استمرار الاعتداء على الطواقم الطبية اين الخلل ؟
أخبار البلد ــ طالعنا نهاية الأسبوع الماضي ما صرحه الأمين العام لوزارة الصحة لشؤون الأوبئة والرعاية الصحية الأولية الدكتور رائد الشبول حول الاعتداءات المتكررة على الأطباء وأنها لازالت تشكل حالات من الممارسات ( الفردية ) ولم تصل الى مستوى الظاهرة بعد ولنا في ذلك وجهة نظر سنستعرضها في سياق المقال.
الشبول تحدث ايضا عن تسجيل 81 اعتداء على الكوادر الطبية في 2019 وأشار إلى انخفاضها عام 2020 الى 44 حالة اعتداء وفي عام 2021 ارتفع عدد الحالات إلى 50 لكن الشهور السبعة الأولى من عام 2022 شهدت تسجيل 36 حالة اعتداء فقط.
نقيب الأطباء الاردنيين الدكتور زياد الزعبي في تعقيبه على حديث الشبول أكد مخالفته لرائيه بإن الاعتداءات هي مجرد حالات فردية وقال إنها أصبحت ظاهرة تتكرر كل يوم وقد شملت كافة مستشفيات ومراكز وزارة الصحة كما اكد بان هناك قصور مؤسسي في حماية الأطباء والكوادر التمريضية وطالب بوضع آلية لحماية الكوادر الصحية العاملة في المرافق الصحية التابعة لوزارة الصحة أثناء تأديتهم واجبهم.
كما أشار الزعبي في عدة لقاءات سابقة الى الضغوط الاجتماعية المختلفة التي تمارس على الأطباء والطواقم الطبية الأخرى لأسقاط حقهم الشخصي او السماح بتكفيل المعتدي قبل صدور الحكم القضائي للتخفيف من معاناته في السجن وللتأثير على الإجراءات القانونية بإيقاع العقوبة الرادعة بحق كل من تسول له نفسه الاعتداء على الطواقم الصحية أثناء مزاولتهم مهام عملهم الرسمي.
في الواقع العملي لا يكاد يمر يوم أو يومين او اقلها أسبوع الا وتطالعنا الاخبار بوقوع اعتداء جديد على طبيب او ممرض او موظف اداري في أحد مشافي المملكة وفق نهج مقيت لا يليق بالإنسان والإنسانية ولا ينتمي مطلقا الى الحضارة والبشرية وهو سلوك أقرب ما يكون الى اهل الغاب عذرا احبائي فإنني اكتب من عظيم استغرابي ودهشتي وقد جربت ورأيت بأم عيني الخدمات الجليلة والتضحيات الجسام التي يقدّمها الأطباء والممرضون في المستشفيات الخاصة والعامة العسكرية فهناك منهم من يربط ليله بنهاره من اجل صحتنا وصحة اهلنا وأقربائنا حقيقة لا نجد اي مبرر لاستمرار مثل هذه الاعتداءات والسلوكيات الآثمة
قد نتفهم كبشر حجم الضغط النفسي لدى البعض وأن هناك من يريد أن ينال والده أو أمه العلاج حالًا وسريعا ولكن علينا أن نعي ونفهم وندرك بان هنالك أولويات وربما هناك من هو بحاجة الى رعاية سريعة أكثر منا لاّن وضعه خطر وحرج وحالته الصحية متدهورة و لا تحتمل التأخير ولو لثواني محدودة كما ان هنالك فحوصات وتقارير وصور وتحاليل ومختبرات ونتائج تحتاج الى وقت ليس بالقليل وعلينا ان نستوعب ايضا أنه قد يكون هناك نقص في الادوية والاسرة والأيدي الطّبية العاملة
لم أسمع في حياتي أن هناك أي اعتدى وقع على طبيب أو ممرض في دولة غربية فمثلا في مستشفيات امريكا ينتظر المريض من 6 ساعات الى 24 ساعة حتى يحصل على الخدمة العلاجية ولم نسمع بحالة اعتداء واحدة على الكادر الصحي فما هذه العصبيّة والعنجهية التي نتحلّى بها نحن فقط غريب أمرنا فعلًا لماذا لا نعطي لمن يسهرون على صحتنا ما يستحقون من احترام وتقدير ونأخذ نحن ما نستحق من الخدمات المتوفرة المقرونة بالصبر والتعقّل
الاعتداء على الكوادر الطبية أصبحت ظاهرة الملة وعامة ضمن مسلسل يتكرر كل يوم في اغلب مستشفيات المملكة وخاصة التابعة لوزارة الصحة وكثيرة هي القصص عندنا التي كانت المستشفيات الحكومية فيها مسرحاً للاعتداءات الاثمة على الأطباء والعاملين في المستشفيات والمراكز وغرف الطوارئ حيث كان أبطالها بعض المراجعين والمرضى أنفسهم وذويهم واصدقائهم وعلى الرغم من حساسية الظروف التي تمر بها الطواقم الطبية التي لا زالت منهمكة بكل قواها في التصدي والمساهمة بكل تضحية ونكران للذات في دحر خطر وباء كوفيد-19.
