إضاءات على تحقيق الأمن الغذائي الأردني
أخبار البلد ــ ما زال الكثيرون يخلطون بين مفهوم الاكتفاء الذاتي والأمن الغذائي والذي يُعرف، أي الأمن الغذائي، بأنه «حصول جميع السكان في جميع الأوقات على أغذية كافية ومأمونة ومغذية تلبي حاجاتهم وأذواقهم الغذائية لكي يعيشوا حياة ملؤها النشاط والصحة». أما الاكتفاء الذاتي فيعرف بقدرة أي دولة على إنتاج احتياجاتها من الغذاء داخل حدودها القطرية وبالاعتماد على الموارد المحلية دون استيراد أي من هذه الاحتياجات.
الاكتفاء الذاتي صعب المنال في معظم دول العالم، لذلك تعمل الدول على تحقيق الأمن الغذائي ضمن سياساتها العامة المتعلقة بالاستيراد والاتفاقيات التجارية مع الدول الإقليمية والدولية. وضمن هذا المفهوم نجد وبشكل عام أن الأمن الغذائي في منطقتنا غير مأمون في ظل الأزمات العالمية مثل جائحة كورونا والحرب الروسية الأوكرانية وغيرها من الأحداث على الساحة الدولية، لا سيما وأن الأرقام تشير إلى أن نسبة ما تستورده بعض الدول العربية من المواد الغذائية تتراوح ما بين ٤٠-٩٥٪، مما يجعلها الأكثر استيراداً للمواد الغذائية على مستوى العالم، في حين يستورد الأردن أكثر من ٩٥٪ من احتياجاته من الحبوب والأعلاف.
الدول التي تستورد معظم احتياجاتها الزراعية والغذائية مع تباين في سياسات الأمن الغذائي والتي تفتقر للتكاملية، ستكون الأكثر تأثراً من حيث تأمين تزويد السلع الزراعية الاستراتيجية والأساسية وبأسعار معقولة، وذلك بسبب الإرباك الحاصل حاليا في سلاسل أنتاج الغذاء حول العالم من القدرة على زراعة الأراضي بسبب الحروب، وإمكانية التصدير، والنقل، وغيرها. هذه الدول ستكون مجبرة على الشراء بأسعار اعلى بسبب المنافسة والطلب العالي، مما يضع هذه الدول مرة أخرى أمام تحديات التضخم ورفع الأسعار ودعم السلع وزيادة المديونية، وما يترتب على ذلك من أبعاد سياسية واجتماعية محفوفة بالمخاطر. ويتوقع أن تتعرض سياسات الأمن الغذائي العربي إلى هزات بسبب اضطرابات سلسة إنتاج الغذاء الزراعي العالمي، مما يحتم على العديد من الدول العودة لسياسات الاكتفاء الذاتي من خلال زراعات وطنية تعتمد على موارد المياه الشحيحة ومنافسة قطاعات مياه الشرب التي تعتمد بشكل كبير عليها. فالعودة للزراعات الوطنية للمحاصيل الاستراتيجية سيزيد من حدة مشاكل المياه، وخاصة توفرها لأغراض الشرب.
بشكل عام تعتبر الدول الفقيرة مائياً، دولا فقيرة في إنتاج الغذاء، وبما أن معظم الدول العربية ومنها الأردن تقع تحت خط الفقر المائي فإن إنتاج الغذاء وبالأخص الحبوب يصبح قليلاً نسبيا. وإذا نظرنا إلى تناقص مستويات المياه بسبب التغير المناخي تصبح زراعة الحبوب وخاصة البعلية منها، أي التي تعتمد على الأمطار دون ري، أقل وأقل إلى أن تصبح شبه معدومة مع التغيرات المناخية المقبلة في ظل زحف عمراني عشوائي على الأراضي الزراعية التي تزرع القمح بمياه الأمطار.
