محاولة للبحث في جذور ظاهرة العنف الجامعي وضع النقاط على الحروف "
" العنف الجامعي بدأ يظهر على السطح منذ أكثر من خمسة عشر عاما ثمّ تنامى طيلة تلك السنين العقيمة العجاف حتى أصبح ظاهرة مرعبة امتدت لتشمل المجتمع بأسره بما يسمّى بظاهرة " العنف المجتمعي " المهدد للسلم الأهلي , والمدمّر لهيبة الدولة ومؤسساتها , وقد استأثرت هذه الظاهرة باهتمام الكثيرين من المعنيين بشؤون المجتمع فعقدت لها الندوات , والمحاضرات , وكتبت الأبحاث والمقالات وقدمت التوصيات فما زادها ذلك إلا استفحالا وتناميا
لقد تابعت ما تيسر لي الإطلاع عليه مما قيل وكتب حول هذا الشأن فكنت أشعر أنّه ثمّة أمور لا يقف عندها الدارسون ولا يلمون بها إلاّ لماما وبحديث عارض فيه من المعاريض والتورية ما يجعله خفيّا فكنت أحاول الابتعاد عن الحديث العلني عن هذا الملف الشائك المليء بالألغام والمخاطر لأسباب منها عدم الرغبة بنشر الغسيل على الملأ لأنّ النصيحة في العلن قد تكون فضيحة ؛ولاعتقادي بأنّ أهم أسباب الخلل يتمثّل في انهيار التعليم المدرسي فقد اقتصرت على الكتابة لذوي الشأن من المسؤولين عن الشأن التعليمي فكتبت مذكرة أو دراسة مطولة نسبيا إلى معالي وزير التربية السابق د. خالد طوقان في صيف عام 2004م قام بإيصالها له بعض النواب الفضلاء , وقدمت دراسة مشابهة لبعض القائمين على الشؤون التربوية ثم قدمت مذكرة مطولة إلى معالي وزير التربية والتعليم د. إبراهيم بدران ثمّ قدمت مثلها إلى معالي د. تيسير النعيمي ولم أتمكن من إيصالها إلى معالي د. وليد المعاني ومعالي د. خالد الكركي نظرا لقصر مدة بقائهما في وزارة التربية ومما جاء في تلك المذكرة " إنّ أول مراحل علاج المعضلات الاجتماعية هو معرفتها , الاعتراف بها , وعدم إنكارها , وليس معنى الاعتراف بها أن يعلن ذلك على الملأ فيؤدي لأضرار لا حصر لها , وإنما المقصود أن تنقل الرؤية والرأي إلى من يملك التغيير , وتصويب الأوضاع من ولاة الأمر , وأهل الحلّ والعقد , ولا يجوز طرح القضايا الكبرى على الدهماء إلاّ إذا يئس دعاة الإصلاح من تجاوب من بأيديهم مقاليد الأمور , وصلاحيات الأمر والنهي " والمؤسف أنني لم ألمس لتلك المذكرات أثرا إذ كانت الحال تسير من سيء إلى أسوأ فأيقنت أنّ محاولات الإصلاح ووقف الانحدار ضرب من الخيال .
وعندما بدأ الحراك الشعبي تفاءلت خيرا وظننت أنّه سيفتح هذا الملف بقوّة وأن يعطى من الاهتمام ما يتناسب مع خطورته وأهميته ولكن وبكل أسف لم يحظ بالعناية اللازمة نعم لقد جاء في وثيقة الجبهة الوطنية في بندها التاسع ما نصّه "أ -إعادة النظر جذرياً في سياسة التعليم،بهدف الارتقاء بنوعيته والعمل على ربط مناهجه ببرامج التنمية ومتطلباتها، واعتبار هذا الهدف أولوية في خطط الدولة وبرامج قطاع الأعمال والمجتمع المدني، وإعادة صياغة العلاقة بين التعليم والمنظومة الاجتماعية والاقتصادية بحيث يصبح التعليم ركناً أساسياً للارتقاء بنوعية الحياة في المجتمع الأردني." إلاّ أنّ الحديث عن هذا الجانب لم يعطى حقه في تصريحاتهم وندواتهم فيما أعلم , فيصنف الحديث في هذا المجال في الجانب الديكوري الذي تحرص عليه الأحزاب والتنظيمات رفعا للعتب وزركشة للبناء .
قدمت بهذه المقدمة الضرورية ليعلم القارئ الحصيف بأنني ما كنت راغبا بنشر الغسيل على الملأ , وما أنا بالباحث عن شهرة أو مرتبة فأغلب تلك المذكرات التي قدمتها طيلة السنوات لأولئك المسؤولين لم تكن تحمل اسمي أصلا , وما كان بيني وبينهم علاقة أو معرفة , أما وقد طلبني بعض الإخوة الفضلاء الكتابة في موضوع العنف الجامعي الذي يعدّ من أسبابه الرئيسية انهيار مستوى التعليم المدرسي فإنني لا أملك إلاّ الاستجابة وإن كان ذلك ربما سيثير دبابير الغوغاء الأغبياء الذين يحركهم خبثاء الأذكياء في زمن صمت فيه حكماء العقلاء ربما يأسا وإحباطا وربما لأسباب وجيهة لم يستطع الوصول إليها عقلي القاصر .
إنني أعتقد أن العنف الجامعي يعود لعاملين أساسيين كان للسياسة التدميرية الممنهجة للمجتمع الدور الأبرز فيهما , وهذان العاملان هما : مسخ العشائرية , ومسخ التعليم بسبب سيطرة الهاجس الأمني مما أدى إلى تعزيز قوى الفساد والإفساد , وتشرذم المجتمع وتفسخه , وانهيار منظومة القيم والأخلاق والأعراف التي تضبط السلوك المجتمعي والتي لا يمكن أن ينوب عنها القانون مهما كان مثاليا
أستأذن القارئ الكريم لندخل في صلب الموضوع لوضع النقاط على الحروف قدر المستطاع فإن أصبت فبتوفيق من الله وإن جانبت الصواب فمن نفسي التي طبيعتها النقص , ولنبدأ بالعامل الأول :
• مسخ العشائرية :
العشيرة والقبيلة هي شكل طبيعي من أشكل الاجتماع الإنساني،وهي في واقعها امتداد للأسرة، والإنسان كائن اجتماعي بالطبع لاعتبارات معاشية ، وأمنية ، ونفسية ، فكان ينضم إلى تجمعات طبيعية كالعشيرة والقبيلة،واخترع تجمعات صناعية مثل النقابات والأحزاب وغيرها،إلا أن الانتماء للأسرة ثم العشيرة،والقبيلة يتفوق على هذه التجمعات الصناعية لما لرابطة الدم من تأثير عاطفي فطري في النفوس،وأن كان هذا التأثير يقل كلما ابتعدنا عن نقطة الانطلاق (الأسرة) ثم العشيرة ثم القبيلة ثم الشعب،وكذلك يتفاوت هذا الشعور من فرد لأخر تبعا لأمور فطرية أو مكتسبة وذلك لحكم إلهية ليس هذا مكان بحثها .
ومن المعلوم أنه ما من اجتماع إنساني إلا ويكون على أساس أفكار موحدة يتولد عنها مشاعر موحدة ينتج عنها مفاهيم،وأعراف،وتقاليد لتنظيم السلوك الإنساني،وهي في البناء الطبيعي (القبلي) أشد تأثيرا في نفوس الأفراد،لأنهم يتوارثونها عن الآباء والأجداد بما يمثله هؤلاء من مهابة وإجلال وتقدير،ويلمسون مطابقتها لمصالحهم،ودفع الأذى عنهم فيكون الالتزام بها بدافع الاحترام أولا والاقتناع ثانيا.
وبناء على ما تقدم فإن الاجتماع بحد ذاته لا يعتبر شرا فهو أمر فطري في النفوس، ومن الحقوق المعترف بها دوليا،مثل حق الانضمام لأحزاب،أو النقابات،أو تشكيل الدول،فالبحث يجب أن ينصب على الأفكار والمفاهيم التي يقوم عليها هذا المجتمع فإن كانت سيئة نتج عنها سلوك سيء وان كانت حسنة نتج عنها مسلكيات حسنة،وما يقال عن أي تجمع فإنه ينطبق على الاجتماع القبلي،فإذا ساد قبيلة مفاهيم حسن الوفاء والصدق والشهامة والمروؤة فأن ذلك يؤثر في سلوكهم ويشتهرون به،وإن سادهم عكس هذه الصفات كانت النتيجة عكس الأولى،لذلك من المفروض على المصلحين الذين ساءهم ما لدى القبائل من سلبيات تقف عثرات أمام التقدم والرقي- أن يغيروا تلك المفاهيم والأفكار المنتجة لذلك السلوك،لا أن يتجهوا لتحطيم الكيانات القبلية، وإفسادها،مما زاد الأمور تخلفا وانحطاطا. ومن نافلة القول بأن الشرع الحنيف لا يحاربها ،وأول ما يطالعنا في هذا الشأن أن الله سبحانه وتعالى ذكرها في معرض الامتنان ،ولا يمكن أن يمتن علينا بما هو شر قال تعالى((يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير)) (13)سورة الحجرات، وتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تعامل مع القبائل بصفتها قبائل،ولم نلمس منه انتقادا لهذه الكيانات بل لمسنا منه العكس من ذلك،وذلك يظهر في كثير من الأدلة والأحكام منها على سبيل المثال:
أ-الثناء على بعض هذه القبائل بصفات حسنة اشتهرت بها ففي حديث صحيح قال صلى الله عليه وسلم "غفار غفر الله لها،وأسلم سالمها الله" وفي حديث آخر قال صلى الله علية وسلم قريش والأنصار ومزينة وجهينة وأسلم وغفار وأشجع موالي ليس لهم مولى دون الله ورسوله" وفي حديث قال صلى الله علية وسلم إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قل طعام عيالهم في المدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموا بينهم بالتسوية فهم مني وأنا منهم) وفي هذا النص الأخير مدح لسلوكهم القبلي للتعاون في مواجهة الفقر والحاجة .
