كي لا يصبح “الاحتيال” هو الحل

أخبار البلد-

 
فيما ‏سجلت المملكة، حسب تقرير مديرية الأمن العام، انخفاضا عاما لجميع أنواع الجرائم في العام الماضي، مقارنة بالعام 2020، كان لافتا الارتفاع الكبير الذي شهدته جرائم توزعت بين الاقتصادي، والجنسي، والاجتماعي، التزوير (45 %) احتل المرتبة الأولى، ثم الاحتيال (32 %)، تلا ذلك القتل العمد (28 %)، والقتل الخطأ (19 %)، ثم جريمتا البغاء (17 %)، والزنا (13 %).
حين ندقق بمثل هذه الارتفاعات الجرمية، نجد أن مجتمعنا تعرض لانفجارات اجتماعية، وأخلاقية، واقتصادية، وأن ارتداداتها انعكست على سلوكه، ومدى التزامه بالقيم العامة التي تشكّل على أساسها، نجد، ثانيا، أن انشغالنا بالأمن السياسي، على حساب الأمن الاجتماعي، أطلق يد المحتالين والجشعين والقتلة، وأعداء الفضيلة، خاصة وأن التشريعات تبدو غير رادعة، بما يكفي لتحقيق الزجر بالعقوبة.
حين ندقق أكثر، نكتشف أن المجتمع يمارس ذات السلوك الذي تمارسه عليه الإدارات الرسمية، لدرجة أخشى أن أقول: حكومتنا للأسف علمتنا أنماطا من السلوك الخاطئ، لأنها لم تحسن تربية المجتمع بالقانون، ولم تتعامل معه على أساس القيم والأخلاقيات، مما دفع فئات منه، أقل تحصينا، للرد عليها بالمثل، ذلك أن سلوك الحكومات يشكل نموذجا لمحاسن أخلاق المجتمع، أو مساوئه.
سأتجاوز، عمدا، التعليق على قائمة الجرائم التي ذكرتها سلفا، أكتفي بالإشارة لواحدة منها، وهي "الاحتيال”، هذه السمة تبدو جديدة على مجتمعنا، نحن الأردنيين أصحاب كشرة، لا نجيد فن الفهلوة، ولا الخداع، ولا اللف والدوران. الآن، يبدو أن ذلك أصبح من الماضي، ترى من أي تربة خرجت علينا مثل هذه السمات الغريبة؟ أعتقد أنها جزء من التحولات التي قلد فيها المجتمع صورة المسؤول الشاطر، والشطارة، هنا، هي الوجه الآخر للاحتيال.
لكي نفهم أكثر، نحتاج للتذكير بصور عديدة من الاحتيالات السياسية التي شهدها بلدنا، ليس فقط على صعيد المقررات والإجراءات، أو التصريحات والخطابات، وإنما على صعيد السلوك العام، خذ مثلا آليات فرض الضرائب، وتمرير رفع الأسعار، الروايات والسرديات التي تعقب كل أزمة، خذ، أيضا قضية المتعثرات، وما فعلته المؤسسات والصناديق التي تاجرت بفقر نسائنا، خذ، ثالثا، الثروات التي هبطت على بعض من تبؤوا مواقع المسؤولية، ستجد أن "الاحتيال” هو العنوان الأبرز وراء كل ما حدث.
عدوى "الاحتيال” التي أصابت بعض الفئات، ودفعتهم للحصول على المال بطرق غير مشروعة، أو ابتداع وسائل جديدة للنصب والتزوير (ما أكثر قصص الاحتيال التي نشهدها هذه الأيام، وآخرها القروض أون لاين على الهوية)، انتقلت من المجال السياسي إلى المجال الاجتماعي والاقتصادي، وربما تغطت بعباءة الدين، وربما كان الدافع وراءها الفقر والعوز، أو الرغبة بالانتقام، لكنها، بالمجمل، تحولت لظاهرة خطيرة، أفقدت الناس ثقتهم ببعضهم، بعد أن فقدوا ثقتهم بحكوماتهم ومؤسساتهم، وأضاعت بينهم العرف والمعروف، ولا استبعد إذا ما حولتهم إلى وحوش كاسرة.
تستدعي ظاهرة الاحتيال، وغيرها من الجرائم التي تصاعدت في مجتمعنا، أن تتحرك مراصدنا الاجتماعية لتشريحها وفهمها، كما تستدعي من الحكومات المسؤولة، أولا وأخيرا، عن تقلبات سلوك المجتمع ومزاجه العام، أن تنتبه لكل ما يصدر عنها من قرارات وممارسات، لكيلا نصبح (الدولة والمجتمع) أمام عملية "احتيال متبادل”، أو ربما انتقام متبادل، ولكي لا يصبح هذا "الاحتيال” هو الحل، وندفع ثمنه من أمننا واستقرارنا.