قبل أن يتعلقوا بأجنحة الطائرات!
أخبار البلد-
ترليونان ومائتان وستون مليار دولار، أو يزيد، هي التكلفة المادية للحرب التي شنتها الولايات المتحدة الأمريكية وحلف الناتو على أفغانستان العام ٢٠٠٢م، فضلاً عمّا يقرب من الألفين وخمسمائة من الجنود الأمريكيين ومئات الآلاف من الأفغان والمتعاقدين مع الجيش الأمريكي، كانوا خسائر بشرية. ثُم بعد عشرين عاماً من الاستعمار وجدت الولايات المتحدة نفسها مضطرة لمغادرة أفغانستان تجرجر أذيال الهزيمة، حتى قبل أن تؤمِّن لعملائها ومَن خدموها مغادرة كريمة وآمنة.
وما يزيد عن الترليوني دولار هي التكلفة المادية التي دفعتها أمريكا لحربها على العراق (هناك تقديرات لجامعات أمريكية تقول إن التكلفة قد تفوق ثلاثة تريليونات)، وخسرت المئات من الجنود، ولم تترك سلاحاً محرماً إلا استخدمته ما عدا الأسلحة النووية، ثم اضطرت للمغادرة صاغرة أيضاً، ولم تعُد إلا على استحياء بحجة محاربة داعش!!
وبرغم هذه الخسائر المباشرة التي كانت خصماً على دافع الضرائب الأمريكي، وخسائر الحلفاء المباشرة أيضاً، فإن أيّاً من الأسباب التي قيل أنها كانت السبب وراء شن تلك الحروب لم يتحقق؛ فنظام طالبان عاد ليحكم أفغانستان، والمجتمع الأفغاني لم يتحول إلى مجتمع ديمقراطي تعددي، والشعب الأفغاني ما يزال يعاني من الفقر والبطالة وقلة مستوى الخدمات الضرورية سواء في التعليم أو الصحة أو البنيات التحتية أو خلافه.
وفي العراق لم يتغير شيء سوى وجود ديمقراطية شكلية تتعطل معظم فترات العام بسبب المحاصصة الطائفية، أما حال الخدمات الأساسية التي يستحقها شعب العراق، من تعليم وصحة وكهرباء ومياه، ومستوى الأمان العام والشخصي، فحدث ولا حرج، إذ تراجع حتى عن المستوى الذي كان عليه أيام "النفط مقابل الغذاء" والمشكلة الأكبر أنه في كلا الحالتين، فإن الأفق السياسي يكاد يكون مغلقاً برغم مضي عقدين على إدعاءات "المُخلِّص" الأمريكي!!
(٢)
في السودان، أُبتُلينا بنموذج آخر من التدخل الأمريكي في شأن بلادنا الداخلي، تارة بفرض العقوبات السياسية وتارة بشن حروب بالوكالة وتارة بالحصار الإقتصادي المتطاول ومنع العالم من التعامل معنا، مع الاستمرار في تشويه صورة نظام الحكم ووصمه تارة بالإرهاب وتارة بالفساد وتارة بالشمولية، وقد نجحت هذه الحزم المتآزرة في إسقاط النظام بعد أن قاومها لثلاثة عقود، دون أن يتدخل اليانكي بشكل مباشر.
اختارت القوى الاستعمارية التي كان لها السهم الأكبر في إسقاط نظام الإنقاذ أن تُسَلّم أمر السودان إلى وكلائها المحليين والإقليميين ليتعلموا "الحلاقة في رؤوس اليتامى" كما يقول المثل السائر، وبعد أن كان الوكلاء المحليون يتعمدون الكذب لتشويه صورة النظام، ويتحدثون عن مليارات الدولارات في حسابات خارجية وفي خزائن منسوبيه، انطبقت عليهم قصة أشعب فصدقوا كذبهم، ثم أخذوا يتسابقون للاستحواذ على تلك الأموال والودائع المليارية، ومن عجب أنه حتى بعد مضي هذه السنوات لم نسمع بأحدٍ ممن كذبوا على الناس يعتذر، ولم نسمع أنه عثر على عُشر ما ادعى من أموال منهوبة فأتى بها إلى الخزينة العامة!!
(٣)
بين الواقع الذي كان يعيشه السودانيون قبل أبريل ٢٠١٩ وبين ما يعيشونه اليوم بعد أكثر من ثلاث سنوات عقب "الكذبة" التي مرروها علينا، فرق شاسع يكاد يستحيل قياسه، فقد تحول الأمن إلى خوف، وضيق العيش إلى شظف، والطمع في مزيد من الحريات السياسية والإعلامية إلى تضييق على المعارضين وعزل وإقصاء لسياسيين وبثٍ لروح الفرقة والشتات بين المواطنين وتغليبٍ لخطاب الكراهية والفوضى، ولم تضع الحرب أوزارها، ولم تقم مؤسسات بديلة للعدالة بعد أن تمّ هدم التي كانت قائمة.
