لماذا يحرق الأردنيون أنفسهم؟
في لحظة، يقرر شخص ما إنهاء حياته، مسقطا من حساباته القيم المجتمعية والمعتقدات الدينية الرافضة لهذا المسلك.
يبد أن تكاثر الحالات وانتشارها صار مدعاة لتساؤل لطالما طرح حول الأسباب التي تدفع إنساناً إلى إنهاء حياته.
تكررت المشكلة التي لم يعد وصفها بالظاهرة مبالغة، خصوصا وأنها غريبة عن مجتمع مسلم، يؤمن أن الانتحار حرام. إذن، ما الذي حصل لدينا؟ ولماذا صار التفكير في الانتحار أمرا عاديا؟ وما الدوافع التي تجعل الموت والحياة سيان، فيختار المرء الأول بدون تردد؟
في محاولة سريعة لم تستغرق أكثر من دقيقتين، أسعفتني الذاكرة بحصر عدد لا بأس به من محاولات الانتحار. تذكرت أحمد المطارنة الذي أحرق نفسه احتجاجا على تحويله لنظام الاستيداع بعد أن هدّه التعب إلى درجة لم يعد معها قادرا على تحمل مسؤوليات أسرته الكبيرة.
ويوم أمس، شهدت محافظة المفرق محاولتي انتحار، الأولى لشاب مجهول الهوية عثر عليه مشنوقا، وما يزال التحقيق جاريا لكشف حقيقة ما حدث معه؛ وشاب ثان جرب الانتحار في حديقة السكة لأمر يرتبط بأوضاعه الاقتصادية الصعبة، وعجزه عن الاستمرار في حياة قاسية، ليفضل في لحظة مغادرة هذه الدنيا.
يوم أمس أيضا، أقدم موظف في دائرة الأراضي بمنطقة الشونة الجنوبية على حرق نفسه احتجاجا على نقله من مقر عمله إلى مكان آخر. وتكررت القصة في العقبة قبل بضعة أشهر، حينما حاول شاب الانتحار هربا من حاله الاقتصادية الصعبة. تذكرت أيضا سيدة ديرعلا التي حاولت حرق نفسها قبل بضعة أشهر في مبنى مديرية المعونة في الشونة الجنوبية، رفضا لقرار المديرية وقف مخصصاتها من المعونة الوطنية، والعقبة لم تكن بعيدة حيث حاول أحد شبابها ذلك بدون أن يفلح، تعبيرا عن غضبه من الفشل في الحصول على فرصة عمل. ولو منحت نفسي مزيدا من الوقت للحفر في الذاكرة القريبة، لطالت قائمة الأسماء وتعددت مواقع محاولات الانتحار.
الملاحظ أن دوافع الإقدام على هذا الفعل بشكل آو بآخر متشابهة، وكثيرا ما تنتهي عند الظروف الاقتصادية الصعبة، المقترنة بافتقاد الفرد للشعور بالاحترام، الأمر الذي وفر بيئة خصبة ومناسبة لتنامي الشعور بعدم الرضا والغضب الذي يعد الانتحار سبيلا لتفريغه.
أما التفسير الثاني، فيتمثل في شعور الإنسان بالعجز عن تغيير واقعه المعيشي الصعب، والذي ضاعفت السياسات الرسمية من صعوبته، وفشلت في الوقت ذاته في تحسينه، ليجد المرء نفسه يقاتل وحيدا بلا أي عون، فيما يرى بأم عينه من أثروا بلا تعب وجهد يتنعمون بدون التفكير في المواطن المسكين الذي هضموا حقه في عيش كريم.
عند التعمق في تحليل الظاهرة سنكتشف أن محاولات التخلي عن فكرة الدولة الراعية للمجتمع بدون خلق بدائل مناسبة تعوضه، تركت فراغا كبيرا عند الناس، فالحكومات غير قادرة على التوظيف وتحسين حياة الناس بما يسهم في تخفيف معدلات الفقر والبطالة، وفشلت في الوقت ذاته في تقوية القطاع الخاص ليملأ الفراغ الذي تركته.
ولربما لعب الربيع العربي، الذي باتت لفظته اليوم تغضب البعض، دورا في رفع مستوى الوعي لدى المجتمعات التي باتت ترفض واقعا صعبا طالما عانت منه، ورضيت بقليله بدون أن تفكر في تغييره.
أحد وزراء خارجية بريطانيا قال ذات يوم: اتركوا شعوب هذه المنطقة؛ يقصد المنطقة العربية، جوعى وفقراء حتى يظلوا منشغلين بفاقتهم وعوزهم. ولكن الوزير لم يكن يعلم أبدا أن ربيعا عربيا سيزهر، لتنهض الشعوب وتحتج على حالها في سعي منها إلى تغييره. ويبدو أن تزايد حالات الانتحار هي أحد الأساليب المستنبطة تعبيرا عن الحاجة إلى التغيير.