الاستقواء على الدولة بين البناء والتركيب
أخبار البلد-
تميز الاردن بنظامه السياسي عند التأسيس عن النظم السياسية التي حكمت الاقطار العربية ما بعد سقوط الدولة العثمانية التي حكمت الامصار العربية ، بنوع من "الديمقراطية التوافقية" التي جعلت أبناء إمارة شرق الاردن آنذاك يشعرون بأن الدولة الوليدة هي ملك لكل فرد منهم ، فكان شعار المرحلة تلك هو العمل من أجل بناء الدولة وتطويرها .
اليوم ونحن نسمع ونرى صرخات تنطلق من هنا وهناك فحواها يقول أين الدولة ؟وهل نحن دولة مؤسسات؟ نضع الايدي على الصدور متوجسين خيفة من مثل طرح هذه الاسئلة ، ونسأل بصورة مخالفة ومغايرة لنيات البعض ممن يذهبون الى انكار وجود الدولة "عن قصد من قبل بعض العابثين" أوعن" دون قصد كما يريدها الغالبية العظمى من أبناء الاردن" ، ونسأل في الاتجاه المعاكس لنقول هل الاردن دولة منهارة حتى ننكر وجود الدولة ؟، أم هل نحن نسيرعلى حافة الانهيار؟ وهل يعمل البعض حتى وإن كانوا من أهل السلطة سابقا اوهم الان في المراكز المتقدمة هل يعملون ضد الدولة أو ضد الاستمرار في البناء على ما سبق؟، خاصة وأن الدولة القوية العادلة القائمة على البناء المؤسسي هي نقيض لمصالح هؤلاء وشركائهم من قوى النفوذ الرأسمالي أو الوظيفي "المسخر" للمصالح والمنافع والمكاسب .
والواقع ان هذه الاسئلة المطروحة من قبل القلة التي تريد انكار الدولة عن "مصلحة عبث " واجندات ،او تلك الغالبية من أبناء الشعب الذين ليس فيهم السياسي بل هم غالبية من العامة الذين يعانون من تراكم الازمات، ما أدى الى افقارهم وانقطاع انفاسهم وهم يلهثون خلف لقمة عيش أكلتها قرارات الحكومات المتعاقبة، كما اكلتها احتكارات أصحاب المصالح والشركات الكبرى واصحاب النفوذ الحكومي ومن حولهم من المتنفعين ،هي اسئلة مشروعة في هذا الوقت ، كما ان عامة الناس لا يعملون بوظيفة باحث في الشؤون الدولية او المحلية او الاجتماعية بحيث يتهم هذا الباحث بالتسييس او الاجندات الداخلية او الخارجية، هي اسئلة تعبر عن قهر الناس ووجعهم بفعل تفلت الاسعار وتغول الاحتكارات على رزق المواطن وهي اسئلة تلامس أمعاء الناس الخاوية بفعل مصادرة رواتبهم التي تآكلت ، وهي اسئلة تعبر عن وجع الناس العاطلين عن العمل او المتعطلين قسرا ولا يملكون دفع فواتير الكهرباء او الماء او دفع ايجارات بيوتهم ، او حتى تلبية ابسط احتياجات عائلاتهم .
والواقع ان بعض المسؤولين في الحكومات السابقة، ومسؤولين في مراكز صنع القرار حاليا يتحملون كل المسؤولية عما آلت له امور البلاد والعباد ، فبالرغم ان السنوات الاخيرة شهدت تطورا في العديد من الجوانب، الا ان المملكة شهدت ايضا تراجعا في بعض الخدمات الاساسية التي كانت تميز الاردن ومنها الخدمات الصحية والتعليمية وهذا يؤكد ان بعض المسؤولين ممن قادوا دفة السلطة خلال المرحلة الماضية ، جعلوا البلاد وكأنها مرتعاً لمصالحهم ومصالح مريديهم ، ما أدى الى فقدان الناس الثقة بالدولة ومؤسساتها ، وغلب طابع التنفيعات والاستزلام والجهوية أو العصبوية على كل مرافق العمل المؤسسي بل إن بعض المؤسسات كالبنك المركزي مثلا وجدناه منحازا للبنوك على حساب غالبية من المواطنيين المقترضين من البنوك، ووصل الامرالى التفريط بالمؤسسات الوطنية كالبوتاس والفوسفات وقطاع الاتصالات " نفط الاردن" والكهرباء وغيرها من مؤسسات كبرى .
