رجاء حسين.. فنانة مخضرمة لمعت بقوة من دون هالة وطنية مفبركة

أخبار البلد - رحلت الفنانة المصرية الكبيرة رجاء حسين وفي حلقها غصة من الطريقة التي يتعامل بها معها الكثير من المنتجين والمخرجين والفنانين، حيث اختفت من شاشة الدراما المصرية في السنوات الأخيرة ولم يعد يقصدها أحد لأداء دور أو استشارة فنية، وهو ما آلمها كثيرا، حيث اعتبرت نفسها مثل "خيل الحكومة”، وهو المثل الشائع المتداول في مصر كدليل على الاستغناء عن كل من يصل إلى عمر متقدم بلا رحمة.

وكما تتخلص الحكومة من خيولها لعدم قدرتها على التحمل والتأقلم وإجادة القفز على الحواجز والجري لمسافات بعيدة، تخلص القائمون على الفن، أو بعضهم على الأقل، من حسين وغيرها وأهملوهم ولم يلجأوا إلى استعانة بهم في أدوار تناسب سنوات عمرهم وخبراتهم الطويلة، وهي إشكالية لم تقتصر على الفنانة الراحلة وجاءت أيضا على لسان الفنان رشوان توفيق من قبل، كعلامة على أن الفن ينكر حقوق أبنائه ومن أفنوا في رحابه زهرة عمرهم بلا رحمة.

مع يوسف شاهين

أكثر أدوارها الفنية شهرة هو دورها الذي قدمته ببراعة في مسلسل "الشهد والدموع" منذ حوالي أربعين عاما، حين تقمصت "ست إحسان" أو السيدة إحسان القوية روحا وجسدا وكرامة

جسدت حسين، والتي شيّعت جنازتها في التاسع من أغسطس الجاري، جانبا من شخصيتها الحقيقية في السينما والدراما كنموذج للمرأة "الجدعة” وصاحبة الإرادة القوية من دون هالة وطنية زائفة أو افتعال مواقف خادعة أو مبالغات لإضفاء قداسة فنية، وهي صفات يلجأ إليها البعض كنوع من التزلف للقائمين على صناعة الدراما في جهات رسمية، حيث يتبنون رؤى مؤيدة للدولة أملا في الاستعانة بهم في أدوار فنية متعددة.

ابتعدت الراحلة عن كل ذلك واحتفظت بمسافة بعيدة عن كل ما يمثل إهانة لها وتاريخها وفنها، وعاشت نفسها ولنفسها وتجنبت التملّق الذي حرص عليه البعض من زميلاتها، وكان يضرب بها المثل عندما يتم الحديث عن الست الأصيلة في الفن، بعد أن قدمت ببراعة أشهر أدوارها الفنية في مسلسل "الشهد والدموع” منذ حوالي أربعين عاما فقد تقمصت "ست إحسان” أو السيدة إحسان القوية روحا وجسدا وكرامة.

شاركت في عدد كبير من الأعمال التي تعد من أيقونات الدراما المصرية في العقود الماضية من ناحيتي الجودة والجدية، تأليفا وإخراجا وتمثيلا وتعبيرا عن الواقع، وأهمها "المال والبنون” و”زيزينيا” و”واحة الغروب”، و”أحلام الفتى الطائر” و”أبوالعلا البشري”، والتي لا تزال عالقة في أذهان شريحة كبيرة من المشاهدين.

القائمون على الفن، أو بعضهم على الأقل، تخلصوا من هذه الفنانة القديرة وأهملوها، كما تتخلص الحكومة من خيولها لعدم قدرتها على التحمل والتأقلم والقفز على الحواجز والجري لمسافات بعيدة

تميزت الفنانة الراحلة بالجرأة الشديدة في مواقفها وعبرت عن آرائها بصرامة في ما يحدث داخل عالم الفن بمصر وعلى هوامشه عقب سيطرة جيل من الشباب عليه والإهمال المفرط لجيل الكبار، مع أنها عاصرت مجموعة من أبرز النجوم في مصر، كان يمكن أن تحصل على شهرتهم لو أنها تميزت بالمرونة والليونة في التعبير عن مواقفها مما يجري حولها، وخففت من انتقاداتها لمن حولها.

