لغتنا العربيّة: جذور وانتماء ‏

أخبار البلد-

سلامٌ عليكِ أيّتها اللّغة السّاحرة الآسرة الأخّاذة، الّتي تَحمِلُ في بحرِها الزّخّار أجملَ اللآلئ ‏وأبهى الدّرر من الأدب والشّعر والنّثر والنّقد والفلسفة والبلاغة. أطوّف في روابيكِ الغنّاء، ‏وأَجوب في خمائلِكِ الفيحاء، ألتفت ذاتَ اليمين فألقى بلبلًا صدّاحًا ينثر على الأغصان تَهيامَهُ ‏بالأحبّاء المقيمين، وأنظر ذاتَ الشِّمال فأصغي إلى عندليب غرّيد يرنّم على الأفنان ويبعث في ‏الأرجاء البعيدة عشقَهُ للأرض والوطن، وأميل بالسّمع إلى شحرور يشدو على الأملود النّديّ، ‏ويرسل الأغاريد في لُجّة الفجر السّطّاع، حين تَنهَض الشّمس من حُلْكة اللّيل الدّامس وتَبسطُ ‏أشعّتَها على رؤوس الجبال وأكتاف الأودية، حيث يتدلّى النّدى على أنامل السّنديان والغار عند ‏تلك القرى الهادئة الوادعة من الجليل الأشمّ. ‏

إِيهِ أيّتها اللّغة الحبيبة! يا حسناء اللّغات وسيّدة الكلمات! أولئك الشّعراء والأدباء والنّقّاد ‏والعلماء، يهتفون على أفانين الفصاحة والبلاغة في حدائقك النّاضرة البديعة، وينهلون من أنهار ‏الجزالة والبيان في روابيك العاطرة، أسمع صدى أقلامِهم ورَجْعَ قرائحِهم يتردّد على مسامع ‏الدّهر وآذان اللّيالي، فأطاول السّحاب طربًا، وأسمو إلى الكواكب فخرًا بما فيكِ من كنور ‏وذخائر في الأدب والشّعر والعلوم.‏

هذا امرؤ القيس يقف على أطلال محبوبتِهِ ويبحث عن فؤادِهِ الدّفين تحت أطباق الذّكريات ‏ولواعج الأشواق، وذاك أبو فراس الحمدانيّ يغالب الشّدائد ويقارع الخطوب، عصيَّ الدّمع ثابتَ ‏الجأش، يَبُثُّ تباريح الحنين في الأسر إلى أمِّهِ ووطنِهِ، ويناجي جارته الملوّعة، حمامةً ورقاءَ ‏تنوح قربه مسائلًا «أَيَا جَارَتَا هَلْ تَشْعُرِينَ بِحَالِي؟!»، وهذا المتنبّي، يسمو إلى المعالي، ويطمح ‏إلى العظائم، ويَنثُرُ سبائك الحكمة على ألسنة الدّهر واللّيالي، فتردّد ما يقول: «تُرِيدِينَ لُقْيَانَ ‏ٱلْمَعَالِي رَخِيصَةً / وَلَا بُدَّ دُونَ ٱلشَّهْدِ مِنْ إِبَرِ ٱلنَّحْلِ»؛ وهذه ليلى الأخيليّة، شحرورة الشّعر ‏ونرجسة الفصاحة، تسعى إلى غاياتها السّامية، بعيدةَ الهمّة، ماضيةَ العزم، عفيفةَ النّفس، وتَؤُمُّ ‏الخليفة والأمير، وتلقي أجمل القصائد في محبوبها، ثمّ تفاخر بقومها وآبائها وأسلافها. وذاك ‏الفتى اللّبيب الأريب سيبويه، اللّغويّ الألمعيّ، يسير إلى منازل الأعراب من أرض العراق، ‏ليسألهم عن مسألة لغويّة أنفق شطرًا بعيدًا من اللّيل وهو يفكّر في أمرها، ويتدبّر معناها، ويُروّي ‏في دلالتها، لا يجد تفسيرًا لها إلّا بالنّظر والبحث والاستقصاء.‏