اذا أين المشكلة؟ ولماذا وصلنا الى هذه المرحلة الاليمة من تاريخنا ؟ اعتقد ان المشكلة بدأت عندما لم يفكر المسؤول الذي يعين في هذا المركز او ذاك ان هناك مساحة شاسعة وبون كبير بين بناء الدولة وبين تركيب دولة ، الامر الذي أدى ان لا تحمل القرارات الصادرة عن مؤسسات الدولة خلال السنوات الماضية عناوين المصلحة العامة ، بل كانت عناوينها تتلخص في مقولة " مشي حالك " "ومن سيأتي بعدي بتحمل المسؤولية " لذك شاهدنا كيف تمت عملية جدولة المشاكل الى ان وصلنا الى هذه الزاوية التي دفع ثمن" الحشر" بها المواطن البسيط وحده ووحده فقط ..! فيما "تملص كبار المسؤولين وكبار التجار ورجال الاعمال وأهل الفساد والافساد الذين أكلوا مقدرات الدولة "لحما ثم رموا الدولة بكل ما فيها عظما" من أية مسؤوليات أو محاسبة .
اليوم نرى ان من يتحل المسؤولية هم كبار موظفي الديوان الملكي وعلى رأسهم اليوم رئيس الديوان الملكي الحالي ومساعديه كما من سبقوهم ، والحكومات المتعاقبة والاجهزة المعنية التي لم تمنع الانحدار او تخفف منه "وقد تكون لم تكاشف الملك بحقيقة الاوضاع في البلاد"، وكذلك مجلس النواب ومن ركب المجالس النيابية المتعاقبة .
اليوم نرى ايضا ان هناك البعض ممن يحاولون جعل الدولة هي أضعف الأطراف بحيث يسجل كل طرف انتصاراته على
الدولة وبإسم الدولة، ونرى ايضا كبارالمتنفذين في المواقع المتقدمة ينهشون بلحمها كل على طريقته وحسب مصالحه، كما يمد كبار المتنفذين اقتصاديا وتجاريا أياديهم في جيوب الناس وبمباركة من المؤسسات الحكومية دون أن يعطى الحق للمواطن بالاعتراض على هذه الممارسات سواء عبر الاحتجاج بالمقاطعة ، او عبر حق التظاهر السلمي ، وكأن وظيفة الحكومات وأجهزتها هي حماية الاحتكارات ، وقد شاهدنا أزمة الدجاج والنفط ورفع اسعار الالبان واسعار الاتصالات كيف تعاملت أجهزة الحكومة مع المواطن المحتج ..!
إن المطلوب اليوم نهج جديد في إدارة الحكومات يقوم على ادراك المسؤول الحكومي الفرق بين تركيب دولة أو بناء دولة ، فسياسة التركيب التي اتبعت منذ سنوات أدت ان المسؤولين أنفسهم ممن تولوا السلطة صنعوا الازمات في البلاد ودمروا الاقتصاد وعلى رأسه الصناعة المعتمدة على الانتاج الزراعي ، ورهنوا الوطن للمعونات الخارجية والديون، وافقروا الشعب وارتكبوا الموبقات بحق الحريات العامة وحقوق الانسان لحماية ما ارتكبوه بحق المواطن والوطن، وهم لا يزالون يرتكبون وسيرتكبون الجرائم بحق ثرواتنا إن استمر هذا النهج دون حسيب أو رقيب، أما بناء الدولة فهو على النقيض من كل ما ذكرناه سابقا فهو يحتاج الى رجال دولة يستطيعون وقف أي انحدار او اعتداء على المال العام من اية جهة أتى ، ويملكون القدرة على رفع كلمة "لا " بوجه من يحاولون فرض اية شروط او إملاءات على البلاد والعباد سواء هذه الشروط كانت خارجية او داخلية، اذ لا يعقل ان يتحول رئيس الديوان الملكي الى متدخل في شؤون واعمال الحكومة ومجلس النواب ، كما لا يعقل ان يترك الحبل على الغارب لبعض قادة الاجهزة يمارسون ما يمارسون دون ان يحاسب احدهم على فعلة ارتكبها بحق المال العام ،او بحق مواطن او مواطنة كما نشهد الان ، ان المطلوب ان يكون للدولة حماتها يبنون على ما سبق ويرفعون سيف العدالة بوجه القوي" ويحنون" على الضعيف ،ويمنعون تغول بعض القطاع الخاص على ثروات واموال الدولة ، كما يعملون على ترسيخ مبدأ العدالة والشفافية والمحاسبة كعنوان للدولة، لا ان يترسخ مبدأ غياب المحاسبة لكبار المسؤولين ومبدأ تحاصص المناصب والمكاسب في كافة المواقع والوظائف العليا ، ان كل ذلك سيلغي سؤال اين الدولة ، لأن الجميع سيشعر حينها ان كل الدولة له، وسيدافع عنها وسيحميها ، وستغيب السلبية في التعاطي مع قضايا الوطن الكبرى ...