بدأت مع المخرج الراحل يوسف شاهين في فيلم "عودة الابن الضال” عام 1976، وكان هذا التعاون من المفترض أن يتحول إلى نقلة مهمة في مسيرتها بعد أدوار لم تمنحها المكانة التي تمنّتها، وشاركت معه في عدد من الأفلام التي قدمها لاحقا، لكن رأيها الذي عبرت عنه فيه بصراحة جاء سلبيا على خلاف الكثير ممن عملوا معه.

ربما كانت صادقة أكثر من اللازم كعادتها واتساقها مع تاريخها، حيث لا تقيم وزنا لما يصفه البعض بالدبلوماسية أو العلاقات العامة أو المجاملات عديمة الجدوى

في نظرها، وأبدت موقفا صادما في شاهين الذي يراه العديد من دراويشه ومحبيه أنه "عبقري” و”عالمي” و”لم تأت السينما المصرية بمثله”، ولم تخجل أن تقول عنه "أناني ويريد أن يبقي الممثل له وحده”.

من تتجرأ للحديث بهذه الطريقة عن شاهين يمكن أن تتحدث عن غيره، والكثير منهم أقل منه فنا وتأثيرا وانتشارا، ولذلك دفعت ثمنا باهظا لسلاطة لسانها، ما أثار الخلاف حولها. هل كانت محقة وحرة في التعبير عن رأيها بهذه الطريقة، أم تجاوزت اللياقة ومن الطبيعي أن ينساها من ترى أنهم أقل قيمة؟

بوصلة فنية 

الأعمال الفنية التي شاركت فيها حسين تعدّ من أيقونات الدراما المصرية، مثل "المال والبنون" و"زيزينيا"

تشير النوعية الجريئة والصادمة من التصريحات إلى طبيعة التكوين الفكري والثقافي لحسين التي لو أظهرت قدرا من المرونة كان يمكنها أن تحتل مكانة متقدمة في عالم الفن المصري، لكنها أرادت أن تكون هي من دون رتوش فنية أو إنسانية تمنحها دورا في مسلسل أو فيلم، قد يجعلها تخسر نفسها على المدى البعيد.

مع ذلك لم يخذلها صدقها ولم تعاندها قوة شخصيتها في نفيها أو تجاهلها، فعندما غابت عنها المشاركة في الأعمال الفنية حظيت بتقدير عال مؤخرا، وتم تكريمها في احتفالية "أيقونة المرأة المصرية” من جانب السيدة انتصار السيسي حرم رئيس الجمهورية، وهي دلالة بالغة على أن نفي رجاء فنيا لم يكن رسميا.

مكنتها بساطتها، وهي الوجه الآخر لصرامتها، من أن تحتل مكانة في وجدان العديد من متابعي الحركة الفنية، لأن صراحتها كانت في الصالح العام، فلم تنتقد أحدا أو تعبر عن موقف إلا ويحدوها الأمل في أن تصبح الأوضاع في صورة أفضل، ولذلك ظلت محتفظة بالتقدير الذي تستحقه، على الرغم من انزوائها فنيا.

النوعية الجريئة والصادمة من التصريحات تشير إلى طبيعة التكوين الفكري والثقافي لحسين التي لو أظهرت قدرا من المرونة كان يمكنها أن تحتل مكانة متقدمة في عالم الفن المصري

تحولت الراحلة في السنوات الأخيرة التي غابت فيها عن المشاركة الفنية إلى بوصلة لمن يريد معرفة أين وصل الفن المصري وما هي معالمه الآن، وقصدها العديد من الإعلاميين للتعرف منها على الواقع، وربما اكتشافه من خلال عينيها ونظرتها الثاقبة، وهي التي بدأت صعود سلم الفن من الدرجة الأولى ولم تهبط عليه من السماء.