وإذا أردنا أن نُبين الأسباب التي هبطت بنا من فضاء الأحلام إلى الحياة بين الركام، فقد لا نجد سبباً أوضح من كوننا – وفي غفلة من كثيرين – سلّمنا أمر الإنتقال الديمقراطي في بلادنا إلى ناشطين وهواة سياسة، ثبت أنه ليست لديهم معرفة بأسس الحكم، فضلاً عن كونهم لا يملكون من أمرهم شيئاً، فصاروا أُلعوبة في أيدي الدول التي استثمرت في إسقاط النظام السابق، وتطمع في الاستحواذ على مستقبل بلادنا، وقد دفعت بهؤلاء الأغرار إلى واجهة الأحداث، مثلما فعلت مع كرزاي في أفغانستان والجلبي في العراق.
لقد فشل المشروع الأمريكي في السودان حتى قبل أن يبدأ، لأن الأمريكان لا يتعلمون من أخطاء عملائهم، وبرغم الخراب الذي أحدثه في النفوس وفي العمران وفي الطرقات، إلا أن زخمه المزيف تراجع في غضون عامين، بعد أن تبين للناس أنه يستهدف تفكيك ممسكات المجتمع من عقيدة وأخلاق وقيم أسرية وتربوية، وبعد تصدت له القوى السياسية والإدارات الأهلية والطرق الصوفية ففضحت زيفه. ويُحمد للقيادة العليا بالدولة أنها تجاوبت مع مطالب الأغلبية الساحقة من أهل السودان فنفضت يدها من أيدى العملاء.
(٤)
العاقل مَن اتعظ بغيره، وليس علينا في السودان أن ننتظر مصير الأمم والشعوب التي سبق إليها هؤلاء وبقوا فيها ردحاً من الزمان ثم غادروا ولم يتركوا وراءهم إلا الخراب والدمار، إذ يكفينا ما لحق بكثيرٍ من شبابنا من تزييف للوعي وترذيل لقيم التسامح والاحترام والبناء والإنتاج.
وعلى القوى السياسية التي كانت سبباً مباشراً في الفشل الذي لازم فترة الإنتقال حتى يومنا هذا، وما تزال مصرة على التمسك برؤيتها الأحادية، أن تثوب إلى رشدها، فلا سبيل لاستعادة سُلطتها التي ظنت أنها ستدوم، وعلى كل حال فإن أمامها سبيل الإنتخابات إن أرادت ذلك، أما إن أصرت على الاستعانة بالأجنبي لتحكم الناس دون تفويض ودون انتخابات، فعليها أن تتذكر أن العالم قد تغير وأن أوان التدخلات العسكرية قد انتهى، وأنها قد لا يسعفها الوقت حتى تلحق بطائرات الإجلاء المغادِرة!!
وما يزيد عن الترليوني دولار هي التكلفة المادية التي دفعتها أمريكا لحربها على العراق (هناك تقديرات لجامعات أمريكية تقول إن التكلفة قد تفوق ثلاثة تريليونات)، وخسرت المئات من الجنود، ولم تترك سلاحاً محرماً إلا استخدمته ما عدا الأسلحة النووية، ثم اضطرت للمغادرة صاغرة أيضاً، ولم تعُد إلا على استحياء بحجة محاربة داعش!!
وبرغم هذه الخسائر المباشرة التي كانت خصماً على دافع الضرائب الأمريكي، وخسائر الحلفاء المباشرة أيضاً، فإن أيّاً من الأسباب التي قيل أنها كانت السبب وراء شن تلك الحروب لم يتحقق؛ فنظام طالبان عاد ليحكم أفغانستان، والمجتمع الأفغاني لم يتحول إلى مجتمع ديمقراطي تعددي، والشعب الأفغاني ما يزال يعاني من الفقر والبطالة وقلة مستوى الخدمات الضرورية سواء في التعليم أو الصحة أو البنيات التحتية أو خلافه.
وفي العراق لم يتغير شيء سوى وجود ديمقراطية شكلية تتعطل معظم فترات العام بسبب المحاصصة الطائفية، أما حال الخدمات الأساسية التي يستحقها شعب العراق، من تعليم وصحة وكهرباء ومياه، ومستوى الأمان العام والشخصي، فحدث ولا حرج، إذ تراجع حتى عن المستوى الذي كان عليه أيام "النفط مقابل الغذاء" والمشكلة الأكبر أنه في كلا الحالتين، فإن الأفق السياسي يكاد يكون مغلقاً برغم مضي عقدين على إدعاءات "المُخلِّص" الأمريكي!!