الا ان كل ذلك لم يشفع لهم من التعرض للاعتداءات بالضرب والاهانات والالفاظ البديئة والجارحة والترهيب والتهديد ) اثناء أدائهم واجبهم المهني إضافة إلى تكسير زجاج النوافذ والابواب وتحطيم الاجهزة والمستلزمات الطبية وتعطيل سير العمل في سلوك همجي مرفوض والسؤال المطروح لماذا لا نتحلّى بقليل من الصبر والحلم ونعود لجذورنا الانسانيّة الطّيبة ونضع حارس او اقفال على أفواهنا وأيادينا فليس في مثل هذا التصرفات المشينة احترام ولا رد للجميل.
الطواقم الطبية رغم جراحهم النفسية البالغة ومعاناتهم الإنسانية الكبيرة مستمرون في أداء عملهم بكل فخر واعتزاز ولكن وفي ظل تكرار مثل هذه الحوادث الأليمة تزداد المطالبات بحماية الطواقم الطبية وتوفير بيئة العمل المناسبة لهم واتخاذ كل الإجراءات القانونية بحق المعتدين ليعودوا إلى أحضان أسرهم ومرضاهم في المستشفيات بكل امن وسلام كما يتوجب على كافة الجهات المسؤولة والمعنية ( الصحة والداخلية والعدل والنقابة ومنظمات المجتمع المدني والشيوخ والمخاتير والوجهاء ) أخذ دورها الفاعل في وقف هذه الأعمال والسلوكيات المشينة والخطيرة سيما وأن استمرارها اصبح يقوض الجهود المبذولة لتطوير المستشفيات والكوادر الطبية والمراكز الصحية.
الكوادر الطبية تمارس أشرف وأنبل مهنه ووظيفة في الحياة حيث تترك عوائلها وأبنائها للسهر على راحة المرضى وسلامتهم في المستشفيات والمراكز الصحية وهم يستحقون منا كل التقدير والدعم والمساندة بل وباقات وضمم الفل المنثور والمديح والثناء وليس الضرب والإيذاء والتحريض والشتم والتحقير وكثير منهم يحاولون قدر الإمكان امتصاص غضب المواطن كونهم يؤدون واجبا وطنيا شريف ورسالة إنسانية نبيلة.
تعددت مؤخرا الوقفات الاحتجاجية والاعتصامات عن العمل التي نظمها ونفذها اطباء يعملون في القطاعين العام والخاص بدعوة من نقابة الاطباء رفضا لاستمرار الاعتداءات على الطواقم الطبية اثناء العمل باستثناء ( قسم الإسعاف والطوارئ والعمليات ) ليتمكنوا من إيصال رسالة للجهات المعنية بضرورة وقف العنف والاعتداء عليهم وانهاء الضغوط النفسية التي يتعرضون لها دون أن يؤثر ذلك على تقديم الخدمة العلاجية للمرضى والمراجعين وللحقيقة المؤكدة لا يعرف قيمة واهمية الطبيب إلّا من أجبره المرض على أن يكون نزيلًا لأيام في المستشفى.
الحكومة ومجلس النواب معنيان بشكل مباشر بالسعي الى تعديل التشريعات وسن القوانين الرادعة التي تمنع تكرار هذه الظاهرة من خلال تغليظ العقوبة التي تجرم المعتدي وضرورة تفعيل المادة (187) من قانون العقوبات التي تحاكم الاعتداء على الموظفين أثناء دوامهم الرسمي لتدعيم وتعزيز نظام حماية العاملين في الـمجال الطبي.
