قبل "الارتطام الكبير"... تحذيرات كيسنجر وحوادث الشّرق الأوسط!

أخبار البلد ــ وسط تناحر استراتيجي دولي وتنابذ إقليمي، يلقي الرئيس الأميركي جو بايدن مرساته في بعض عواصم الشرق الأوسط. يزور المنطقة المتفحمة بالحروب، المتخمة بالأزمات، منذ أكثر من نصف قرن، زيارة تفتح الباب لكل الاحتمالات، وتنذر برفع حرارة التنافس على المنطقة، بين أميركا وأوروبا من جانب، والصين وروسيا من جانب آخر، ناهيك بالاحتراب الإقليمي والحرائق القديمة بين أهل المنطقة؛ ما دفع هنري كيسنجر، مستشار الأمن القومي ووزير الخارجية الأميركي الأسبق، إلى دق ناقوس الخطر، محذراً من "حوادث كبرى آتية، في الشرق الأوسط وآسيا"؛ وكأنه يزيح الغشاوة عن الأبصار، لتخفيف حدة "الارتطام الكبير" المرتقب.

النّظام العالمي

كيسنجر هو أحد أشهر صانعي السياسة الخارجية الأميركية؛ سياسي متمرس ومفكر استراتيجي بارز، له تأثير واسع في الشأنين العربي والعالمي، في القرن العشرين. تعمد كيسنجر - في تصريح إلى صحيفة "صنداي تايمز" أخيراً - الغموض إزاء ما يقصده بمصطلح "حوادث كبرى" في الشرق الأوسط وآسيا: هل هي حروب أم صراعات من دون الحرب أم توترات... إلخ، لم يوجه بوصلته باتجاه محدد، لكن يُفهم منه أن المنطقتين ستكونان مسرح عمليات لحوادث خطيرة. قال الرئيس الأميركي: "لا أذهب إلى الشرق الأوسط من أجل الطاقة، بل من أجل الأمن"، زيادة إمدادات النفط والغاز ومحاصرة النفوذ الصيني والروسي واحتواء إيران، والعلاقات مع دول الشرق الأوسط أولويات على أجندة بايدن، قبل الزيارة وبعدها.

 
أمام الضغوط الغربية على الكرملين، طالب كيسنجر الدول الغربية بأن تراعي المصالح الروسية، عند مناقشة تسوية سلمية للأزمة الأوكرانية، داعياً الغرب إلى "إيجاد مكان" لروسيا، بعد الحرب؛ حتى لا تتحول إلى "موقع أمامي للصين" في أوروبا. يدرك كيسنجر أن إذلال موسكو ليس في مصلحة أميركا أو أوروبا، الضغوط الثقيلة على روسيا تحوّلها إلى مخلب للتنين، بدلاً من أن تكون قفازاً للغرب.

 
على مدار التاريخ الروسي، أدرك القياصرة مدى هشاشة إمبراطوريتهم الشاسعة؛ فأقاموا استراتيجيتهم الدفاعية على أساس إنشاء طوق إقليمي؛ للحفاظ على الأمن القومي الروسي. بعد الحرب العالمية الثانية، انتقلت الشعوب الأوروبية من الصراع إلى التنافس، في ظل توازن القوى؛ ما أدى إلى الترابط الاقتصادي بديلاً للصراعات التقليدية.

 
أجزاء من العالم لم تشارك في صوغ هذا النظام؛ أذعنت للثنائية القطبية منذ عام 1948 إلى 1989، حتى بدأت التحفظات تعبّر عن نفسها الآن كما يظهر في الأزمة الأوكرانية مع روسيا أو في بحر الصين الجنوبي أو الشرق الأوسط؛ ما يؤشر إلى أن النظام العالمي الراهن يواجه منعطفاً حاداً.

 
بعين الخبير، يرى كيسنجر أن عودة التوتر بين الولايات المتحدة وروسيا والصين، وتراجع الاقتصاد العالمي معطيات تستدعي التفكير في تأسيس نظام عالمي جديد؛ للخروج من مآزق النظام الحالي وتصدعاته؛ مبيناً أن النتيجة الحتمية لفشل القوى الكبرى في حل القضايا العالمية جذرياً هي "الحرب الكبرى" بين الدول - كما سمّاها كيسنجر في كتابه "النظام العالمي" - ذلك أن الصراع على مناطق النفوذ يمكن أن يتطور بسهولة إلى صراع بين الأمم والدول الكبرى.

حلبة المصارعة

قبل "الارتطام الكبير"... تحذيرات كيسنجر وحوادث الشرق الأوسط! دول الخليج - وعلى رأسها السعودية التي تستضيف بايدن وقادة مجلس التعاون ومصر والعراق والأردن - تسعى إلى استثمار القمة لتعديل نهج الولايات المتحدة وإعادة هيكلة العلاقات معها، وإحياء أو استحداث ترتيبات دفاعية بديلة من الانكماش الأميركي؛ ما يبقي الخطر الإيراني في ظل احتمالات فشل المفاوضات حول البرنامج النووي، في حدود السيطرة، بمعنى أنه يمكن إدارته وتلافي ارتداداته. لذا تمثل الحرب في أوكرانيا فرصة ثمينة لهذه الدول العربية؛ لفرض أولوياتها عبر ربط ملفات الأمن والطاقة والملاحة، بعد سنوات من تجريب مبدأ الفصل بينها.

