسرائيلي وعلى رأسهم الجنرال موشيه يعلون بالقرب من مكان المجزرة للإشراف على تنفيذها.

• تقييم المجزرة على ضوء قواعد القانون الدولي الانساني:

الأمر اللافت للنظر هو أن معظم المقالات والتحليلات السياسية والتعليقات التي نشرت حول المجزرة كانت ذات طابع سياسي والقليل جداً منها عالج تلك المجزرة من ناحية موقف قواعد القانون الدولي منها وبخاصة القانون الدولي الانساني.

يمكننا دون تردد، اعتبار المجزرة بانها تشكل جريمة (ابادة الجنس البشري، أي الابادة الجماعية، Genocide) وفقاً لتعريف النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية لهذه الجريمة وكذلك وفقاً لتعريف هذه الجريمة في ميثاق نورنبرغ لعام 1946 والأحكام الصادرة عن محكمة نورنبرغ ضد مجرمي الحرب النازيين بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وكذلك في كتابات بعض فقهاء القانون الدولي الانساني والمحكمة الجنائية ليوغسلافيا سابقاً، وذلك كما يأتي:

1) موقف النظام الاساسي للمحكمة الجنائية الدولية:

نصت المادة الخامسة من النظام الاساسي المذكور على أنه: " للمحكمة اختصاص النظر في أربع جرائم من ضمنها جريمة الابادة الجماعية، كما نصت المادة السادسة من ذلك النظام الاساسي على أن "الابادة الجماعية" تعني: (ارتكاب أحد الافعال الخمسة التي ذكرتها بهدف اهلاك جماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية، إهلاكاً كلياً أو جزئياً)، ونصت على أن الفعل الأول المكون للجريمة هو (قتل أفراد الجماعة).

وقد أجمع معظم خبراء القانون الدولي الانساني على أن عملية القتل يجب أن تكون متعمدة ومخطط لها وتشمل قتل عدد لا بأس به من الجماعة المذكورة اعلاه وأن تتم خلال أيام أو فترة محددة- أي ليس على مراحل لمدد طويلة.

كذلك فإن النظام الاساسي الذي وضع بواسطة اتفاقية روما لعام 1998، أعتبر هذه الجريمة أخطر الجرائم الدولية على الاطلاق، كما نص على عدم تقادمها مع مرور الزمن، وهذا يعني أن المتهم أو المتهمين لن يستطيعوا التخلص من الجريمة حتى ولو مر عليها عشرات السنين.

2) جريمة الابادة الجماعية في فقه القانون الدولي:

اعتبرت جريمة الابادة الجماعية، على مدار القرنين الاخيرين، بأنها أخطر الجرائم الدولية، وهذا ما نصت عليه قواعد العرف الدولي المتواترة، والتي دعمت في نصوص ميثاق نورنبرغ عام 1946 وفي قرارات محكمتي نورنبرغ وطوكيو بعد الحرب العالمية الثانية

ويجمع غالبية فقهاء القانون الدولي الانساني على أن الجريمة المذكورة لا تتقادم مع مرور الزمن، وبذلك نظل العقوبة سيفاً معلقاً فوق رؤوس مرتكبي تلك الجرائم، حتى بعد وفاتهم، كما وأن دولهم، التي كانوا يمثلونها خلال ارتكاب تلك الجريمة ، تعتبر مسؤولة مسؤولية مدنية عن تعويض أهالي وورثة المتضررين و/أو دولهم، عن تلك الجرائم.

3) جريمة الابادة الجماعية في قرارات محكمة يوغسلافيا سابقاً:

أصدرت محكمة يوغسلافيا سابقاً قراراً هاماً في هذا الصدد، في المحاكمة التي تمت لأحد الضباط الصرب، الذين اشرفوا على مجزرة مدينة سيربنتسا (Serbeinca)، في دولة البوسنة والهرسك، التي تمت عام 1993 خلال الحرب الأهلية في تلك الدولة، واسمه (Dusko Tadic) (دوسكو تادتش)، حيث حكمت عليه بالسجن مدى الحياة ، لإشرافه على قتل حوالي ثمانية آلاف مواطن مدني في البوسنة، جميعهم من الرجال، وقد اعتبرت المحكمة بأن الجريمة تشكل جريمة ابادة الجنس البشري بسبب كونها تمت خلال فترة قصيرة أولاً، وبسبب ارتكاب عملية القتل للذكور فقط ثانياً. أي أن القاتل هدف الى انهاء وابادة الجنس البوسني، والدليل على ذلك هو أن جميع الثمانية آلاف مدني المقتولين كانوا من الذكور، إذ استنبطت المحكمة بأن المتهم كان يهدف الى ابادة الجنس البوسني عن طريق قتله للذكور من العرق البوسني المسلم (أي من الاثنية البوسنية). وقد استندت المحكمة في هذا الرأي القانوني الى العرف الدولي الثابت عبر القرنين الاخرين، وكذلك الى نصوص اتفاقية روما لعام 1998، المشكّلة للمحكمة الجنائية الدولية، والتي حدد نظامها الاساسي الوسائل التي تشكل ارتكاب الجريمة المذكور وهي عملية (قتل افراد الجماعة)، التي اعتبرت احدى الوسائل الخمسة المكونة لهذه الجريمة، وفقاً لنص النظام الاساسي للمحكمة الجنائية الدولية.

4) مسؤولية اسرائيل عن المجزرة:

هناك نوعان من المسؤولية تتعلق بإسرائيل وبعض مسؤوليها الذين ساهموا في المجزرة أو خططوا لها وهم الجنرال شارون وبعض مساعديه وبعض المسؤولين الاسرائيليين آنذاك.