هذه ومضة من كواكب الشّعراء، وبيارق الأدباء، ومصابيح العلماء، ممّن نثروا كنوزَهم النّفيسة ‏في آفاق اللّغة العربيّة، فظلّت آثارُهم وهّاجة على وَثَبات الدّهر وتطاول الأعوام. هي لغتي ‏الحبيبة، وتراثي العريق، وإرثي التّليد، أسرّح النّظر فيه، فأجده مَدعاةً للإباء والعنفوان، ومبعثًا ‏للشّموخ والفخر بهذه اللّغة الحافلة ببدائع المؤلّفات، وروائع الكتب، وفرائد الأدب، وعيون ‏الأشعار، ونفائس الآثار في اللّغة والبلاغة والفصاحة والنّقد والنّحو والصّرف. ‏

ولعلّ أَخَصَّ المظاهر التي تسترعي الانتباه في لغتنا العربيّة أنّها تمتاز بغزارة الألفاظ ودقّة ‏التّصوير، لا تبخل على أبنائها بالألفاظ والأوصاف، وإنّما تسخو هذا السّخاء الباهر الذي لا نكاد ‏نلقى نظيرَهُ في سائر لغات العالم. فإذا أردنا التّعبير عن الفرح، خَفَّتِ الألفاظُ وتدفّقت الكلمات، ‏كالسّعادة، والبهجة، والسّرور، والحُبُور، والجَذَل. وإذا أردنا الحُبّ، وجدنا العشق، والهوى، ‏والهُيَام، والجَوَى، والشّغف، والكَلَف. وهي ألفاظ كثيرة يمتاز كلّ لفظ منها بمعناه الدّقيق. ثمّ إنّ ‏هذه الوفرة من الكلمات والعبارات قد أتاحت للّغة أن تكون على غاية من الدّقّة في تصوير ‏المشاهد والمعاني، فنقول: الأسود الحالك، والأبيض النّاصع، والأحمر القاني، والأصفر الفاقع. ‏والوجه اسم عامّ، والمُحَيَّا هو الوجه المبتسم (عند التّحيّة). والدُّوار كلمة عامّة، والهُدَام هو الدُّوار ‏الذي يصيب الإنسان في البحر. والصَّبُوح شراب الصّباح، والقَيْل شراب الظّهيرة، والغَبُوق ‏شراب العشاء. والسّير فعل عامّ، والإسراء هو السّير ليلًا. والتّقريظ مدحُ الإنسان حيًّا، والتّأبين ‏مدحُهُ ميتًا. ثمّ إنّنا نلقى هذه الدّقّة في أسماء الإشارة الّتي تكشف عن المسافة بين المتكلّم والمشار ‏إليه، فنقول: هذا الرّجل (للقريب)، وذاك الرّجل (للمتوسّط)، وذلك الرّجل (للبعيد)، وقد سمّى ‏العرب هذه اللّام في كلمة «ذلك» «لام البُعْد».‏

فلا عجب بعد هذا كلّه أن نلقى اللّغة العربيّة تَرفُل في ثوب أدبيّ أنيق، وتزدان بأساليب كثيرة ‏في البلاغة والفصاحة والبيان، كالتّشبيه، والاستعارة، والكناية، والجِنَاس، والتّورية، وما لا ‏يستحيل بالانعكاس، وهو أن يكون الكلام واحدًا إذا قرأناه من اليمين أو اليسار، كقول الشّاعر: ‏مَوَدَّتُهُ تَدُومُ لِكُلِّ هَوْلٍ / وَهَلْ كُلٌّ مَوَدَّتُهُ تَدُومُ؟! ‏