 
صحيح أن إحداثيات الدول العربية لا تتطابق في ما بينها، ولا مع الإحداثيات الأميركية، وفي ركابها إسرائيل أو تركيا، لكن ذلك ليس شرطاً، بل قد يكون ورقة ضغط مثالية، رفضت السعودية والإمارات الاستجابة لضغوط الرئيس الأميركي لزيادة إنتاج النفط زيادةً مبالغاً فيها، لتركيع روسيا، وخرج وزير خارجية مصر أخيراً رافضاً فكرة "ناتو الشرق الأوسط"، مذكراً بأهمية "الناتو العربي" إن جاز الوصف، أي الاعتماد العربي على القوة العربية. كلها إشارات تلمح إلى أن بايدن قد لا يجد آذاناً صاغية في كثير من الملفات؛ تعمل إدارة بايدن على التواصل مع منطقة، جرى التشكيك في مدى التزام واشنطن تجاهها، بينما ينشغل قاطنو الشرق الأوسط بحسابات تقترب أحياناً وتبتعد أحياناً عن أولويات أميركا وأوروبا، كالتهديد النووي الإيراني والتوترات العنيفة في ليبيا وسوريا والعراق والسودان وتونس، والانتشار الواسع لصراعات مذهبية وعرقية؛ وجماعات متشددة تقوّض سيادة الدول، وتجعلها عاجزة أو فاشلة، كذلك الخلافات على مياه الأنهار الدولية، مثل النيل والفرات، ناهيك بالانتكاسات الاقتصادية وانكشاف موازنات دول المنطقة، بخاصة غير المنتجة للنفط، وجمود عملية السلام الفلسطينية - الإسرائيلية، وأخطار التغير المناخي... إلخ.

 
كل هذا يبرز صعوبة التوفيق بين أهداف دول الإقليم وأهداف القوى العالمية، وسط محاولات حثيثة من جانب أميركا وأوروبا والصين وروسيا جذب المنطقة كل إلى معسكرها، وإن كان الغرب هو الأوفر حظاً حتى الآن. المفاجآت واردة بقوة في عالم يتغير؛ على العرب أن يلتفتوا إلى مواقع أقدامهم، قبل كل خطوة، ربما تكون مصيدة أو شركاً، عليهم الإمساك بأوراقهم وعدم التفريط بها لهذا الطرف أو ذاك، إلا على مقاس مصالحهم الثابتة.

 
المصلحة الإنسانيّة

إن جنوب آسيا هو مسرح التنافس الرئيسي بين الولايات المتحدة والصين، أكبر اقتصادين في العالم، معركة محتدمة لا تقتصر علی جنوب آسيا، إنما تتعداها إلى الشرق الأوسط وأفريقيا وأوروبا، تمدد الناتو حتى حدود روسيا وما يجري في أوكرانيا يعتبره بعض الخبراء مجرد حلقة في سلسلة، هدفها النهائي "حصار الصين" وعرقلة صعودها إلى مقعد القوة العظمى، على حساب الولايات المتحدة وبالتبعية القوى الأوروبية. طلب الرئيس الأميركي خلال "قمة السبع" الأخيرة جمع 600 مليار دولار؛ لمواجهة مشروع الصين "الحزام والطريق"؛ بوصفه تهديداً للنفوذ الاقتصادي الأميركي في قارات العالم القديم - من ضمنها المنطقة العربية - الحديقة الخلفية للرأسمالية والليبرالية الغربية.

 
في المقابل، نفى كيسنجر إمكان تحول الصين إلى "قوة عالمية مهيمنة"، رغم أنها يمكن أن تصبح قوية للغاية، ما يزعج واشنطن، وحذر من غياب آلية عالمية فعالة للتشاور بين القوى العظمى. يميل كيسنجر إلى الواقعية والتدرج في حل المشكلات، خطوة خطوة، بحسب مارتن إنديك مبعوث أوباما السابق للسلام في الشرق الأوسط، في كتابه "سيد اللعبة".

 
يدعو كيسنجر إلى تشكيل نظام عالمي أكثر تشاركية، موضحاً أن حدوث صدام بين الاقتصاد الدولي والمؤسسات السياسية التي تتحكم فيه، يزعزع الشعور بالهدف المشترك للنظام العالمي، ومن ثمّ فإن هيمنة دولة واحدة على النظام العالمي تسفر عن أزمات يصعب حلها، حتى وإن بدا في ظاهره وكأنه يجلب النظام والاستقرار؛ الأمر الذي يتطلب حتمية التعاون الدولي، وفقاً لقواعد يتفق عليها الجميع، لا بالمفهوم الغربي فقط، تشمل الثقافات الصينية والروسية والإسلامية والأوروبية وغيرها.

 
إرساء نظام عالمي معاصر يستلزم استراتيجية متماسكة، لا تحركها المصالح الذاتية للدول، بل تجمعها المصلحة العامة للإنسانية، للحيلولة دون إرباك النظام، كما يحدث حالياً. وربما تكون الفرصة مهيأة، لإنشاء نظام مستقر، وليس تحقيق السلام، سواء في الشرق الأوسط أم في جنوب آسيا، فإن أفلتت فإن ما يجرى في أوكرانيا مجرد "بروفة" لما ينتظر الجميع من "حوادث كبرى"!. النهار العربي.