الكتاب الذي طالب لورانس العرب ناشره بسحبه بعد طبعته الخامسة

أخبار البلد ــ يُنظر إلى العميل البريطاني والثوري المحترف الذي قام بأدوار بالغة الغرابة في العالم العربي والإسلامي عند بدايات القرن العشرين على أنه مؤرخ جعل من حياته محوراً للتواريخ التي كتبها، ولكن كثراً في الوقت نفسه يعتبرونه مؤلف كتاب وحيد انطلق واسع الشهرة منذ صدوره للمرة الأولى عند مفتتح الربع الثاني من القرن العشرين، وتحديداً حين نشرت طبعته الأولى عام 1926 حيث كان كثر يعتبرونه من صنف الكتاب الذين يكتفون بأن يتركوا وراءهم كتاباً واحداً يبنى عليه مجدهم الكتابي. وهذا الكتاب هو بالطبع "أعمدة الحكمة السبعة" الذي روى فيه لورانس العرب حكايته وحكاية ما أسماها بالثورة العربية والتي لن تكون في نهاية الأمر سوى إبدال الاحتلال التركي للمنطقة العربية باحتلال إنجليزي، وفرنسي إلى حد ما. صحيح أن لورانس عبر في هذا الكتاب عن غضبه من سلطات بلاده التي "غدرت بالعرب" كما يقول وخدعته هو كما خدعتهم، لكن ذلك الغضب لم يبدل شيئاً من الأمور ولا جعل السلطات تتراجع عما اقترفته. والحقيقة أن "أعمدة الحكمة السبعة" حقق فور صدوره من النجاح ما جعل كثراً من أصدقاء لورانس يطالبونه بكتابة المزيد وكان من بينهم شارلوت زوجة الكاتب جورج برنارد شو التي كانت تحيطه وزوجها برعاية أبوية، وكذلك ناشراه الإنجليزي "كيب" والأميركي "دوران". ولسوف يذعن لورانس في عام 1927 وينجز كتاباً بعنوان "ثورة في الصحراء" سيحقق نجاحات هائلة منذ نشره في لندن وفي نيويورك في وقت واحد تقريباً ليطبع خمس طبعات متتالية في وقت قصير جداً. وهو حقق تلك النجاحات على رغم العديد من المآخذ التي سجلها النقاد الإنجليز بخاصة في حقه. وكان أول تلك المآخذ وأقلها خطورة، أن "ثورة في الصحراء" إنما هو استكمال بل بالأحرى "تكرار" لما كان الكاتب المغامر قد رواه في "أعمدة الحكمة السبعة " مع بعض التوابل الإضافية ناهيك بالإمعان في الحديث عن المغامرات التي عاشها على حساب التحليل السياسي الذي يطغى على الكتاب الأول. أما المأخذ الثاني والذي كان الأكثر خطراً، حتى وإن كان يتناقض مع الأول، فكان ذاك الذي بادر إلى الحديث عنه الكاتب لويل توماس، إذ رأى "تشابهاً يصل إلى حدود السرقة مع كتاب الرحالة داوتي "أرابيا ديزيرتا" الذي كان ولا يزال يعتبر واحداً من أعظم كتب الرحلات التي وضعها مستشرق أنجلو ساكسوني. والحقيقة أن لورانس سوف يرد على هذه التهمة قائلاً بكل سخرية "أجل لقد سرقت من داوتي لكني لم أسرق منه سوى بعض النعوت التي استخدمها والتي لا يمكن العثور في اللغة الإنجليزية على ما هو أفضل منها"!

النقد الجارح

مهما يكن من أمر فإن كل هذا قد أحدث تأثيراً سلبياً كبيراً في لورانس الذي كان يعتقد نفسه لا يمسّ ولا سيما من قبل النقاد الذين تفاوتت نظرتهم إلى الكتاب بين من يكتب أنه "كتاب غامض إلى درجة أنه يفتقر إلى أي بعد طبيعي" أو"من المؤكد أنه كتاب يعبق بالنسغ"، كما رأى جورج برنارد شو، مروراً بمن أكد رداً على الاتهام بالسرقة من داوتي أنه "يخلو من كل التعبيرات البائدة التي قد نجدها لدى داوتي"، فيما كتب الناقد دجي بوليت أنه "كتاب مريح مطئن وطبيعي ككنار ينزلق تحت الماء" مقابل مجلة "نيشن" التي رأى محررها أنه "نص ضبابي غائم ممل مليء بنعوت آتية من لغات أجنبية"... والحقيقة إذاً أن كل تلك الآراء جرحت في إيجابيّها كما في سلبيّها، كبرياء لورانس الذي كان يقيم نفسه تقييماً كبيراً، ولا سيما بعد عودته من المنطقة العربية مكللاً بـ"مجد قومي" يتزاحم في داخله مع خيبة أمل شخصية هو الذي كان يرى أنه يصنع التاريخ فإذا به يكتشف أنه لم يكن سوى بيدق في لعبة شطرنج تتجاوزه. لقد جرحه هذا كله بالتأكيد ما أنساه خلال السنوات التالية لذلك ما كان قد قرره من أن ينصرف إلى الكتابة التي ليس له من خلاص إلا فيها.