ب-ترتيب كثير من الأحكام الشرعية على روابط الدم مثل الزواج والنفقات ودية القتل الخطأ والولاية على الدم .
ت-صح عنه صلى الله علية وسلم قوله " خيركم المدافع عن عشيرته ما لم يأثم " وجاء عن علي رضي الله عنه أنه قال:((لا يستغني الرجل وان كان ذا مال وولد عن عشيرته،ودفاعهم عنه بأيديهم وألسنتهم،هو أعظم الناس حيطة من وراءه،وأعطفهم عليه إن أصابته مصيبة أو نزل به بعض مكاره الأمور،ومن يقبض يده عن عشيرته فإنه يقبض عنهم يدا واحدة وتقبض عنه أيد كثيرة)) والخلاصة أن هذا أمر معلوم من الدين بالضرورة وفيما ذكرناه كافيا للغرض .
ويرى البعض أن القبيلة القوية المتماسكة تشكل خطرا على الدولة،وتحول دون تطبيق القانون على أفرادها، مما يجعلها على النقيض من مؤسسات الدولة، فضعفها قوة لدولة المؤسسات وقوتها ضعف ، وهذا القول فيه شيء من الوجاهة قليل , وفيه من التمويه والمغالطات الكثير، ولعل هذه من أشد المقولات تأثيرا،ومن أعظمها خطرا على الكيان القبلي .
ولتوضيح الحق في هذا نقول إن الدولة إما أن تكون نشأت بالقوة والقهر واستأثر رجالها بالمكاسب والمغانم،ولم يكن لديهم رسالة يحملونها للناس فهم في الواقع فئة مغتصبة متسلطة لا مسوغ لها إلا القوة وشهوة الحكم، وإما أن تكون هذه الدولة ذات رسالة سامية اقتنع بها الناس وخضعوا لهذه الدولة عن طواعية واختيار،وفي الحالة الأولى فإن قوة أي كيان داخل جسم هذه الدولة ((مثل القبائل والأحزاب والنقابات وسائر أشكال التجمع الإنساني)) إنما هو على حساب قوة هذه الدولة فهم يتعاملون معها بطريقة الخصم المنافس لا بطريقة الشريك المؤازر،وفي الحالة الثانية فإن قوة هذه التجمعات وخاصة القبلية هي قوة للدولة،والخطر الداخلي عليها إنما يأتي من طريقين :_
الأول :وجود تكتلات تقوم على أفكار ومفاهيم تخالف رسالة الدولة وتناقضها وتسعى للتأثير على الشعب وإقناعه بما لديها.
والثاني: تخلي الدولة عن رسالتها أو عجزها عن إبقاء هذه الرسالة مؤثرة في النفوس لسبب أو لآخر، فتخف روابط الود بينها وبين الناس بالتدريج حتى تتلاشى ولا يبقى من رابط بين الناس والدولة إلا القوة والقهر.
والخلاصة هنا أنّ المجتمع الأردني كان مجتمعا عشائريا قائما على منظومة من الأعراف والقيم والأخلاق الراقية التي مكنته من التعايش طيلة قرون مضت غابت فيها سلطة الدولة ونفوذها , ولولا تلك المنظومة وقدرتها على تحقيق الأمن النسبي في ظل غياب السلطة لتفانى الناس , وعندما قامت الدولة الأردنية الحديثة تعرضت العشائرية بصفتها منظومة قانونية وأخلاقية إلى هجوم عنيف من قبل الفئات التالية :
الفئة الأولى: دعاة التغريب الذين آمنوا بفكر الغرب بشقيه الرأسمالي والاشتراكي , وانبهروا بما وصل إليه من تقدم في جميع مجالات الحياة , وكلا الفكرين يتناقضان مع العقلية العربية وموروثها الفكري والحضاري وقد وصلت الجرأة ببعضهم لأن يصدر كتابا عام 1972م تحت عنوان "شريعة العشائر في الوطن العربي " جاء في بابه الثامن تحميل العشائرية مسؤولية هزيمة الدول العربية أمام إسرائيل , والتفتت والانقسام في المجتمع العربي , وعدم الولاء للوطن , وإغراق المجتمع بالعادات والتقاليد العشائرية , وقال في ذلك الكتاب في العشائرية وأعرافها ما لم يقله مالك في الخمر , وما كان ذلك الكتاب إلاّ طرفا ضئيلا من تلك الحرب الظالمة التي شنّها دعاة التغريب والتنوير على العشائرية , ونظرا لتفشي الأمية في أوساط العشائر فقد وقف غالبية أبنائها ما بين مبهور بتلك الأطروحات خجل من انتمائه العشائري , أو مقهور عاجز عن الردّ , والعجيب أنّ الذي أنصف العشائر ودافع عن تلك الثروة القانونية المدهشة، والتي تتفوق في معظم جوانبها على ما وصل إليه عباقرة القانونين وواضعي النظم من البشر هو رجل حقوقي ليس من أبناء القبائل المسماة بقانون الإشراف على البدو وإنما كان من أبناء عشائر الحواضر وهو الأستاذ الدكتور الحقوقي محمد حمدان أبو حسان في كتابه تراث البدو القضائي الذي طبع أول طبعة عام 1974م , ونظرا لأنّ المتعلمين من أبناء العشائر لم يكن لديهم اهتمام بهذا الجانب , ونظرا لأنّ شيوخ العشائر كانوا غير متعلمين فإن كتاب أ.د. محمد أبي حسان لم يكن له تأثير يذكر في وجه ذلك الهجوم الممنهج العنيف .
الفئة الثانية:الحركات الإسلامية المعاصرة يدفعها في ذلك رد فعل على حركة القومية العربية التي اعتبروها مناقضة للإسلام ، ورغبة بإظهار الإسلام دين مساواة لا يفرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى، ولجهلهم بواقع العشائر وكيفية التعامل معها لأنّ أغلب قيادات تلك الحركات ما كانت من أبناء العشائر الكبرى المؤثرة , ومن كان من أبناء تلك العشائر فقد تعرّض لعملية غسيل دماغ بما تلقنه من أفكار الشعوبية القديمة التي بعثت من مرقدها وخرجت بثياب المساواة والعدل , فكان عجز القائمين على الحركات الإسلامية عن فهم طبيعة المجتمع العربي العشائري من أهم أسباب محاربة العشائرية ووصمها بالجاهلية والجهل والتعصّب الأعمى .
الفئة الثالثة:فهم من ذوي الأهواء والمصالح الشخصية ممن يفتقرون إلى الأصول العريقة من بقايا علوج العجم أصحاب الحركات الشعوبية السابقة،أو ممن يشعرون بالدونية من العرب ممن قعدت بهم أفعالهم وحسابهم عن مجاراة الآخرين،أو ممن ساعدتهم الظروف وأصبحوا ممن يشار إليهم بالبنان،إلا أنهم يفتقرون للحسب والنسب , فشنّ هذا الصنف هجوما عنيفا على العشائرية ورموزها وزعمائها , وعزز هذا الهجوم ما آلت إليه أحوال الزعامة القبلية من انحراف عن مناهج وتقاليد الزعامة العربية الموروثة التي كانت تمثل دور الأب للأتباع بما يعنيه هذا الوصف من حرص من قبل هذا الشيخ على أتباعه ودوره التربوي الفاعل وما يقابله من تقدير وإجلال في نفوس الأتباع ثم آل الأمر لرجال أهمتهم أنفسهم، وانساقوا وراء مصالحهم الخاصة، دونما التفات لمصالح الناس وهمومهم، إلا بما يرون منه مصلحة شخصية وتولدت قناعة في نفوس أبناء هذه العشائر بأنهم يعيشون في واد وشيوخهم في واد آخر، ونتيجة لذلك تعرضت الزعامة التقليدية لهجوم قوي من أبناء القبيلة، وللنزاهة ودقة التعبير نقول: إن مسلكهم المخالف لما كان عليه آباؤهم قد أعطى المهاجمين المسوغ والسند على اختلاف أهوائهم وأهدافهم ونتج عن هذا الواقع المزيد من التشرذم والانقسام، وانشغل الناس في هذا الأمر ولا يزالون .
الفئة الرابعة : المؤسسة الرسمية وسياستها في مسخ الزعامة القبلية:
إن الزعامة والوجاهة المعبر عنهما باسم (الشيخة) لها مقومات أساسية، ويترتب عليها أعباء ثقيلة، وأمور مكلفة، إلا أنها في العقود الثلاثة الماضية بدأت تفقد مقوماتها , وشروطها , وأصبحت رخيصة الثمن , سهلة المنال , وكأن الشاعر يقصدها حيث يقول:
لقد هزلت حتى بدت كلاها من هزالها وحتى سامها كل مفلس
فلم تعد تكلف إلا ثيابا ثمينة ، وعلاقات مع بعض المسؤولين ، وصغار الموظفين، وأصبح كل أفراد عشائر الشيوخ المعروفين شيوخا ووجهاء لمجرد مشاركتهم الشيخ المعروف باسم عشيرته ، وكل من كان لأجداده القدماء دور في الزعامة يحاول إبرازها ليتوسل بها إلى الوجاهة والشيخة ، وكل من لديه قليل من المال ، وكون علاقة مع قائد شرطة يرى في نفسه الأهلية للحصول على لقب الوجاهة والشيخة ...وهكذا حتى أصبح لدينا كم هائل من الشيوخ والوجهاء ربما زاد عددهم عن عددنا معشر الأتباع .