(٢)
في السودان، أُبتُلينا بنموذج آخر من التدخل الأمريكي في شأن بلادنا الداخلي، تارة بفرض العقوبات السياسية وتارة بشن حروب بالوكالة وتارة بالحصار الإقتصادي المتطاول ومنع العالم من التعامل معنا، مع الاستمرار في تشويه صورة نظام الحكم ووصمه تارة بالإرهاب وتارة بالفساد وتارة بالشمولية، وقد نجحت هذه الحزم المتآزرة في إسقاط النظام بعد أن قاومها لثلاثة عقود، دون أن يتدخل اليانكي بشكل مباشر.
اختارت القوى الاستعمارية التي كان لها السهم الأكبر في إسقاط نظام الإنقاذ أن تُسَلّم أمر السودان إلى وكلائها المحليين والإقليميين ليتعلموا "الحلاقة في رؤوس اليتامى" كما يقول المثل السائر، وبعد أن كان الوكلاء المحليون يتعمدون الكذب لتشويه صورة النظام، ويتحدثون عن مليارات الدولارات في حسابات خارجية وفي خزائن منسوبيه، انطبقت عليهم قصة أشعب فصدقوا كذبهم، ثم أخذوا يتسابقون للاستحواذ على تلك الأموال والودائع المليارية، ومن عجب أنه حتى بعد مضي هذه السنوات لم نسمع بأحدٍ ممن كذبوا على الناس يعتذر، ولم نسمع أنه عثر على عُشر ما ادعى من أموال منهوبة فأتى بها إلى الخزينة العامة!!
(٣)
بين الواقع الذي كان يعيشه السودانيون قبل أبريل ٢٠١٩ وبين ما يعيشونه اليوم بعد أكثر من ثلاث سنوات عقب "الكذبة" التي مرروها علينا، فرق شاسع يكاد يستحيل قياسه، فقد تحول الأمن إلى خوف، وضيق العيش إلى شظف، والطمع في مزيد من الحريات السياسية والإعلامية إلى تضييق على المعارضين وعزل وإقصاء لسياسيين وبثٍ لروح الفرقة والشتات بين المواطنين وتغليبٍ لخطاب الكراهية والفوضى، ولم تضع الحرب أوزارها، ولم تقم مؤسسات بديلة للعدالة بعد أن تمّ هدم التي كانت قائمة.
وإذا أردنا أن نُبين الأسباب التي هبطت بنا من فضاء الأحلام إلى الحياة بين الركام، فقد لا نجد سبباً أوضح من كوننا – وفي غفلة من كثيرين – سلّمنا أمر الإنتقال الديمقراطي في بلادنا إلى ناشطين وهواة سياسة، ثبت أنه ليست لديهم معرفة بأسس الحكم، فضلاً عن كونهم لا يملكون من أمرهم شيئاً، فصاروا أُلعوبة في أيدي الدول التي استثمرت في إسقاط النظام السابق، وتطمع في الاستحواذ على مستقبل بلادنا، وقد دفعت بهؤلاء الأغرار إلى واجهة الأحداث، مثلما فعلت مع كرزاي في أفغانستان والجلبي في العراق.
لقد فشل المشروع الأمريكي في السودان حتى قبل أن يبدأ، لأن الأمريكان لا يتعلمون من أخطاء عملائهم، وبرغم الخراب الذي أحدثه في النفوس وفي العمران وفي الطرقات، إلا أن زخمه المزيف تراجع في غضون عامين، بعد أن تبين للناس أنه يستهدف تفكيك ممسكات المجتمع من عقيدة وأخلاق وقيم أسرية وتربوية، وبعد تصدت له القوى السياسية والإدارات الأهلية والطرق الصوفية ففضحت زيفه. ويُحمد للقيادة العليا بالدولة أنها تجاوبت مع مطالب الأغلبية الساحقة من أهل السودان فنفضت يدها من أيدى العملاء.
(٤)
العاقل مَن اتعظ بغيره، وليس علينا في السودان أن ننتظر مصير الأمم والشعوب التي سبق إليها هؤلاء وبقوا فيها ردحاً من الزمان ثم غادروا ولم يتركوا وراءهم إلا الخراب والدمار، إذ يكفينا ما لحق بكثيرٍ من شبابنا من تزييف للوعي وترذيل لقيم التسامح والاحترام والبناء والإنتاج.
وعلى القوى السياسية التي كانت سبباً مباشراً في الفشل الذي لازم فترة الإنتقال حتى يومنا هذا، وما تزال مصرة على التمسك برؤيتها الأحادية، أن تثوب إلى رشدها، فلا سبيل لاستعادة سُلطتها التي ظنت أنها ستدوم، وعلى كل حال فإن أمامها سبيل الإنتخابات إن أرادت ذلك، أما إن أصرت على الاستعانة بالأجنبي لتحكم الناس دون تفويض ودون انتخابات، فعليها أن تتذكر أن العالم قد تغير وأن أوان التدخلات العسكرية قد انتهى، وأنها قد لا يسعفها الوقت حتى تلحق بطائرات الإجلاء المغادِرة!!