متاهة السوق

أخبار البلد-

 

منذ عدة سنوات تنشغل القطاعات وفي مقدمتها قطاع التعليم العالي بقضية « مخرجات التعليم ومتطلبات سوق العمل» وبالرغم من أن مئات الندوات والحوارات العلمية، والتوجيهات الصادرة عن وزارة التعليم العالي، وهيئة اعتماد مؤسسات التعليم وضمان جودتها، وديوان الخدمة المدنية بشأن التخصصات الراكدة والمشبعة والمطلوبة إلا أننا لم نصل بعد إلى إستراتيجية متعددة الأطراف لمواجهة أحد أهم اسباب البطالة في صفوف خريجي جامعاتنا، ومعاهدنا العلمية والتطبيقية!
كلما تعمقنا في النقاش حول هذه المسألة المعقدة ازدادت صعوبة وتعقيدا لأن للسوق منطقه، واحتياجاته التي قد يصعب عليه تلبيتها وفق معايير محددة وواضحة المعالم، ذلك أن عصر ثورة المعلومات وتكنولوجيا المعلومات، والذكاء الاصطناعي آخذ في التنامي والاتساع حتى على أولئك الذين يعملون في مجالاته المختلفة، ومن هنا بدأنا الحديث عن المهارات الفردية أو المواهب الخاصة التي لا تنتجها المناهج والبرامج والأبحاث العلمية بقدر ما ينتجها الفرد الموهوب، والمكتسب لمهارات فائقة، حتى لو لم يكن خريجا جامعيا!
في اللقاءات والندوات التي شاركت فيها مؤخرا حول قضية مخرجات التعليم ومتطلبات سوق العمل عرض رجال أعمال، ومديرو شركات كبرى في مجالات الإنشاءات، والهندسة المعمارية، والصناعات الدوائية والكيميائية والتجميلية، والصياغة والمجوهرات، والبيانات، والإعلام وغيرها، عرضوا وجهات نظرهم حول احتياجاتهم من خريجي الجامعات للعمل في تلك القطاعات المتصلة كذلك بقطاعات أخرى، وكلها تركز على المهارات وليس الشهادات على أن الشهادة مهمة من حيث إنها تحدد المستوى العلمي الذي بلغه الخريج، مضافا إليها جميع ما اكتسبه من معرفة وتأهيل وتدريب خلال دراسته الجامعية.
ولم يتردد بعضهم في القول بأن الكثير من المهارات التي يحتاجونها ما تزال مفقودة، وأنهم غير معنيين بقضية التخصصات من الناحية النظرية، ضاربين الأمثال على ذلك من خلال التجربة العملية لخريجين مبادرين، اشتغلوا على تطوير مهارتهم أثناء العمل بعيدا عن شهاداتهم الجامعية، وتخصصاتهم غير المطابقة لمجال العمل، وخاصة في مجالات التسويق، وتكنولوجيا التصميم وذكاء الأعمال والمهن، والصناعات الحرفية والكيميائية والغذائية، وغير ذلك كثير مما يضيق به المجال!
تظل المسافة بعيدة بين ما نتحدث عنه في إطار مدخلات التعليم ومخرجاته ومتطلبات التنمية وسوق العمل، وبين الأمر الواقع الذي نواجهه، غير متأكدين من علاقة ذلك كله برؤية تحديث الاقتصاد 2033 التي تم إطلاقها مؤخرا، خاصة عندما نرى أن قائمة التخصصات المعلن عنها بأنها راكدة يتصل بعضها بمجالات الزراعة في الوقت الذي نعول فيه على زيادة انتاجنا الزراعي لمواجهة أزمة الغذاء العالمية، وايجاد حل لشكوانا من الأيدي العاملة الوافدة التي لا تتقن غير الزراعة التقليدية، بدل أن نؤهل خريجي الزراعة للعمل في مجالات الزراعة الممكنة، والصناعات الغذائية!
أظن أننا بحاجة لمراجعة شاملة يتم من خلالها الوصول إلى وصف دقيق للسوق الذي نريد أن نستجيب لمتطلباته، وليس أفضل من ممثلي السوق من أن يشرحوا لنا حقيقته واحتياجاته وآفاقه، حتى نعرف كيف نخرج من متاهته وفق الرؤية الاقتصادية الحديثة، ونتصرف على أساسها!