وهنا أستعير ما قاله الدكتور سلطان أبو تايه (وتتلخص هذه السياسة بإصدار ورقة تعلن عن ولادة شيخ جديد , ووجه للربع لم تكتشفه كل معايير وقيم العشائر قادما من رحم زمن الرويبضة إلى عباءة من على شاكلته كما الطيور على صورها تقع.. وها هي مستشارية العشائر تقدمه لهم على طبق من ذهب مع كل امتيازات هذه الورقة من حقوق قابلة للتوريث ،فمن مكافأة شهريه تتراوح بين 120 دينار للشيخ المبتدئ إلى 220 دينار لمن أمضى سنوات أطول في الخدمة .ومن امتيازات هذه الورقة أيضا الأولوية في حضور كل الدعوات الرسمية والملكية في المناسبات الوطنية والأعياد الرسمية .مما اسمعه في المجالس وقمت بالتثبت منه عيانا ، أن هؤلاء الدمى المعينين رسميا لا يطلب منهم الجلوس في مكاتب ليؤدوا المهام المطلوبة منهم ، فكل ما هو مطلوب من هؤلاء الشيوخ الجدد ، سرعة البديهة كي يفهم ، بالتلميح على سيادة المستشار،بأن الوقت قد حان لكي يتحدث بلغة عربيه مكسرة باسم العشيرة ليعبر عن ارتياح العشيرة الشديد لسبب ما ، ربما أراده صاحب السيادة ، أو التعبير عن الغضب الشديد وعدم ارتياح العشيرة لموضوع ما ، ربما أغضب سيادته .... )) انتهى من مقالة " الهواء الذي ربما يشعل النار تحت الرماد " على موقع كلّ الأردن بتاريخ 19/2/2011م .
والنتيجة الطبيعية لما ورد ذكره أنّ الدور التربوي للعشيرة قد قضي عليه منذ أكثر من ثلاثين عاما , وغاب دور " مدرسة المجالس " ونشأت عندنا أجيال انقلبت على ما ورثته من أعراف راقية , وعادات حسنة وأخلاق حميدة، فصار المراقب يلاحظ سيادة روح (العبثية) لدى معظم الشباب الذين لا يرون في الحياة إلا مسرحية تافهة، لذلك فإن همهم الشاغل هو اقتناص اللذات، واللامبالاة تجاه القضايا العامة، وغياب التفكير المسئول وانعدام الجدية في الفكر والسلوك، يضاف إلى سيادة هذه الروح ذلك الانقلاب الهائل في المفاهيم والسلوك والأخلاق، فصارت الجرائم الأخلاقية شبه عادية، ولم يعد الجاني يتعرض إلى ما يتعرض له سابقا من ازدراء واحتقار، فقد كان في الماضي القريب ينظر للجرائم الأخلاقية بمقت شديد، تؤدي إلى إسقاط اعتبار الجاني اجتماعيا وتلحق العار بأهله وعشيرته مما يشكل رادعا ذاتيا عن السقوط بها، فأصبح الأمر مختلفا فلم تعد هذه الجرائم، والرتوع في الشهوات المحرمة عائقا أمام الارتقاء بالسلم الاجتماعي.... .
لقد كانت سياسة تتفيه المشيخة العشائرية , وإسنادها لغير الأكفياء هو مؤامرة على كيان الدولة , وتهديد لأمنها , ولا أزال أذكر أنّ جلالة الملك الحسين بن طلال رحمه الله قد ذهب لإحدى المحافظات المضطربة , فأعلن أنّه تفاجأ بأنّ شيوخ الناس الرسميين عاجزون عن السيطرة على الناس وتهدئتهم , وكان المفترض بالحكومات المتعاقبة أن تلتفت لهذا الأمر منذ تلك الحادثة التي مرّ عليه أكثر من عشرين عاما لتعالج هذا الخلل .
ولو اقتصر الدور التخريبي على الجانب المتعلق بالزعامة القبلية لهان وهو ليس بالهين ولكن جاءت أم الكوارث بقانون الصوت الواحد في الانتخابات البرلمانية الذي أجهز على النسيج الاجتماعي المتهالك , وأطلق عليه رصاصة الرحمة بتقطيعه أوصال المجتمع ورفض قيام أي نوع من التعاون والتحالف بين شرائحه , وأزداد القائمون على الأمر تماديا في هذا المسلك التخريبي عندما أجروا الانتخابات البلدية الماضية على نظام الصوت الواحد للأعضاء فمنعوا التحالف بين الناس , وتشكيل الكتل المتجانسة .
ورافق ذلك الخلل الواضح الفاضح في إجراءات التقاضي التي كانت ولا زالت مضيعة للحقوق علاوة على إن القانون وخاصّة قانون العقوبات الأردني يتناقض مع العقلية العربية يظهر ذلك في المواد التي تتعلق بجنايات القتل والإيذاء والعرض والكرامة وما شاكل ذلك، والناس لا يحترمون القانون إلا إذا اقتنعوا فيه ورأوا فيه حارسا للقيم والمثل التي يؤمنون بها، ويضحون من أجلها، والعجز عن تغيير عقلية المجتمع لتتفق مع القانون .
هذا بعض ما يتعلق بالعامل الأول " مسخ العشائرية " أمّا العامل الثاني " مسخ التعليم " فقصته تبدأ من غياب رسالة الدولة التي تعطيها الشرعية ولتوضيح ذلك سبق وإن قلت "إن الدولة إما أن تكون نشأت بالقوة والقهر واستأثر رجالها بالمكاسب والمغانم،ولم يكن لديهم رسالة يحملونها للناس فهم في الواقع فئة مغتصبة متسلطة لا مسوغ لها إلا القوة وشهوة الحكم، وإما أن تكون هذه الدولة ذات رسالة سامية اقتنع بها الناس وخضعوا لهذه الدولة عن طواعية واختيار " ....وإذا نظرنا إلى واقع الدولة الهاشمية في الأردن فإننا نرى أنها الدولة الوحيدة في آسيا العربية_ باستثناء مشيخات _الخليج التي قامت على الولاء والاقتناع والحب،وغيرها لم تقم إلا بعد نزاعات وسفك دماء , وأنّ هذه الدولة تحمل مشروعا عربيا نهضويا يناقض المشروع الاستعماري الغربي المتمثل بكيانات ((سايكس _بيكو )) ، وهذا المشروع النهضوي هو الذي قامت من أجله الثورة العربية الكبرى بقيادة الشريف الحسين بن علي رحمه الله ، ذلك المشروع الذي ظل الاستعمار وعملاؤه يحاربونه حتى حصروه في الأردن ، وظلت القيادة الهاشمية متمسكة بهذا المشروع قدر المستطاع على الرغم من الضغوطات الخارجية والداخلية، والخلاصة أن الدولة الهاشمية في الأردن هي دولة ذات رسالة سامية متمثلة بمبادئ الثورة العربية الكبرى وبتراث آل بيت النبي صلى الله علية وسلم.
إلاّ أنّ هذا المشروع بدأ يغيب ويذوب لأنّ أمور الدولة في العقود الماضية أسندت إلى رجال رسخّوا ثقافة الانتفاع على ثقافة الانتماء , ولم تظهر شخصيات قيادية قادرة على كسب ثقة الناس وحبهم باستثناء شخصية جلالة الملك , وعجز الإعلام الرسمي عن تسويق سياسة الدولة وإبقاء مشروعها النهضوي حيّا في النفوس , ومعلوم أنّ الإخلاص في العمل هو وليد القناعة الفكرية بقضية كبرى ورسالة سامية تدفع حاملها للتفاني من أجلها , والكبار والقادة هم الذين يمثّلون " دينمو الفكرة والرسالة أو القضية " وسلوكهم هو البرهان على إيمانهم بها وإذا ما شاهد الأتباع تناقضا بين سلوك القادة وما يطرحونه من أفكار يصلون إلى قناعة بأنّ هؤلاء القادة يستخدمون تلك الأفكار للضحك على ذقون المغفلين , فترتب على ذلك ظهور تيار من الأتباع يمتهن المزايدة , والتشدّق بأفكار الثورة العربية الكبرى ومبادئها تقليدا للكبار ويحاربها بسلوكه وعمله لأنّ الأمور في نظره إن هي إلاّ كلام في كلام فأحرص على ما ينفعك ودع عنك القضايا العامة والإخلاص في الخدمة , والحرص على التسلح بالعلم والثقافة إن هو إلاّ بضاعة الحمقى والمغفلين فتلك أمور لا تطعم خبزا , وأصبحت بضاعة المزايدة الفارغة غير المخلصة هي الرائجة والمحظية من قبل الجهات الرسمية ..... وقد ترتب على هذا الخلل الفظيع ما يلي :
1. محاربة الكفاءات التربوية وذلك أنّ أغلب الكفاءات التربوية والقائمة على التعليم والتوجيه في مختلف القطاعات كانت تنتمي لأحزاب ممنوعة فكانت تتعرض للتضيق والفصل والسجن والتهميش .
2. التساهل في أمر التعليم حيث كان في الماضي امتحان المترك والتوجيهي لا يتجاوزه إلاّ القليل , ولا يتفوق فيه إلاّ نجباء الطلبة , وبالتالي لا يصل للجامعات إلاّ الطلبة النجباء المقتدرون على مواصلة التعليم , ثمّ أصبحت المدارس تدفع سنويا بعشرات الآلاف من الطلبة وبمعدلات خيالية ففي العام الماضي حصل أكثر من 25% من الناجحين على معدلات فوق التسعين , ومن لم تسعفه هذه الفوضى بالحصول على معدل عال أسعفته وصفة الأقل حظّا التجهيلية التي جعلت الطالب يتنافسون على المعدلات المتدنية حيث يجني المعدل العالي على صاحبه أفدح الأضرار , ويتم ذلك بصمت غريب مريب مما دفع النائب الأسبق د. غازي الزبن لأن يقول في إحدى جلسات مجلس النواب عندما تطرّق لهذه الكارثة التآمرية على التعليم " أنقول هي ظلم أم لؤم أم كلاهما معا " !! وأنا أقول بل هي مؤامرة مدروسة يراد منها إبقاء الأمية مقنعة بشهادات جامعية ؛ لإيمان المتآمرين بأنّ العلم نور وهم لن يستطيعوا ممارسة فسادهم وإفسادهم إلاّ بالظلام .
