تحيّة الى بيض الحمائم
قبل فترةٍ أُصبت بوعكةٍ صحيّة ، ألجأتني لمُراجعة المستشفى ، وبعد استقبال سريع وكريم من كادر الطوارئ موظّفين وممرّضين، تمّ عرضي على الطّبيب ومن استفساره ومناقشته وعمل بعض الفحوصات ، تبين أنّ عندي فرط التوتر الشّرياني . فقال لي ممازحا يبدو أنّك تُشغل نفسك في التنقّل بين الفضائيّات والمواقع الإخبارية . وكأنَّ الطّبيب وضع أصبعه على الجرح !.
فمن منّا لا يقضي جزءا من وقته في متابعة الأخبار ؟ وأيّنا لا يَحدثُ له توترٌ ويُصاب بالهمّ والنّكد ويكون مُعرّضا للإصابة بأمراض الضّغط والسّكري وسواها عند مشاهدة ما يحدث في أكثر من مكانٍ في العالم العربي . هل ما نراه من سيلٍ من الدّماءِ والأشلاء للأطفال والنّساء والرّجال هو مسرحيّة كوميديّة تجعلنا لا نمسك أنفسنا من الضّحك ؟ أو فيلما مسلّيا نتابعه ونحن في منتهى السّعادة ؟
وبعد أن قال الطبيب بضع كلمات وأعطى بعض التّعليمات ، تولى الأمر مجموعة من الشّباب والصّبايا بلباسهم الأبيض الجميل النّظيف . قاموا بأعمال كثيرة بسرعةٍ ولكن بدقّة . بنشاطٍ واهتمام لكن بمحبّةٍ وابتسام . يقومون بعملهم ( مهما كان ) دون تأفّفٍ أو تَبرُّم .
حدث إلفٌ بيني وبينهم ـــ لدماثة خلقهم وتفانيهم في عملهم ـــ فبدأت أسألهم عن أحوالهم ومكان دراستهم ودرجاتهم العلميّة والوظيفيّة . تبيّن لي أنّ أغلبهم يحمل شهادة جامعيّة والبعض يسعى لتطوير نفسه عن طريق التّجسير وأن رواتبهم لا تتناسب مع جهدهم الكبير.
إن جهاز التّمريض يُشكّل أكبر كتلةٍ بشريّة في وزارة الصّحة ، ويقومون بأعباء كبيرة ، مع التّقدير والاحترام لكافّة كوادر الجهاز الصّحي ـــ فهم مدار الحديث ـــ . لذلك وجب أن يكونوا محطّ رعاية واهتمام أكثر من المسئولين بالتّعاون مع نقابتهم . وبدأت أسائل نفسي، لماذا لا يترقّى أحدهم ليصبح مديرا لمستشفى ؟ أو يكون أمينا عامّا ؟ أو حتى وزيرا للصّحة .
صنفان من النّاس بحاجة إلى مزيد من الرّعاية والاهتمام ( التّربية و الصّحة) . فهؤلاء عملهم يهتمّ بالإنسان الذي هو أغلى ما نملك ، صحّيّا وفكريّا وعقليّا ونفسيّا وتربويّا ، قبل ولادته وطوال حياته .
وعندما منّ الله عليّ بالتحسّن غادرت المكان وأنا أشعر بالامتنان والإعجاب والثّناء . وأنا اردّد قول الشّاعر إبراهيم طوقان في قصيدته ... ملائكة الرّحمة :
بيض الحمائم حسبهنَّ * * * * * * * * أنّي أُردّدُ سَجعهنَّ
رمز السّلامة والوداعة * * * * * * * * منذُ بدءِ الخلق هُنَّ
يَشفي العليل عناؤهنَّ * * * * * * * * وعطفهنّ ولطفِهنَّ
مُرُّ الدّواءِ بِفيكَ حُلوٌ * * * * * * * * من عُذوبة نُطقِهنَّ
بارك الله تلك الجهود ... جهود أصحاب الملابس البيضاء النّاصعة صفاء قلوبهم وطهارتها . إنهم حقا ًملائكة الرّحمة يستحقّون المحبّة والتّقدير والاحترام ، فلهم ألفُ ألفُ تحيّة .