في استراليا مثلا يعاقب المعتدي على الكادر الصحي بالسجن لمدة 14عام ولا بد من متابعة الاجراءات اللاحقة لدى الحكام الإداريين لوضع حد لهذه الاعتداءات التي أدت الى إحباط حوافز العمل والتأثير على تقديم الخدمة نتيجة الترهيب النفسي وعدم الاستقرار والخوف الذي يتعرض له الاطباء في المستشفيات الحكومية والغريب في ذات الشأن ان تلك التصرفات المشينة لا تحدث الا ما ندر في المستشفيات الخاصة او العسكرية.
بعدما تحولت المسالة إلى ظاهرة شبه يومية خارجة عن القيم والأخلاق والدين والأعراف الوطنية والاجتماعية أصبحت مشكلة متفاقمة وخطيرة اعتاد عليها الناس وهي تتكرر بين الفينة والأخرى بوتيرة مقلقة غدت بحاجة الى دراسة علمية ومنهجية متخصصة وورش عمل ونقاش وحوار لوضع المعالجات والحلول.
هذه الأعمال الغريبة على مجتمعنا والذي يرفضها باتت تتخذ بعداً أكثر خطورة في هذا الظرف الذي تعيشه البلاد والذي يجب أن توجه فيه وتركَز كل الجهود على التكفل بالـمرضى والحماية الصحية للمواطنين من أجل مجابهة متحورات وباء كورونا المستجدة.
وزارة الصحة تعلم جيدا ان الظروف التي يعمل فيها الممرضون والأطباء مزرية كما أنهم موجودون في الصفوف الأمامية نظراً لطبيعة عملهم ومهامهم على مدار الساعة في ظروف شاقة ومحفوفة بالمخاطر في ظل النقص الكبير في الموارد البشرية والتجهيزات والمستلزمات الطبية وغياب أو قلة بعض الأدوية بالإضافة إلى ساعات العمل الطويلة حيث يتعرض الطبيب أو الممرض لتعب شديد إذا عمل أكثر من الساعات المحددة له سيما وان مهنته تحتاج إلى تركيز أكثر من غيرها لتعلقها بحياة البشر ولهذا على الأطباء أن يكتفوا بالعمل لساعات محدودة 10 ساعات كأقصى حد وليس 16 ساعة متواصلة وحتى 24 ساعة في بعض الحالات.
الاعتداءات على الطواقم الطبية موضوع محلي خطير جدا ولا يمكن السكوت عنه او تأجيله حيث باتت تأخذ أشكالاً مختلفة وتعبر في جزء منها عن التذمر والسخط من القطاع الصحي فالمواطنون يحملون المسؤولية الكاملة للطبيب كونه في الواجهة الأمامية إلا أن تعرض الطواقم الطبية لاعتداءات جسدية ونفسية ( يعد ترجمة لفشل القطاع الصحي ) في تقديم الخدمة الجيدة وهو ما يؤثر سلبا على سمعة الجسم الطبي الوطني والسياحة العلاجية الخارجية والتي تعتبر من اهم الموارد الاقتصادية.
معظم عناصر شركات الامن والحماية الخاصة وبعض رجال الأمن العام المنتدبين في المستشفيات غير مؤهلين او مدربين بكفاءة للتعامل مع الجمهور وبما يمكن أن يخفف من حدة الاعتداءات ووجودهم لا يشكل ضمانة لمنع تلك الاعتداءات فالبعض من أصحاب الرؤوس الحامية يعتدي على الممرض ثم على الشرطي أو الحارس أو العكس وقد يكون الحارس او الشرطي او الممرض فظا غليظا ولا يحسن التعامل مع الناس سيما ووقف العنف ضد الطواقم الطبية وتحجيمه عملية سلوكية معقدة تحتاج الى وقت طويل وتضافر الجهود ووجود عوامل عديدة للسيطرة عليها ووقفها أولها هو وعينا كمجتمع متحضر بتحريم ونبذ هذه الاعتداءات لأنها عمل جبان تجرمه القوانين ولا تقبل به الاعراف العشائرية من هنا فأننا نناشد شيوخ العشائر والمخاتير والوجهاء واصحاب المناصب عدم التوسط ليتنازل المعتدى عليه عن حقه الشخصي او يسمح بتكفيل المعتدي ظلما وعدوان.