3. السكوت عن تدني مستوى التعليم الجامعي : كان لكلمة الجامعة وقعا مهيبا على النفوس في الماضي , وعندما كنّا طلابا في المدارس في ثمانيات القرن العشرين كنّا نسمع أنّ الجامعة تختلف عن المدرسة , فالمدرسون فيها علماء كبار , ولا يوجد مناهج مقررة كالمدرسة , وإنما يقوم الدكتور بإعطاء التلاميذ مفاتيح العلوم , ومناهج البحث , ويوسّع مداركهم بالأسئلة التي تحفّزهم للبحث والتنقيب , فيمضي الطالب فترة الدراسة الجامعية بين قاعات الدرس , وقاعات المكتبة , والتحاور مع الزملاء , ولا مكان فيها لكسل أو فراغ .... هذا ما كنّا نتخيله أو نسمع عنه , ويشطح بنا الخيال فنظنّ أننا سنمر بتجربة شبيهة بتجربة د. طه حسين !! وعندما وصلنا الجامعة اكتشفنا ما أكتشفه الأسد في الحمار كثير من الأساتذة يمضون المحاضرات بالحديث عن أنفسهم وأمجادهم في دنيا الفكر والسياسة والفن مع أنهم يعلمون علم اليقين أنّهم سيغادرون هذه الحياة ولا يخلفون فيها بصمة واحدة , وبعضهم جمّع نصوصا من كتب الآخرين , ونسّقها , وأصدر بها كتابا , وفرض على طلاب مادته شرائه , فأستبدل الطالب الكتاب المدرسي الموثّق الذي تؤلفه لجنة من المتخصصين , والذي يخضع للتعديل والتنقيح بناء على آراء أصحاب العلم والخبرة بكتاب جمع فيه ما هبّ ودبّ ّ!! ومنهم من ينسخ نصوصا من بعض الكتب ويمليها على الطلاب فتمضي محاضرته بقراءة ونسخ !! أمّا الذين يمثّلون شخصية المدرس الجامعي الحقيقي من أمثال الدكتور ناصر الدين الأسد ونهاد الموسى فقلّة قليلة جدّا ؛ لذلك لا يستغرب أن يمضي الطالب عدّة سنوات في الجامعة وهو لا يعرف أين تقع مكتبتها , وقد يحصل على الشهادة الجامعية الأولى التي لا تقل عن أربعة وأربعين مساقا وهو لم يقدّم بحثا واحدا أو تقريرا موجزا !! أمّا معيار العلامة والتقدير فلا علاقة له غالبا بالتحصيل وإنما يخضع لاعتبارات أخرى لا علاقة لها بالجدّ والاجتهاد والدرس والتحصيل .
أرجو ألا يتوهم البعض بأنّ هذه مجرد تجربة شخصية مرّ بها كاتب هذه السطور , فلا تمثّل ظاهرة عامّة ,لقد استقصيت عن أحوال زملائي في الكليات والجامعات الأخرى , وبقيت على تواصل مع الطلبة الجامعيين حتى هذه اللحظة , وقد هالني أنّ الأمور تسير نحو الانحدار عاما بعد عام , أقارن بين مستوى الجامعات والمدارس في أوائل الثمانيات مع مستوى جامعاتنا ومدارسنا ونحن في العقد الثاني من الألفية الثالثة فأصاب بالرعب والإحباط واليأس , فعلى الرغم من تدني المستوى في تلك الفترة فإنّه يعدّ تقدما قياسا مع ما يجري اليوم .... يخيّل لي إنّ التعليم المدرسي والجامعي قد أندفع بقوّة في بداياته ثم وقف في عقد الثمانيات وليته تراجع القهقرى ؛ لأنّ سير القهقرى بطيئا , ولكنه لأمر ما استدار للخلف وبدأ يجري جريا سريعا ....
4. محاربة العمل السياسي الحقيقي في أوساط الطلبة : معلوم أن النشاط السياسي يوسع الأفق والمدارك , ويربي النفس على العمل الجماعي , ويولد روح الفريق , والحسّ بالمسؤولية تجاه قضايا المجتمع , ويدفع الإنسان للتزود بالعلم والثقافة , وينمي العلاقات الاجتماعية , وتجلت هذه الحرب في محاربة الطلبة الحزبيين في التوظيف والمناصب , والتلاعب في مجالس الطلبة
5. غياب مقياس "إن أكرمكم عند مجتمعكم أنفعكم له وأكثركم كفاءة وثقافة" إلى مقياس " وطنية اللسان, وعدم الاكتراث لمصير الإنسان والأوطان"، ولو تساوى ( القاري وذاك) لكان أرحم , ولكن ذاك فاز وأرتفع، "والقاري" جد وما أنتفع لا بل همش وقمع .
6. تحول مؤسسات التعليم إلى مؤسسات تجارية تبحث عن الربح، وتبيع شهادات بشروط يفرضها الزبائن حيث أصبح لدينا عشرات الجامعات تمنح الكرتونة المبروزة مقابل عشرة آلاف دينار تقريبا علاوة على ما سبق من جامعات أجنبية حولت معالي الشعب الأردني إلى شعب دال نقطة , وما فضيحة دكاترة إحدى الوزارات التي اكتشفها معالي الوزير الأمثل د. وليد المعاني عنّا ببعيد , وهي شهادات تشبه الأوراق التي أشار إليها د. سلطان أبو تايه في الفقرة التي اقتبستها آنفا , فالدكترة مزورة والشيخة مزورة , ونهتف عاش الوطن نهض الوطن , تقدّم الوطن !!!
7. رعاية العناصر التي تختلق المشكلات في الأوساط الطلابية فأحد هؤلاء العناصر مكث في إحدى الجامعات العريقة عشرة أعوام وهو يتنقل بين كلياتها كلما أخفق في كلية قبل بغيرها وكان يتلقف الطلبة المستجدين من أبناء العشائر ويبدأ بتعليمهم المسلكيات الغوغائية السيئة , والغريب المريب أنّ مثل هذا الصنف موجود في أغلب الجامعات , وعندما تحصل تلك المشاجرات لا يتعرض للمساءلة والعقوبة , وقصص هؤلاء معروفة مشهورة , والناس لا تجهل من ورائهم .
8. التساهل الأمني المكشوف مع ظاهرة العنف وعدم التدخل ففي إحدى الجامعات الخاصّة قبل عدّة أعوام كانت تجري معارك تستخدم فيها الرشاشات وتمرّ بدون مساءلة أو تحر أو عقوبة , والعجيب أنّ الأمن قد سحق انتفاضة طلاب اليرموك عندما طالبوا بحقوقهم في الثمانينات ولم يقف عاجزا !!!
9. والأسوأ من ذلك أن علية القوم يتدخلون لمنع الجامعات من اتخاذ عقوبات بحقّ المسيئين والمتورطين في ذلك العنف .
وفي هذا الجو الرهيب الكئيب بدأت تظهر الهويات القاتلة في معظم أقطار العرب منذ أكثر من عقدين من الزمن ربما كنتيجة طبيعية لهزيمة المشاريع النهضوية العربية بعد فاضحة الخليج الأولى , وربما تمهيد لما يجري الآن من مخطط تجزئة المجزأ وتقسيم المقسم , وكان من أبرز تلك الهويات : الهوية العشائرية التي تمّ بعثها من قبل جهلة لا يعرفون أصولها وأعرافها , فبعثت قبلية متوحشة مجردة من أعرافها ومنظومتها القانونية الرائعة وأخلاقها العالية، وظن باعثوها من أولئك الجهلة أن القبلية والعشائرية تعني الظلم والقسوة وسفك الدم وعدم الخضوع للحق وجهلوا أنها كيان اجتماعي إنساني تخضع لأنظمة وأعراف ومفاهيم لا يملك العاقل الذي يطلع عليها ويدرك أسرارها وحكمها إلا أن ينحني لها إجلالا , وتزامن ذلك مع تغوّل الفساد ونهب مقدرات الوطن وتهميش الشعب ومصادرة إرادته وانهيار مفهوم المواطنة فكانت الثمرة الطبيعية جيل يائس بائس ناقم على الجميع , كافر بالجميع ؛ لأنّه يعيش واقعا مزريا من الفقر والبطالة , ويرى أنّه لا سبيل لبناء حياته , ولا وسيلة لتكوين نفسه , ولم تعدّ شعارات الوطنية , والأهازيج الحماسية , وفزّاعات ( المنعطفات الحادّة ) ( والاستهداف ) ( والوطن البديل ) تعني له شيئا ....... وينظر إلى أُلهيات الشباب وشعارات "التنمية السياسية " وغيرها نظرة لامبالاة واحتقار ؛ لأنّه بحاجة إلى تعليم جامعي , وإلى عمل يعتاش منه , وإلى بناء بيت وزواج وتكوين أسرة , وكلّ هذه المطالب الملحّة عزيزة المنال على الغالبية العظمى إنّه كمريض يتمنى الموت من شدّة الألم فأمر طبيعي أن يكون عدوانيا شرسا يصنع له هويات جديدة بأعراف جديدة وأخلاقيات جديدة .