بيد أن المسألة لم تتوقف هنا كما سوف نرى. واتهامات لويل توماس ظلت تغيظ لورانس على رغم أن دعماً قوياً جاءه في ذلك الحين من قبل ونستون تشرشل الذي بعث إليه، وكان لورانس قد بات حينها في كراتشي، رسالة يهنئه فيها على كتابه الجديد مقارناً إياه بالمذكرات التي كان هو – تشرشل – قد أصدرها متحدثاً فيها عن نشاطاته السياسية والعسكرية خلال الحرب العالمية الأولى خالصاً إلى ألقول إنه حين قرأ قبل حين كتاب "أعمدة الحكمة السبعة" وضع الكتاب وقد أهلكه اكتشافه من خلال مقارنة نص لورانس بنصه المعنون "أزمة العالم" كم أن لغته هو صحافية تبسيطية بينما تتجلى لغة لورانس أدبية خالصة "وهذا ما عدت لأكتشفه في كتابك الجديد، فأهلك من جديد!". لقد كان مدحاً لا يمكن أن يضاهيه مدح. لكن لورانس كان يحس بعمق الجرح الذي ما توقف النقاد الصحافيون الإنجليز على توجيهه إلى كتابه الجديد. وكانت شارلوت شو قد اشتركت في وكالة مقتطفات صحافية تزودها يومياً بكل ما يكتب عن كتاب لورانس الجديد ومن ثم تبعث إليه برسائل متواصلة تحمل تلك المقتطفات ليقرأها حيث يقيم الآن بين كاراتشي وأفغانستان في مهمات جديدة لا تزال تحمل غموضها حتى الآن. وكان لورانس قد دبج هذا الكتاب بعدما استعاد مهمته إثر عودته خائباً من المنطقة العربية وبات مجرد جندي يتدرب من جديد في منطقة كرانويل الإنجليزية قبل مبارحته إلى أواسط آسيا. وتقول بعض الأساطير المحيطة بلورانس أنه لم يسع لكي يُنقل إلى تلك المنطقة النائية من العالم، إلا لرغبة منه بالهرب من المجد "الذي لا يحتمل" والذي نتج من صدور "أعمدة الحكمة السبعة" ثم تالياً لذلك عن صدور "ثورة في الصحراء". وهو لما شعر، تبعاً للأسطورة نفسها، أن المجد لا يزال "يطارده" طلب على الفور من ناشريه التوقف عن إصدار أية طبعات جديدة بل حتى سحب النسخ الموجودة في الأسواق من الطبعات السابقة. وحين رفض الناشران هذا الطلب سألهما بإلحاح أن يقدما حصته من أرباح المبيعات إلى جمعيات تعنى بتقديم العون إلى الطيارين وعائلاتهم!

إذا عرف السبب

وفي المقابل ثمة طبعاً حكايات أخرى لا تنفي قيام لورانس بطلب التوقف عن نشر طبعات جديدة من الكتاب ولا التبرع بحقوقه للجمعيات المذكرة، لكن السبب كان مختلفاً: كان السبب تلك المقالات النقدية العنيفة التي راحت تشهر به إلى حدود التحطيم وسوف تتبدى أكثر عنفاً وشراسة من المقالات الأخرى الكثيرة التي راحت تمتدح كتابه وتدافع عنه بشراسة. بل يقول جيريمي ويلسون صاحب واحدة من أفضل السير التي كتبت للورانس بأن هذا الأخير وصل في ذلك الحين إلى حد مطالبة السلطات بتغيير اسمه مختاراً أن يحمل اسم شو تيمناً باسم شارلوت وجورج برنارد شو وتكريماً لاحتضانهما له. غير أن هذا لا يبدو فائق الأهمية هنا. فما يهم هو بالطبع هو أن لورانس سوف يحمل عام 1927 اسم توماس إدوارد شو الذي سيوقع به عدداً كبيراً من رسائله، بل سيعرف به خلال السنوات الأخيرة التي سبقت رحيله في حادث السير الشهير الذي قضى عليه عام 1935 قرب بيته الإنجليزي في كورنويل وسيعتبره كثر حادثاً مدبراً لاغتياله. والجدير بالذكر هنا هو أن توماس كان يوم الحادث معروفاً من أهل الجوار في المنطقة التي يعيش فيها وقتل فيها باسم شو، ومن هنا كانت تلك الفترة الزمنية التي استغرقها الإعلان عن أن قتيل ذلك الحادث إنما هو "لورانس العرب" الشهير وليس فقط السيد شو الجندي السابق في القوات الإنجليزية.