للأنصاف والموضوعية في تناول الموضوع لا بد ان نعترف بان هنالك نفر من الأطباء والممرضين و الفنيين والاداريين في المستشفيات الحكومية يتعاملون مع المراجعين والمرافقين بغلاظة وفوقية طاغية واستهزاء كبير بحتمية الموت والفقد وبدون أي اهتمام بمصابهم او مراعاة لأحوالهم النفسية والعصيبة خاصة مرافقي ذوي الامراض الخطرة كالسرطانات او المفاجئة كالجلطات وهو ما يخلق غالبا ردأت فعل عنيفة وغير محسوبة لديهم تنتهي بالتصادم مع الطبيب او الممرض وصولا الى الضرب الجسدي والاهانة والشم.
لهذا على وزارة الصحة العمل على تأهيل الكوادر الطبية ( أطباء ممرضين وفنيين واداريين ) بالتوعية والتثقيف والتدريب اللازم في اسس ومهارات التعامل مع الجمهور والتواصل الانساني مع المرضى والمرافقين والمراجعين إضافة الى ضرورة تعزيز الإجراءات الاستباقية والوقائية وتعيين موظفين علاقات عامة مختصون في التعامل مع الجمهور على جميع المناوبات.
كما يتوجب زيادة اعداد الاطباء والممرضين و تفعيل نظام الاختصاص للممرضين في ديوان الخدمة المدنية وتجهيز صالات انتظار مريحة لاستقبال المرافقين من اجل تقليل الاحتكاك والتصادم وبالتالي الاعتداء على الكوادر الطبية المعنية ومن المهم تفعيل تطبيق تصنيف وتوزيع المرضى على اجنحة قسم الاسعاف المختلفة ( تراياج ) وامام كل ذلك لا بد من السعي الحثيث من قبل الجميع لحل ومعالجة هذه المشكلة والا سيزداد الوضع ويتفاقم وينتج عنه مضاعفات خطيرة في كل الاتجاهات.
الُمحصلة الحتمية لهذا الواقع الأليم والمرير ان الجميع خسران وبالأخص المرضى الذين يدفعون ثمن العنف والفوضى من صحتهم لأن الممرض أو الطبيب الذي يعمل تحت ضغط التهديد والشتائم أو التوبيخ ليس هو نفسه الطبيب أو الممرض الذي يعمل بهدوء وراحة وهو محاط بشعور متبادل من الاحترام مع المريض ومرافقيه.
ينبغي ان نفهم جيدا ان العنف الذي تعانيه المستشفيات والمراكز الصحية الحكومية هو جزء من الأزمة العامة التي نعيشها في تزايد واستشراء وتنوع مسألة العنف المجتمعي ولا نستطيع عزل المستشفيات والمراكز عن ( محيطها العنيف ) ولهذا يجب ان نبحث عن حل جذري لمختلف مشاكلنا الأخرى رغم أن هذه القضية تبدو أكثر الحاح وضرورة من غيرها كونها تتعلق مباشرة بأرواح وحياة البشر.
أخيرًا كم أتمنى من صميم قلبي كغيري من الكثيرين أن ينتهي وينقرض هذا الاسلوب والنهج السيء في الاعتداء على الاطباء والممرضين الى غير رجعة قبل وقوع جرائم قتل اخرى لا قدر الله بين افراد الكادر الصحي وخسارة كفاءات طبية متميزة فلا تزال قضية مقتل الطبيب الراحل محمد أبو ريشة اختصاصي الأطفال في مستشفى البشير بعد تعرضه للطعن من قبل مراجع ماثلة بألم شديد امام اعيننا.
وفي اقل الاحتمالات لا نريد هجرة الكفاءات الطبية الوطنية المؤهلة والمدربة للعمل خارج الوطن وحرمان ابن البلد من تلقي خدمة علاجية عن طريق اطباء وممرضين اكفاء نتيجة استمرار واستشراء الاعتداءات والترهيب والتهديد والخوف لعل وعسى.
mahdimu.barak@gmail.com