وأرجو أن أكون قد وفقت بالوصول لأسباب الظاهرة أو حمت حولها أمّا التوصيات والحلول فأتركها لأهل العقد والحل لأنّ معرفة السبب لا تبطل العجب فحسب ولكنها قد ترشد للعلاج .
فلاح أديهم المسلم بني صخر
الجمعة 20كانون الثاني 2012م
لقد تابعت ما تيسر لي الإطلاع عليه مما قيل وكتب حول هذا الشأن فكنت أشعر أنّه ثمّة أمور لا يقف عندها الدارسون ولا يلمون بها إلاّ لماما وبحديث عارض فيه من المعاريض والتورية ما يجعله خفيّا فكنت أحاول الابتعاد عن الحديث العلني عن هذا الملف الشائك المليء بالألغام والمخاطر لأسباب منها عدم الرغبة بنشر الغسيل على الملأ لأنّ النصيحة في العلن قد تكون فضيحة ؛ولاعتقادي بأنّ أهم أسباب الخلل يتمثّل في انهيار التعليم المدرسي فقد اقتصرت على الكتابة لذوي الشأن من المسؤولين عن الشأن التعليمي فكتبت مذكرة أو دراسة مطولة نسبيا إلى معالي وزير التربية السابق د. خالد طوقان في صيف عام 2004م قام بإيصالها له بعض النواب الفضلاء , وقدمت دراسة مشابهة لبعض القائمين على الشؤون التربوية ثم قدمت مذكرة مطولة إلى معالي وزير التربية والتعليم د. إبراهيم بدران ثمّ قدمت مثلها إلى معالي د. تيسير النعيمي ولم أتمكن من إيصالها إلى معالي د. وليد المعاني ومعالي د. خالد الكركي نظرا لقصر مدة بقائهما في وزارة التربية ومما جاء في تلك المذكرة " إنّ أول مراحل علاج المعضلات الاجتماعية هو معرفتها , الاعتراف بها , وعدم إنكارها , وليس معنى الاعتراف بها أن يعلن ذلك على الملأ فيؤدي لأضرار لا حصر لها , وإنما المقصود أن تنقل الرؤية والرأي إلى من يملك التغيير , وتصويب الأوضاع من ولاة الأمر , وأهل الحلّ والعقد , ولا يجوز طرح القضايا الكبرى على الدهماء إلاّ إذا يئس دعاة الإصلاح من تجاوب من بأيديهم مقاليد الأمور , وصلاحيات الأمر والنهي " والمؤسف أنني لم ألمس لتلك المذكرات أثرا إذ كانت الحال تسير من سيء إلى أسوأ فأيقنت أنّ محاولات الإصلاح ووقف الانحدار ضرب من الخيال .
وعندما بدأ الحراك الشعبي تفاءلت خيرا وظننت أنّه سيفتح هذا الملف بقوّة وأن يعطى من الاهتمام ما يتناسب مع خطورته وأهميته ولكن وبكل أسف لم يحظ بالعناية اللازمة نعم لقد جاء في وثيقة الجبهة الوطنية في بندها التاسع ما نصّه "أ -إعادة النظر جذرياً في سياسة التعليم،بهدف الارتقاء بنوعيته والعمل على ربط مناهجه ببرامج التنمية ومتطلباتها، واعتبار هذا الهدف أولوية في خطط الدولة وبرامج قطاع الأعمال والمجتمع المدني، وإعادة صياغة العلاقة بين التعليم والمنظومة الاجتماعية والاقتصادية بحيث يصبح التعليم ركناً أساسياً للارتقاء بنوعية الحياة في المجتمع الأردني." إلاّ أنّ الحديث عن هذا الجانب لم يعطى حقه في تصريحاتهم وندواتهم فيما أعلم , فيصنف الحديث في هذا المجال في الجانب الديكوري الذي تحرص عليه الأحزاب والتنظيمات رفعا للعتب وزركشة للبناء .
قدمت بهذه المقدمة الضرورية ليعلم القارئ الحصيف بأنني ما كنت راغبا بنشر الغسيل على الملأ , وما أنا بالباحث عن شهرة أو مرتبة فأغلب تلك المذكرات التي قدمتها طيلة السنوات لأولئك المسؤولين لم تكن تحمل اسمي أصلا , وما كان بيني وبينهم علاقة أو معرفة , أما وقد طلبني بعض الإخوة الفضلاء الكتابة في موضوع العنف الجامعي الذي يعدّ من أسبابه الرئيسية انهيار مستوى التعليم المدرسي فإنني لا أملك إلاّ الاستجابة وإن كان ذلك ربما سيثير دبابير الغوغاء الأغبياء الذين يحركهم خبثاء الأذكياء في زمن صمت فيه حكماء العقلاء ربما يأسا وإحباطا وربما لأسباب وجيهة لم يستطع الوصول إليها عقلي القاصر .
إنني أعتقد أن العنف الجامعي يعود لعاملين أساسيين كان للسياسة التدميرية الممنهجة للمجتمع الدور الأبرز فيهما , وهذان العاملان هما : مسخ العشائرية , ومسخ التعليم بسبب سيطرة الهاجس الأمني مما أدى إلى تعزيز قوى الفساد والإفساد , وتشرذم المجتمع وتفسخه , وانهيار منظومة القيم والأخلاق والأعراف التي تضبط السلوك المجتمعي والتي لا يمكن أن ينوب عنها القانون مهما كان مثاليا
أستأذن القارئ الكريم لندخل في صلب الموضوع لوضع النقاط على الحروف قدر المستطاع فإن أصبت فبتوفيق من الله وإن جانبت الصواب فمن نفسي التي طبيعتها النقص , ولنبدأ بالعامل الأول :
• مسخ العشائرية :
العشيرة والقبيلة هي شكل طبيعي من أشكل الاجتماع الإنساني،وهي في واقعها امتداد للأسرة، والإنسان كائن اجتماعي بالطبع لاعتبارات معاشية ، وأمنية ، ونفسية ، فكان ينضم إلى تجمعات طبيعية كالعشيرة والقبيلة،واخترع تجمعات صناعية مثل النقابات والأحزاب وغيرها،إلا أن الانتماء للأسرة ثم العشيرة،والقبيلة يتفوق على هذه التجمعات الصناعية لما لرابطة الدم من تأثير عاطفي فطري في النفوس،وأن كان هذا التأثير يقل كلما ابتعدنا عن نقطة الانطلاق (الأسرة) ثم العشيرة ثم القبيلة ثم الشعب،وكذلك يتفاوت هذا الشعور من فرد لأخر تبعا لأمور فطرية أو مكتسبة وذلك لحكم إلهية ليس هذا مكان بحثها .
ومن المعلوم أنه ما من اجتماع إنساني إلا ويكون على أساس أفكار موحدة يتولد عنها مشاعر موحدة ينتج عنها مفاهيم،وأعراف،وتقاليد لتنظيم السلوك الإنساني،وهي في البناء الطبيعي (القبلي) أشد تأثيرا في نفوس الأفراد،لأنهم يتوارثونها عن الآباء والأجداد بما يمثله هؤلاء من مهابة وإجلال وتقدير،ويلمسون مطابقتها لمصالحهم،ودفع الأذى عنهم فيكون الالتزام بها بدافع الاحترام أولا والاقتناع ثانيا.
وبناء على ما تقدم فإن الاجتماع بحد ذاته لا يعتبر شرا فهو أمر فطري في النفوس، ومن الحقوق المعترف بها دوليا،مثل حق الانضمام لأحزاب،أو النقابات،أو تشكيل الدول،فالبحث يجب أن ينصب على الأفكار والمفاهيم التي يقوم عليها هذا المجتمع فإن كانت سيئة نتج عنها سلوك سيء وان كانت حسنة نتج عنها مسلكيات حسنة،وما يقال عن أي تجمع فإنه ينطبق على الاجتماع القبلي،فإذا ساد قبيلة مفاهيم حسن الوفاء والصدق والشهامة والمروؤة فأن ذلك يؤثر في سلوكهم ويشتهرون به،وإن سادهم عكس هذه الصفات كانت النتيجة عكس الأولى،لذلك من المفروض على المصلحين الذين ساءهم ما لدى القبائل من سلبيات تقف عثرات أمام التقدم والرقي- أن يغيروا تلك المفاهيم والأفكار المنتجة لذلك السلوك،لا أن يتجهوا لتحطيم الكيانات القبلية، وإفسادها،مما زاد الأمور تخلفا وانحطاطا. ومن نافلة القول بأن الشرع الحنيف لا يحاربها ،وأول ما يطالعنا في هذا الشأن أن الله سبحانه وتعالى ذكرها في معرض الامتنان ،ولا يمكن أن يمتن علينا بما هو شر قال تعالى((يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير)) (13)سورة الحجرات، وتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تعامل مع القبائل بصفتها قبائل،ولم نلمس منه انتقادا لهذه الكيانات بل لمسنا منه العكس من ذلك،وذلك يظهر في كثير من الأدلة والأحكام منها على سبيل المثال:
أ-الثناء على بعض هذه القبائل بصفات حسنة اشتهرت بها ففي حديث صحيح قال صلى الله عليه وسلم "غفار غفر الله لها،وأسلم سالمها الله" وفي حديث آخر قال صلى الله علية وسلم قريش والأنصار ومزينة وجهينة وأسلم وغفار وأشجع موالي ليس لهم مولى دون الله ورسوله" وفي حديث قال صلى الله علية وسلم إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قل طعام عيالهم في المدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموا بينهم بالتسوية فهم مني وأنا منهم) وفي هذا النص الأخير مدح لسلوكهم القبلي للتعاون في مواجهة الفقر والحاجة .