1. المسؤولية الجزائية: وهي تلحق بشاورن ومن ساعده في أعمال المجزرة أو ارسله لهذا العمل وكل من ساهم في النتائج التي نتجت عن المجزرة، ومن هؤلاء أيضاً مسؤولي (القوات اللبنانية) الاساسيين وعلى رأسهم آيلي حبيقة، وبعض قيادات جيش لحد في جنوب لبنان.

2. المسؤولية المدنية: تعتبر دولة اسرائيل مسؤولة مدنيا بتعويض لبنان وكافة أهالي وورثة الشهداء المدنيين الذين قتلوا في المجزرة، كذلك بأن أية دعوى مدنية مستقبلية لا تسقط بالتقادم لكونها مرتبطة بجريمة مستمرة لا تتقادم، أما كيفية المطالبة بالتعويض، فذلك صعب حالياً بسبب حالة الحرب بين الطرفين إلا أنه قد يصبح ممكنا في المستقبل.

ولا بد ان نشير هنا إلى ان اهالي الشهداء كانوا قد رفعوا دعوى جزائية ضد الجنرال شارون في بلجيكا، إلا ان المحكمة ردت الدعوى بحجة أن شارون يتمتع بالحصانة الدبلوماسية، علماً بأن العرف الدولي الملزم لكافة الدول، الذي تم تثبيته في نصوص النظام الاساسي للمحكمة الجنائية عن الجرائم الواردة في ذلك النظام ، وعلى رأسها جريمة ابادة الجنس البشري، نص على عدم تمتع أي مسؤول حكومي، مهما علت رتبته بالحصانة.

وتجدر الاشارة الى أن طلب محاكمة شارون في بلجيكا استند إلى المبدأ القانوني (الولاية الدولية- international jurisdiction)، الذي يطبقه القضاء في بعض دول العالم مثل انجلترا وبلجيكا واسبانيا، استناداً الى المبدأ القائل بأن من يرتكب جرائم خطيرة، كجرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية وجريمة ابادة الجنس البشري، إنما بتسبب في ايذاء العالم، وبذلك فإن جريمته تعتبر ذات طابع دولي وتمس بأمن وسلام العالم، لذلك يحق لأي دولة أن تحاكمهم.

5) هل يمكن محاكمة المسؤولين الاسرائيليين؟

لا شك في أن أي مسؤول في أية دولة، مهما كانت كبيرة وهامة، يجب أن يخضع لقواعد القانون الدولي، خاصة تلك القواعد العرفية الملزمة لكافة الدول وأعضاء الجماعة الدولية الآخرين، مثل المنظمات الدولية الحكومية، وقد جاء النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، كمحصلة لمعاهدة روما لعام 1998، التي كرست مبدأ (عدم الإفلات من العقاب)، إذ اعتبرت كل من يرتكب أحد الجرائم الخطيرة المنصوص عليها في النظام الأساسي للمحكمة، يجب أن يخضع للمحاكمة وأنه ليس هنالك أي حصانة لأي مسؤول مهما كان مركزه وعلت مكانته.

إلا أن هذه النصوص لا تطال كل من يرتكب جريمة، الا بشروط نصت عليها مواد تلك المعاهدة خاصاً ما ورد النص عليه من المواد (11-13)، من النظام الاساسي للمحكمة الجنائية.

وتجدر الإشارة هنا الى أن الكثير من الدول الكبيرة لم تنضم إلى معاهدة روما، وبذلك فإن مواطنيها لا يخضعون للشروط الواردة في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، إلا إذا ارتكبوا جرائم في اقليم طرف في ذلك النظام.

وجدير بالذكر أن بعض الدول التي ينص قانونها الوطني على مبدا الولاية الدولية، طلب منها محاكمة بعض المسؤولين الاسرائيليين بصفتهم مجرمي حرب إلا أنهم لم يحاكموا لعدة أسباب، والأمثلة على ذلك ما يلي:

1. كان هناك طلب موجه الى القضاء البريطاني لمحاكمة وزيرة خارجية اسرائيل السابقة تسيبي ليفني الا انها لدى وصولها بالطائرة الى مطار لندن قبل أكثر من عشر سنوات أبلغت وهي بالطائرة بأنها مطلوبة للتحقيق معها لذلك لم تنزل من الطائرة وعادت سالمةً الى اسرائيل.

2. وهناك مثال آخر يتعلق بالجنرال شارون، أشرنا إليه سابقاً وكيف رفضت المحكمة البلجيكية النظر في الشكوى المقدمة ضده من بعض أهالي شهداء صبرا وشاتيلا.

3. في عام 1985 قدم المحامي الامريكي البارز استاذ القانون الدولي فرانسيس بويل، وهو صديق للشعب الفلسطيني، دعوى ضد الجنرال الاسرائيلي موشيه يعلون لدى محكمة واشنطن الفدرالية، حينما كان يعلون ملحقاً عسكرياً في السفارة الاسرائيلية في واشنطن، إلا أن المحكمة ردت الدعوى شكلياً، ورفضت النظر فيها على أساس أن يعلون يتمتع بالحصانة الدبلوماسية لكونه ملحقاً عسكريا في السفارة. ومن المعروف أن يعلون كان قد أشرف عام 1982 على مجزرة صبرا وشاتيلا.

خلاصة القول أن القانون الدولي ليس له أنياب إلا أنه يعض الأشخاص الذين ليس لهم حماية من دولة كبيرة.

لذلك يتوجب علينا إتقان فن العلاقات الدولية وامتلاك عناصر القوة، أو بعضها على الأقل كي نستطيع أن يكون لنا وجود تحت الشمس ولا نظل نسير في زقاق التاريخ.