المجتمع و”قيمه”

أخبار البلد-

 
يبدو مفهوم "المجتمع” مائعاً، ورجراجاً، مثل مفهوم "الوطن” و”الوطنية”.
فلا أحد يزعم أنه يستطيع القبض على معنى محدد، وصارم، ودقيق، لمثل هذه المفاهيم الواسعة المقاصد والدلالات.
ومن مصفوفة هذه المفاهيم كذلك "المجتمع المحافظ” و”العادات” و”التقاليد” و”الأخلاق”.
فهي كلها مصطلحات مجردة لا تحمل شيئاً من القداسة أو الحصانة، وليست معصومة على إطلاقها، ولا تكتسب أي تقدير سوى بما يضاف إليها من محمولات مكانية تتعلق بالمثاليات الراهنة، والأخلاق المعاصرة.
فالمجتمع هو وصف لمجموعة من الناس اجتمعت على العيش في مكان وزمان معينين، والعادات هي ما اعتادت هذه المجموعة ممارسته من سلوكات، والتقاليد هي ما اعتادوا فعله من باب تقليد بعضهم بعضا، أو الانزياح نحو السلوك الجمعي المتشابه، من باب الخوف من الاختلاف، وعواقبه.
كما أن الأخلاق مجرد اصطلاح يحتاج إلى دلالة ما يتخلَّق بها الفرد، كما في الوصف القرآني "إنك لعلى خلق عظيم”، أما المفردة بمطلقها (الأخلاق) فلا تحمل وصفاً من باب المدح أو الذمّ.
وحيث هذه المفردات والمفاهيم كلها لا تحمل "إيجابية” مفترضة في معناها؛ فالمجتمع قد يكون جشعاً وغير مثالي، وكذا الأخلاق قد تكون سيئة، والعادات ربما تكون جملة سلوكات نافرة اعتادتها مجموعة من الناس.
وكذا هو الإرث الاجتماعي لا يكتسب حصانة لمجرد أنه ينحدر من نسب مجتمعي ما، أو من زمان ما، فأسلوب الحياة الذي يناسب مكانا وزمانا معينين ليس بالضرورة أن يكون مناسبا لكل زمان ومكان.
ومن المجحف أن تعيش وفق أسلوب وعادات عمرها مائة أو مائتين أو ألف عام لمجرد الوفاء للأسلاف، فهذه العادات هي بتعريفها المعاصر كانت أسلوب حياة أو "لايف ستايل” لمجموعة من الناس، قد لا تخدم شروط الحياة الجديدة، ولا تتفق مع أدوات العيش الراهن، وقد تبدو ناشزة عن السلوك الاجتماعي السائد.
فجملة العادات التي كانت تصلح لقبيلة واحدة من جدٍّ واحد، لا تصلح للمجتمعات الكوزموبوليتانية المعاصرة التي جاءت من سواحل ومدن وعواصم وأرياف وجبال بلغاتها وألوانها ومحمولاتها الثقافية والاجتماعية.
وحتى في الموروث الديني، فإن بعض السلوكات التي ينشغل رهط كبير من الناس بتحريمها وتحليلها ليست في الأصل من صلب الدين، وليست من حرامه أو حلاله، بقدر ما هي نمط حياة ساد بين المؤمنين في ذلك الوقت.
هكذا تشكلت رزمة المعايير والمحاذير التي يشهرها "المجتمع” في وجه أفراده، والتي غالباً لا يجري عليها أي تحديث، رغم مرور سنوات طويلة على إقرارها أو اعتيادها.
ومن هنا فإن تعبير "المجتمع المحافظ” يبدو للوهلة الأولى وصفاً مكثفاً لجملة مفاهيم تضبط سلوكات الناس كالعادات والتقاليد والحلال والحرام والعيب و”المتفق عليه” والسائد والمتوارث، فيصير كل اجتهاد في التصرف أو كل خروج على هذه التعاليم، أو كل ما خالف هذه الرزمة من المعايير خروجاً على الأخلاق وانشقاقاً عن "المجتمع المحافظ”.
ولـ”المجتمع المحافظ” حراس شرسون لا يطيقون الاختلاف، ولا يسمحون بإعمال العقل، ولا يعترفون بالتعددية الثقافية والتنوع في طرق التفكير الذي تفرضه الأصول والمرجعيات المدنية والدينية.
وهم الذين كلما رأوا شيئاً يخالف ما اعتادوه عاملوه دون أي تردد معاملة "المنكر”، و”البدعة”، وأجمعوا على رفضه وتحريمه.
وهذه هي المجتمعات التي تظل في خطابها الجماعي تنادي دون كلل بـ”الحريات العامة”، فيما هي بينها تسهر على قمع أي "حرية شخصية” أو "فردية”.
وهنا يأخذ المجتمع دور ووظيفة "الديكتاتور” بلا هوادة، وهو (أي المجتمع الديكتاتور) أقسى وأكثر دموية بألف مرّة من "الحاكم الديكتاتور”.