ب-ترتيب كثير من الأحكام الشرعية على روابط الدم مثل الزواج والنفقات ودية القتل الخطأ والولاية على الدم .
ت-صح عنه صلى الله علية وسلم قوله " خيركم المدافع عن عشيرته ما لم يأثم " وجاء عن علي رضي الله عنه أنه قال:((لا يستغني الرجل وان كان ذا مال وولد عن عشيرته،ودفاعهم عنه بأيديهم وألسنتهم،هو أعظم الناس حيطة من وراءه،وأعطفهم عليه إن أصابته مصيبة أو نزل به بعض مكاره الأمور،ومن يقبض يده عن عشيرته فإنه يقبض عنهم يدا واحدة وتقبض عنه أيد كثيرة)) والخلاصة أن هذا أمر معلوم من الدين بالضرورة وفيما ذكرناه كافيا للغرض .
ويرى البعض أن القبيلة القوية المتماسكة تشكل خطرا على الدولة،وتحول دون تطبيق القانون على أفرادها، مما يجعلها على النقيض من مؤسسات الدولة، فضعفها قوة لدولة المؤسسات وقوتها ضعف ، وهذا القول فيه شيء من الوجاهة قليل , وفيه من التمويه والمغالطات الكثير، ولعل هذه من أشد المقولات تأثيرا،ومن أعظمها خطرا على الكيان القبلي .
ولتوضيح الحق في هذا نقول إن الدولة إما أن تكون نشأت بالقوة والقهر واستأثر رجالها بالمكاسب والمغانم،ولم يكن لديهم رسالة يحملونها للناس فهم في الواقع فئة مغتصبة متسلطة لا مسوغ لها إلا القوة وشهوة الحكم، وإما أن تكون هذه الدولة ذات رسالة سامية اقتنع بها الناس وخضعوا لهذه الدولة عن طواعية واختيار،وفي الحالة الأولى فإن قوة أي كيان داخل جسم هذه الدولة ((مثل القبائل والأحزاب والنقابات وسائر أشكال التجمع الإنساني)) إنما هو على حساب قوة هذه الدولة فهم يتعاملون معها بطريقة الخصم المنافس لا بطريقة الشريك المؤازر،وفي الحالة الثانية فإن قوة هذه التجمعات وخاصة القبلية هي قوة للدولة،والخطر الداخلي عليها إنما يأتي من طريقين :_
الأول :وجود تكتلات تقوم على أفكار ومفاهيم تخالف رسالة الدولة وتناقضها وتسعى للتأثير على الشعب وإقناعه بما لديها.
والثاني: تخلي الدولة عن رسالتها أو عجزها عن إبقاء هذه الرسالة مؤثرة في النفوس لسبب أو لآخر، فتخف روابط الود بينها وبين الناس بالتدريج حتى تتلاشى ولا يبقى من رابط بين الناس والدولة إلا القوة والقهر.
والخلاصة هنا أنّ المجتمع الأردني كان مجتمعا عشائريا قائما على منظومة من الأعراف والقيم والأخلاق الراقية التي مكنته من التعايش طيلة قرون مضت غابت فيها سلطة الدولة ونفوذها , ولولا تلك المنظومة وقدرتها على تحقيق الأمن النسبي في ظل غياب السلطة لتفانى الناس , وعندما قامت الدولة الأردنية الحديثة تعرضت العشائرية بصفتها منظومة قانونية وأخلاقية إلى هجوم عنيف من قبل الفئات التالية :
الفئة الأولى: دعاة التغريب الذين آمنوا بفكر الغرب بشقيه الرأسمالي والاشتراكي , وانبهروا بما وصل إليه من تقدم في جميع مجالات الحياة , وكلا الفكرين يتناقضان مع العقلية العربية وموروثها الفكري والحضاري وقد وصلت الجرأة ببعضهم لأن يصدر كتابا عام 1972م تحت عنوان "شريعة العشائر في الوطن العربي " جاء في بابه الثامن تحميل العشائرية مسؤولية هزيمة الدول العربية أمام إسرائيل , والتفتت والانقسام في المجتمع العربي , وعدم الولاء للوطن , وإغراق المجتمع بالعادات والتقاليد العشائرية , وقال في ذلك الكتاب في العشائرية وأعرافها ما لم يقله مالك في الخمر , وما كان ذلك الكتاب إلاّ طرفا ضئيلا من تلك الحرب الظالمة التي شنّها دعاة التغريب والتنوير على العشائرية , ونظرا لتفشي الأمية في أوساط العشائر فقد وقف غالبية أبنائها ما بين مبهور بتلك الأطروحات خجل من انتمائه العشائري , أو مقهور عاجز عن الردّ , والعجيب أنّ الذي أنصف العشائر ودافع عن تلك الثروة القانونية المدهشة، والتي تتفوق في معظم جوانبها على ما وصل إليه عباقرة القانونين وواضعي النظم من البشر هو رجل حقوقي ليس من أبناء القبائل المسماة بقانون الإشراف على البدو وإنما كان من أبناء عشائر الحواضر وهو الأستاذ الدكتور الحقوقي محمد حمدان أبو حسان في كتابه تراث البدو القضائي الذي طبع أول طبعة عام 1974م , ونظرا لأنّ المتعلمين من أبناء العشائر لم يكن لديهم اهتمام بهذا الجانب , ونظرا لأنّ شيوخ العشائر كانوا غير متعلمين فإن كتاب أ.د. محمد أبي حسان لم يكن له تأثير يذكر في وجه ذلك الهجوم الممنهج العنيف .
الفئة الثانية:الحركات الإسلامية المعاصرة يدفعها في ذلك رد فعل على حركة القومية العربية التي اعتبروها مناقضة للإسلام ، ورغبة بإظهار الإسلام دين مساواة لا يفرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى، ولجهلهم بواقع العشائر وكيفية التعامل معها لأنّ أغلب قيادات تلك الحركات ما كانت من أبناء العشائر الكبرى المؤثرة , ومن كان من أبناء تلك العشائر فقد تعرّض لعملية غسيل دماغ بما تلقنه من أفكار الشعوبية القديمة التي بعثت من مرقدها وخرجت بثياب المساواة والعدل , فكان عجز القائمين على الحركات الإسلامية عن فهم طبيعة المجتمع العربي العشائري من أهم أسباب محاربة العشائرية ووصمها بالجاهلية والجهل والتعصّب الأعمى .
الفئة الثالثة:فهم من ذوي الأهواء والمصالح الشخصية ممن يفتقرون إلى الأصول العريقة من بقايا علوج العجم أصحاب الحركات الشعوبية السابقة،أو ممن يشعرون بالدونية من العرب ممن قعدت بهم أفعالهم وحسابهم عن مجاراة الآخرين،أو ممن ساعدتهم الظروف وأصبحوا ممن يشار إليهم بالبنان،إلا أنهم يفتقرون للحسب والنسب , فشنّ هذا الصنف هجوما عنيفا على العشائرية ورموزها وزعمائها , وعزز هذا الهجوم ما آلت إليه أحوال الزعامة القبلية من انحراف عن مناهج وتقاليد الزعامة العربية الموروثة التي كانت تمثل دور الأب للأتباع بما يعنيه هذا الوصف من حرص من قبل هذا الشيخ على أتباعه ودوره التربوي الفاعل وما يقابله من تقدير وإجلال في نفوس الأتباع ثم آل الأمر لرجال أهمتهم أنفسهم، وانساقوا وراء مصالحهم الخاصة، دونما التفات لمصالح الناس وهمومهم، إلا بما يرون منه مصلحة شخصية وتولدت قناعة في نفوس أبناء هذه العشائر بأنهم يعيشون في واد وشيوخهم في واد آخر، ونتيجة لذلك تعرضت الزعامة التقليدية لهجوم قوي من أبناء القبيلة، وللنزاهة ودقة التعبير نقول: إن مسلكهم المخالف لما كان عليه آباؤهم قد أعطى المهاجمين المسوغ والسند على اختلاف أهوائهم وأهدافهم ونتج عن هذا الواقع المزيد من التشرذم والانقسام، وانشغل الناس في هذا الأمر ولا يزالون .
الفئة الرابعة : المؤسسة الرسمية وسياستها في مسخ الزعامة القبلية:
إن الزعامة والوجاهة المعبر عنهما باسم (الشيخة) لها مقومات أساسية، ويترتب عليها أعباء ثقيلة، وأمور مكلفة، إلا أنها في العقود الثلاثة الماضية بدأت تفقد مقوماتها , وشروطها , وأصبحت رخيصة الثمن , سهلة المنال , وكأن الشاعر يقصدها حيث يقول:
لقد هزلت حتى بدت كلاها من هزالها وحتى سامها كل مفلس
فلم تعد تكلف إلا ثيابا ثمينة ، وعلاقات مع بعض المسؤولين ، وصغار الموظفين، وأصبح كل أفراد عشائر الشيوخ المعروفين شيوخا ووجهاء لمجرد مشاركتهم الشيخ المعروف باسم عشيرته ، وكل من كان لأجداده القدماء دور في الزعامة يحاول إبرازها ليتوسل بها إلى الوجاهة والشيخة ، وكل من لديه قليل من المال ، وكون علاقة مع قائد شرطة يرى في نفسه الأهلية للحصول على لقب الوجاهة والشيخة ...وهكذا حتى أصبح لدينا كم هائل من الشيوخ والوجهاء ربما زاد عددهم عن عددنا معشر الأتباع .