وقد عُني النّقّاد والعلماء القدماء أعظم العناية بدراسة اللّغة العربيّة على أوجهها المتعدّدة، ‏ففاضت المؤلّفات بالمصطلحات النّقديّة في الشّعر والنّثر والبلاغة، وأصبحت كنزًا نفيسًا لا تَبلَى ‏جِدَّتُهُ على اختلاف العصور، ولا يزال الدّارسون إلى يومنا هذا يتقصّون معاني هذه ‏المصطلحات ويمحّصونها تمحيصًا. والأمر الأجلّ أنّ اللّغة العربيّة لم تبق ساكنة جامدة في ‏غمرات الاختراعات والمستحدثات والنّظريّات الجديدة، وإنّما أتيح لها أن تستقبل الألفاظ ‏والمصطلحات بالتّرجمة، أو تحيطها بالتّعريب، أو تلقاها بالنّظائر، وهو ممّا امتازت به هذه ‏اللّغة العريقة منذ زمن بعيد حين كان العلماء يقفون عند «الدّخيل» من الألفاظ، وهي الكلمات ‏الأعجميّة الّتي دَخَلَتِ اللّغة العربيّة. ولعلّ نظريّة علم القصّة من أظهر الدّلائل على جزالة اللّغة ‏العربيّة وسلاستها في ابتداع المصطلحات وإرسائها، كالقصّة، والقصّة القصيرة أو ‏الأقصوصة، والرّواية، والرّوائيّ، والقاصّ، والسّارد، والرّاوي، والحكاية، والحبكة، ‏والاسترجاع، والاستباق، إلى غير ذلك من المصطلحات التي تَزخر بها الدّراسات النّقديّة. ‏

هي اللّغة الخصيبة الجزيلة السّلسة الطّيّعة التي يسّرتْ لأبنائها التّعبير عن أدقّ الصّور والمعاني ‏بفضل بحرِها الفيّاض ونظامِها اللّغويّ الواسع، وقد أُتيح لها من أجل هذا كلّه أن تواكب العصر ‏وتساير التّطوّرات فبقيت ناضرةً عامرةً حافلةً بالحياة، لا يَذوي رونقُها ولا يَخبو وميضُها. ‏

وإنّ أعظم ما نلقى به هذه اللّغة أن نُطوّف في آدابها، بل في سهوبِها الشّاسعة وآفاقِها الفسيحة، ‏ونقف عند كلّ روض مِعطار، وجدول سَلْسال، ونهر رَقْراق من مواهب الشّعراء والأدباء، ‏وقرائح العلماء والمفكّرين، فنأخذ ثمرات أقلامهم بالقراءة والنّظر والتّأمّل، لِنُفِيدَ من تجاربهم، ‏ونستملي من حكمتهم، ونستقي من خواطرهم، ونَظهَر على مفرداتهم، ونحيط بأساليبهم، ونُلِمّ ‏بخصالهم؛ فهذا منهل عذب ومورد غزير ينمّي العقل، ويعزّز المعرفة، ويَغذُو الفكر، ويزيد ‏النّاشئ واليافع مقدرةً على التّعبير والتّصوير، ويمتّن الصّلة بين اللّغة وأبنائها، وهي قيمة ‏عظيمة لا أجد أجلّ منها فيما ينال اللّغة العربيّة من إزراء وظلم وإجحاف في مختلف الوجوه. ‏

إِيهِ يا لغتنا الحبيبة! يا عماد الهويّة، وركن الانتماء، ومبعث الإباء، وحاضنة الفكر، وترجمان ‏القلب، ومرآة الرّوح. هذه خصالُكِ الأثيرة وذخائرُكِ الجليلة التي تزداد وتقوى حين نلتمس تنميةَ ‏اللّغة ونحرص على إعلاء رايتِها ورفع مكانتِها، وهذا لا يكون إلّا بالمطالعة المتمعّنة، والبحث ‏العميق، والاستقصاء الشّديد. واللّغة كالغَرْس، لا يُورِق ولا يُثمر إلّا بالعناية والتّعهّد، ولو أَخَذْنا ‏ننظر إلى هذا الغرس، لا نزيد على أن نتأمّل نضارةَ أوراقِهِ وامتدادَ فروعِهِ، لما أجدى ذلك علينا ‏شيئًا، وإنّما المطلب أن نرعاه ونسقيه ونتعهّدَهُ ونُحسِن القيام عليه حتّى يأتي بثمر كثير، وفي ‏ذلك نَمَاءٌ له، ونَمَاءٌ للصّلة بيننا وبين لغتنا. ‏