كثفت من تصريحاتها في العامين الماضيين بعد أن غابت عن التمثيل وتوقف الجميع عن الاستعانة بها في الأدوار التي تناسبها، وتحدثت بمرارة شديدة عن مشوارها الفني وموقفها مما يحدث في السينما والدراما في حوارات عدة أجرتها مع قنوات وإذاعات وصحف مصرية مختلفة، وأصاب كلامها الواضح البعض بالضيق.

اسمها الحقيقي عائشة رجاء حسين زكي، ولدت في نوفمبر 1937، وهي الأخت الكبرى بين أخواتها الستة، حلمت بأن تصبح مطربة ودخلت مجال التمثيل بالصدفة بعد التحاقها بكلية الحقوق. استفادت من تنقلات والدها من مدينة مصرية إلى أخرى في أثناء عمله بوزارة المالية، ووفر لها السفر والترحال مروحة ثقافية واجتماعية واسعة ساعدتها على أداء شخصيات متنوعة ببراعة، فقد تميزت بقدرتها على تقمص الدور الذي تقوم بتمثيله وكانت بدايتها في مسرح المدرسة، ثم التحقت بفرقة نجيب الريحاني المسرحية، وتابعت التجارب الفنية دون علم أسرتها.

بوابة الإذاعة المصرية

تكريم حسين من جانب حرم رئيس الجمهورية، دلالة بالغة عن أن نفيها لم يكن رسميا

قالت إن بدايتها جاءت من خلال الغناء، ففي حفل خطوبة صديقة لها في حي شبرا بالقاهرة قامت بتقليد الفنانة المصرية شادية في أغنيتها "يا دبلة الخطوبة” وكان من بين الحضور مقدم برنامج "ركن الإذاعة” أحمد طاهر الذي أراد أن يقدمها كمطربة.

وعن طريق الإذاعة تعرفت على الممثل المسرحي أنور محمد وساعدها في التحاقها بمعهد الفنون المسرحية، وعلم والدها بذلك بعد سنة كاملة واقتنع بعد محاولات مضنية من عمها أنه سيكون لها مستقبل جيد في الفن، فوافق بعد وضع شروط صارمة لا تحيد عنها.

قادتها صراحتها المفرطة، من الناحية الإيجابية هذه المرة، إلى الحديث عن واحدة من الرموز، وهي الفنانة الراحلة سناء جميل التي قالت عنها "كنت أغير غيرة مُرة منها، لأنها كانت غول تمثيل، فهي لو تقمصت شخصية تكون شي محصلش”.

قدمت جميل فيلم "بداية ونهاية” في السينما، بينما قدمت حسين النص نفسه باقتدار على المسرح واعتبرته في حوار لها مع الفنانة إسعاد يونس مقدمة برنامج "صاحبة السعادة” من أفضل أدوارها في مشوارها الفني.

رحلت حسين وتركت خلفها ميراثا فنيا وإنسانيا وقيميا رفيعا، يجعل اسمها محفورا في الوجدان العام والذاكرة الجمعية للوطني، وتحولت إلى نموذج للكثير من السيدات اللائي يراهم المصريون في أماكن متباينة خاصة في المصالح الحكومية المعروفة بصرامتها البيروقراطية، والتي تحول الجدية في العمل إلى عبء على رؤوس أصحابها.

هكذا كانت جدية رجاء حسين التي سعت لحفر اسمها في الفن بكل ما حملته داخلها من قوة وخبرة، معتقدة أن الإجادة والالتزام والإتقان من أهم مفاتيح التقدم في مهنة لا يتقن أصحابها أحيانا فن الاعتراف بالجميل، وهو الدرس الذي تتكرر مشاهده كلما يتقدم في العمر فنان أو يرحل عن دنيانا، وهي طبيعة الحياة وطاحونتها التي تتعامل مع البشر، بصرف النظر عن نوعية العمل الذي يحترفونه مثل "خيل الحكومة”.