وهنا أستعير ما قاله الدكتور سلطان أبو تايه (وتتلخص هذه السياسة بإصدار ورقة تعلن عن ولادة شيخ جديد , ووجه للربع لم تكتشفه كل معايير وقيم العشائر قادما من رحم زمن الرويبضة إلى عباءة من على شاكلته كما الطيور على صورها تقع.. وها هي مستشارية العشائر تقدمه لهم على طبق من ذهب مع كل امتيازات هذه الورقة من حقوق قابلة للتوريث ،فمن مكافأة شهريه تتراوح بين 120 دينار للشيخ المبتدئ إلى 220 دينار لمن أمضى سنوات أطول في الخدمة .ومن امتيازات هذه الورقة أيضا الأولوية في حضور كل الدعوات الرسمية والملكية في المناسبات الوطنية والأعياد الرسمية .مما اسمعه في المجالس وقمت بالتثبت منه عيانا ، أن هؤلاء الدمى المعينين رسميا لا يطلب منهم الجلوس في مكاتب ليؤدوا المهام المطلوبة منهم ، فكل ما هو مطلوب من هؤلاء الشيوخ الجدد ، سرعة البديهة كي يفهم ، بالتلميح على سيادة المستشار،بأن الوقت قد حان لكي يتحدث بلغة عربيه مكسرة باسم العشيرة ليعبر عن ارتياح العشيرة الشديد لسبب ما ، ربما أراده صاحب السيادة ، أو التعبير عن الغضب الشديد وعدم ارتياح العشيرة لموضوع ما ، ربما أغضب سيادته .... )) انتهى من مقالة " الهواء الذي ربما يشعل النار تحت الرماد " على موقع كلّ الأردن بتاريخ 19/2/2011م .
والنتيجة الطبيعية لما ورد ذكره أنّ الدور التربوي للعشيرة قد قضي عليه منذ أكثر من ثلاثين عاما , وغاب دور " مدرسة المجالس " ونشأت عندنا أجيال انقلبت على ما ورثته من أعراف راقية , وعادات حسنة وأخلاق حميدة، فصار المراقب يلاحظ سيادة روح (العبثية) لدى معظم الشباب الذين لا يرون في الحياة إلا مسرحية تافهة، لذلك فإن همهم الشاغل هو اقتناص اللذات، واللامبالاة تجاه القضايا العامة، وغياب التفكير المسئول وانعدام الجدية في الفكر والسلوك، يضاف إلى سيادة هذه الروح ذلك الانقلاب الهائل في المفاهيم والسلوك والأخلاق، فصارت الجرائم الأخلاقية شبه عادية، ولم يعد الجاني يتعرض إلى ما يتعرض له سابقا من ازدراء واحتقار، فقد كان في الماضي القريب ينظر للجرائم الأخلاقية بمقت شديد، تؤدي إلى إسقاط اعتبار الجاني اجتماعيا وتلحق العار بأهله وعشيرته مما يشكل رادعا ذاتيا عن السقوط بها، فأصبح الأمر مختلفا فلم تعد هذه الجرائم، والرتوع في الشهوات المحرمة عائقا أمام الارتقاء بالسلم الاجتماعي.... .
لقد كانت سياسة تتفيه المشيخة العشائرية , وإسنادها لغير الأكفياء هو مؤامرة على كيان الدولة , وتهديد لأمنها , ولا أزال أذكر أنّ جلالة الملك الحسين بن طلال رحمه الله قد ذهب لإحدى المحافظات المضطربة , فأعلن أنّه تفاجأ بأنّ شيوخ الناس الرسميين عاجزون عن السيطرة على الناس وتهدئتهم , وكان المفترض بالحكومات المتعاقبة أن تلتفت لهذا الأمر منذ تلك الحادثة التي مرّ عليه أكثر من عشرين عاما لتعالج هذا الخلل .
ولو اقتصر الدور التخريبي على الجانب المتعلق بالزعامة القبلية لهان وهو ليس بالهين ولكن جاءت أم الكوارث بقانون الصوت الواحد في الانتخابات البرلمانية الذي أجهز على النسيج الاجتماعي المتهالك , وأطلق عليه رصاصة الرحمة بتقطيعه أوصال المجتمع ورفض قيام أي نوع من التعاون والتحالف بين شرائحه , وأزداد القائمون على الأمر تماديا في هذا المسلك التخريبي عندما أجروا الانتخابات البلدية الماضية على نظام الصوت الواحد للأعضاء فمنعوا التحالف بين الناس , وتشكيل الكتل المتجانسة .
ورافق ذلك الخلل الواضح الفاضح في إجراءات التقاضي التي كانت ولا زالت مضيعة للحقوق علاوة على إن القانون وخاصّة قانون العقوبات الأردني يتناقض مع العقلية العربية يظهر ذلك في المواد التي تتعلق بجنايات القتل والإيذاء والعرض والكرامة وما شاكل ذلك، والناس لا يحترمون القانون إلا إذا اقتنعوا فيه ورأوا فيه حارسا للقيم والمثل التي يؤمنون بها، ويضحون من أجلها، والعجز عن تغيير عقلية المجتمع لتتفق مع القانون .
هذا بعض ما يتعلق بالعامل الأول " مسخ العشائرية " أمّا العامل الثاني " مسخ التعليم " فقصته تبدأ من غياب رسالة الدولة التي تعطيها الشرعية ولتوضيح ذلك سبق وإن قلت "إن الدولة إما أن تكون نشأت بالقوة والقهر واستأثر رجالها بالمكاسب والمغانم،ولم يكن لديهم رسالة يحملونها للناس فهم في الواقع فئة مغتصبة متسلطة لا مسوغ لها إلا القوة وشهوة الحكم، وإما أن تكون هذه الدولة ذات رسالة سامية اقتنع بها الناس وخضعوا لهذه الدولة عن طواعية واختيار " ....وإذا نظرنا إلى واقع الدولة الهاشمية في الأردن فإننا نرى أنها الدولة الوحيدة في آسيا العربية_ باستثناء مشيخات _الخليج التي قامت على الولاء والاقتناع والحب،وغيرها لم تقم إلا بعد نزاعات وسفك دماء , وأنّ هذه الدولة تحمل مشروعا عربيا نهضويا يناقض المشروع الاستعماري الغربي المتمثل بكيانات ((سايكس _بيكو )) ، وهذا المشروع النهضوي هو الذي قامت من أجله الثورة العربية الكبرى بقيادة الشريف الحسين بن علي رحمه الله ، ذلك المشروع الذي ظل الاستعمار وعملاؤه يحاربونه حتى حصروه في الأردن ، وظلت القيادة الهاشمية متمسكة بهذا المشروع قدر المستطاع على الرغم من الضغوطات الخارجية والداخلية، والخلاصة أن الدولة الهاشمية في الأردن هي دولة ذات رسالة سامية متمثلة بمبادئ الثورة العربية الكبرى وبتراث آل بيت النبي صلى الله علية وسلم.
إلاّ أنّ هذا المشروع بدأ يغيب ويذوب لأنّ أمور الدولة في العقود الماضية أسندت إلى رجال رسخّوا ثقافة الانتفاع على ثقافة الانتماء , ولم تظهر شخصيات قيادية قادرة على كسب ثقة الناس وحبهم باستثناء شخصية جلالة الملك , وعجز الإعلام الرسمي عن تسويق سياسة الدولة وإبقاء مشروعها النهضوي حيّا في النفوس , ومعلوم أنّ الإخلاص في العمل هو وليد القناعة الفكرية بقضية كبرى ورسالة سامية تدفع حاملها للتفاني من أجلها , والكبار والقادة هم الذين يمثّلون " دينمو الفكرة والرسالة أو القضية " وسلوكهم هو البرهان على إيمانهم بها وإذا ما شاهد الأتباع تناقضا بين سلوك القادة وما يطرحونه من أفكار يصلون إلى قناعة بأنّ هؤلاء القادة يستخدمون تلك الأفكار للضحك على ذقون المغفلين , فترتب على ذلك ظهور تيار من الأتباع يمتهن المزايدة , والتشدّق بأفكار الثورة العربية الكبرى ومبادئها تقليدا للكبار ويحاربها بسلوكه وعمله لأنّ الأمور في نظره إن هي إلاّ كلام في كلام فأحرص على ما ينفعك ودع عنك القضايا العامة والإخلاص في الخدمة , والحرص على التسلح بالعلم والثقافة إن هو إلاّ بضاعة الحمقى والمغفلين فتلك أمور لا تطعم خبزا , وأصبحت بضاعة المزايدة الفارغة غير المخلصة هي الرائجة والمحظية من قبل الجهات الرسمية ..... وقد ترتب على هذا الخلل الفظيع ما يلي :
1. محاربة الكفاءات التربوية وذلك أنّ أغلب الكفاءات التربوية والقائمة على التعليم والتوجيه في مختلف القطاعات كانت تنتمي لأحزاب ممنوعة فكانت تتعرض للتضيق والفصل والسجن والتهميش .
2. التساهل في أمر التعليم حيث كان في الماضي امتحان المترك والتوجيهي لا يتجاوزه إلاّ القليل , ولا يتفوق فيه إلاّ نجباء الطلبة , وبالتالي لا يصل للجامعات إلاّ الطلبة النجباء المقتدرون على مواصلة التعليم , ثمّ أصبحت المدارس تدفع سنويا بعشرات الآلاف من الطلبة وبمعدلات خيالية ففي العام الماضي حصل أكثر من 25% من الناجحين على معدلات فوق التسعين , ومن لم تسعفه هذه الفوضى بالحصول على معدل عال أسعفته وصفة الأقل حظّا التجهيلية التي جعلت الطالب يتنافسون على المعدلات المتدنية حيث يجني المعدل العالي على صاحبه أفدح الأضرار , ويتم ذلك بصمت غريب مريب مما دفع النائب الأسبق د. غازي الزبن لأن يقول في إحدى جلسات مجلس النواب عندما تطرّق لهذه الكارثة التآمرية على التعليم " أنقول هي ظلم أم لؤم أم كلاهما معا " !! وأنا أقول بل هي مؤامرة مدروسة يراد منها إبقاء الأمية مقنعة بشهادات جامعية ؛ لإيمان المتآمرين بأنّ العلم نور وهم لن يستطيعوا ممارسة فسادهم وإفسادهم إلاّ بالظلام .
3. السكوت عن تدني مستوى التعليم الجامعي : كان لكلمة الجامعة وقعا مهيبا على النفوس في الماضي , وعندما كنّا طلابا في المدارس في ثمانيات القرن العشرين كنّا نسمع أنّ الجامعة تختلف عن المدرسة , فالمدرسون فيها علماء كبار , ولا يوجد مناهج مقررة كالمدرسة , وإنما يقوم الدكتور بإعطاء التلاميذ مفاتيح العلوم , ومناهج البحث , ويوسّع مداركهم بالأسئلة التي تحفّزهم للبحث والتنقيب , فيمضي الطالب فترة الدراسة الجامعية بين قاعات الدرس , وقاعات المكتبة , والتحاور مع الزملاء , ولا مكان فيها لكسل أو فراغ .... هذا ما كنّا نتخيله أو نسمع عنه , ويشطح بنا الخيال فنظنّ أننا سنمر بتجربة شبيهة بتجربة د. طه حسين !! وعندما وصلنا الجامعة اكتشفنا ما أكتشفه الأسد في الحمار كثير من الأساتذة يمضون المحاضرات بالحديث عن أنفسهم وأمجادهم في دنيا الفكر والسياسة والفن مع أنهم يعلمون علم اليقين أنّهم سيغادرون هذه الحياة ولا يخلفون فيها بصمة واحدة , وبعضهم جمّع نصوصا من كتب الآخرين , ونسّقها , وأصدر بها كتابا , وفرض على طلاب مادته شرائه , فأستبدل الطالب الكتاب المدرسي الموثّق الذي تؤلفه لجنة من المتخصصين , والذي يخضع للتعديل والتنقيح بناء على آراء أصحاب العلم والخبرة بكتاب جمع فيه ما هبّ ودبّ ّ!! ومنهم من ينسخ نصوصا من بعض الكتب ويمليها على الطلاب فتمضي محاضرته بقراءة ونسخ !! أمّا الذين يمثّلون شخصية المدرس الجامعي الحقيقي من أمثال الدكتور ناصر الدين الأسد ونهاد الموسى فقلّة قليلة جدّا ؛ لذلك لا يستغرب أن يمضي الطالب عدّة سنوات في الجامعة وهو لا يعرف أين تقع مكتبتها , وقد يحصل على الشهادة الجامعية الأولى التي لا تقل عن أربعة وأربعين مساقا وهو لم يقدّم بحثا واحدا أو تقريرا موجزا !! أمّا معيار العلامة والتقدير فلا علاقة له غالبا بالتحصيل وإنما يخضع لاعتبارات أخرى لا علاقة لها بالجدّ والاجتهاد والدرس والتحصيل .
أرجو ألا يتوهم البعض بأنّ هذه مجرد تجربة شخصية مرّ بها كاتب هذه السطور , فلا تمثّل ظاهرة عامّة ,لقد استقصيت عن أحوال زملائي في الكليات والجامعات الأخرى , وبقيت على تواصل مع الطلبة الجامعيين حتى هذه اللحظة , وقد هالني أنّ الأمور تسير نحو الانحدار عاما بعد عام , أقارن بين مستوى الجامعات والمدارس في أوائل الثمانيات مع مستوى جامعاتنا ومدارسنا ونحن في العقد الثاني من الألفية الثالثة فأصاب بالرعب والإحباط واليأس , فعلى الرغم من تدني المستوى في تلك الفترة فإنّه يعدّ تقدما قياسا مع ما يجري اليوم .... يخيّل لي إنّ التعليم المدرسي والجامعي قد أندفع بقوّة في بداياته ثم وقف في عقد الثمانيات وليته تراجع القهقرى ؛ لأنّ سير القهقرى بطيئا , ولكنه لأمر ما استدار للخلف وبدأ يجري جريا سريعا ....
4. محاربة العمل السياسي الحقيقي في أوساط الطلبة : معلوم أن النشاط السياسي يوسع الأفق والمدارك , ويربي النفس على العمل الجماعي , ويولد روح الفريق , والحسّ بالمسؤولية تجاه قضايا المجتمع , ويدفع الإنسان للتزود بالعلم والثقافة , وينمي العلاقات الاجتماعية , وتجلت هذه الحرب في محاربة الطلبة الحزبيين في التوظيف والمناصب , والتلاعب في مجالس الطلبة
5. غياب مقياس "إن أكرمكم عند مجتمعكم أنفعكم له وأكثركم كفاءة وثقافة" إلى مقياس " وطنية اللسان, وعدم الاكتراث لمصير الإنسان والأوطان"، ولو تساوى ( القاري وذاك) لكان أرحم , ولكن ذاك فاز وأرتفع، "والقاري" جد وما أنتفع لا بل همش وقمع .
6. تحول مؤسسات التعليم إلى مؤسسات تجارية تبحث عن الربح، وتبيع شهادات بشروط يفرضها الزبائن حيث أصبح لدينا عشرات الجامعات تمنح الكرتونة المبروزة مقابل عشرة آلاف دينار تقريبا علاوة على ما سبق من جامعات أجنبية حولت معالي الشعب الأردني إلى شعب دال نقطة , وما فضيحة دكاترة إحدى الوزارات التي اكتشفها معالي الوزير الأمثل د. وليد المعاني عنّا ببعيد , وهي شهادات تشبه الأوراق التي أشار إليها د. سلطان أبو تايه في الفقرة التي اقتبستها آنفا , فالدكترة مزورة والشيخة مزورة , ونهتف عاش الوطن نهض الوطن , تقدّم الوطن !!!
7. رعاية العناصر التي تختلق المشكلات في الأوساط الطلابية فأحد هؤلاء العناصر مكث في إحدى الجامعات العريقة عشرة أعوام وهو يتنقل بين كلياتها كلما أخفق في كلية قبل بغيرها وكان يتلقف الطلبة المستجدين من أبناء العشائر ويبدأ بتعليمهم المسلكيات الغوغائية السيئة , والغريب المريب أنّ مثل هذا الصنف موجود في أغلب الجامعات , وعندما تحصل تلك المشاجرات لا يتعرض للمساءلة والعقوبة , وقصص هؤلاء معروفة مشهورة , والناس لا تجهل من ورائهم .
8. التساهل الأمني المكشوف مع ظاهرة العنف وعدم التدخل ففي إحدى الجامعات الخاصّة قبل عدّة أعوام كانت تجري معارك تستخدم فيها الرشاشات وتمرّ بدون مساءلة أو تحر أو عقوبة , والعجيب أنّ الأمن قد سحق انتفاضة طلاب اليرموك عندما طالبوا بحقوقهم في الثمانينات ولم يقف عاجزا !!!
9. والأسوأ من ذلك أن علية القوم يتدخلون لمنع الجامعات من اتخاذ عقوبات بحقّ المسيئين والمتورطين في ذلك العنف .
وفي هذا الجو الرهيب الكئيب بدأت تظهر الهويات القاتلة في معظم أقطار العرب منذ أكثر من عقدين من الزمن ربما كنتيجة طبيعية لهزيمة المشاريع النهضوية العربية بعد فاضحة الخليج الأولى , وربما تمهيد لما يجري الآن من مخطط تجزئة المجزأ وتقسيم المقسم , وكان من أبرز تلك الهويات : الهوية العشائرية التي تمّ بعثها من قبل جهلة لا يعرفون أصولها وأعرافها , فبعثت قبلية متوحشة مجردة من أعرافها ومنظومتها القانونية الرائعة وأخلاقها العالية، وظن باعثوها من أولئك الجهلة أن القبلية والعشائرية تعني الظلم والقسوة وسفك الدم وعدم الخضوع للحق وجهلوا أنها كيان اجتماعي إنساني تخضع لأنظمة وأعراف ومفاهيم لا يملك العاقل الذي يطلع عليها ويدرك أسرارها وحكمها إلا أن ينحني لها إجلالا , وتزامن ذلك مع تغوّل الفساد ونهب مقدرات الوطن وتهميش الشعب ومصادرة إرادته وانهيار مفهوم المواطنة فكانت الثمرة الطبيعية جيل يائس بائس ناقم على الجميع , كافر بالجميع ؛ لأنّه يعيش واقعا مزريا من الفقر والبطالة , ويرى أنّه لا سبيل لبناء حياته , ولا وسيلة لتكوين نفسه , ولم تعدّ شعارات الوطنية , والأهازيج الحماسية , وفزّاعات ( المنعطفات الحادّة ) ( والاستهداف ) ( والوطن البديل ) تعني له شيئا ....... وينظر إلى أُلهيات الشباب وشعارات "التنمية السياسية " وغيرها نظرة لامبالاة واحتقار ؛ لأنّه بحاجة إلى تعليم جامعي , وإلى عمل يعتاش منه , وإلى بناء بيت وزواج وتكوين أسرة , وكلّ هذه المطالب الملحّة عزيزة المنال على الغالبية العظمى إنّه كمريض يتمنى الموت من شدّة الألم فأمر طبيعي أن يكون عدوانيا شرسا يصنع له هويات جديدة بأعراف جديدة وأخلاقيات جديدة .
وأرجو أن أكون قد وفقت بالوصول لأسباب الظاهرة أو حمت حولها أمّا التوصيات والحلول فأتركها لأهل العقد والحل لأنّ معرفة السبب لا تبطل العجب فحسب ولكنها قد ترشد للعلاج .
فلاح أديهم المسلم بني صخر
الجمعة 20كانون الثاني 2012م