في ظل التحديات سابقة الذكر، يبقى السؤال، كيف لنا في الأردن تحقيق الأمن الغذائي بأسعار معقولة؟ للإجابة على هذا السؤال لا بد من العمل على مجموعة من الإجراءات والبرامج والمشاريع التي من شأنها زيادة إنتاج مخزون الغذاء وترشيد استهلاكه قدر الإمكان.
فعلى المدى القصير لا بد من إطلاق حملات توعوية للمواطنين في كيفية ترشيد استهلاك الغذاء ومنع التبذير في استخدامه، على أن تكون موجهة للشرائح ذات الاستهلاك العالي، بما في ذلك المطاعم، والمناسبات الاجتماعية، وقد يتطلب الأمر سن بعض التشريعات بهذا الخصوص نظراً للأهمية في ظل الارتفاع الكبير في أسعار الغذاء والذي زاد عن ٤٠٪ لغاية تاريخه، والذي أيضا من المتوقع أن تزداد أسعاره خلال الأشهر القادمة في ظل استمرار الحرب الروسية-الأوكرانية.
فيما يتعلق بجانب الإنتاج الحيواني فلا بد من خلية أزمة لمساعدة القطاع الخاص وخاصة مربي الدواجن والأغنام والأبقار لزيادة أعداد قطعانهم، وزيادة إنتاجهم وتقديم التسهيلات لهم من قروض ميسرة واعفاءات واجراء الاتصالات الدولية لتأمين الأعلاف لهم بأرخص الأسعار الممكنة، ذلك أنه كلما زاد إنتاجهم، انخفضت الأسعار وتحسن وضع الأمن الغذائي. كما يجب فتح الباب أمام مزارع تربية الأسماك ونقل التكنولوجيا وخاصة في منطقة الأغوار التي تعتبر بيئة رائعة لإنتاج الأسماك. وكذلك تشجيع المزارعين والمستثمرين على انشاء الصناعات الغذائية حتى ولو أن جزء كبير منها ليس ذو مدخل إنتاج وطني كبير.
أما على صعيد الحيازات الزراعية المنزلية وخاصة في الأرياف والبادية، فلا بد من زيادة البرامج الحالية لتقديم الدعم لأنشاء حظائر منزلية لتربية الأغنام والدواجن والحمام والنحل وكل منها حسب الظروف الجغرافية والبيئية للمناطق المستهدفة.
وفيما يخص الإنتاج النباتي، فهناك الكثير من العمل لرفع كفاءة الإنتاج وخاصة في مجال الزراعات المروية لإنتاج الخضروات، وذلك بتشجيع ودعم وتقديم التسهيلات المالية للمزارعين الذين يتوجهون للزراعات المائية والذكية، والتي تستهلك مياه اقل بحوالي ٩٠٪ من الزراعات التقليدية مثل الري بالتنقيط تحت البيوت البلاستيكية والتي تزرع حاليا بالطرق سابقة الذكر واستغلال توفير المياه لزيادة إنتاج الخضروات التي لا يمكن زراعتها بطريقة الزراعات المائية، مثل البطاطا وغيرها. بالإضافة إلى العمل على التوسع في إدخال التكنولوجيا الذكية في مجال الزراعة والاتصالات الحديثة لنشر المعرفة والوعي بين المزارعين بهدف زيادة الإنتاج وتحسين النوعية وتوفير المياه. كما وأن زيادة الاهتمام بالزراعات الغذائية المتخصصة وذات النوعية والجودة العالية سيكون ذا تأثير جيد على الامن الغذائي.
ولا بد هنا، من الاستمرار في دعم ومساعدة مزارعي الأعلاف على مياه الصرف الصحي المعالجة، والتي نجحت بشكل كبير في كل من خربة السمراء وجنوب عمان والمفرق ومادبا والرمثا، علما بأن هنالك مياه تكفي حاليا لزيادة الرقعة الزراعية بما لا يقل عن ١٠ آلاف دونم وهو رقم كبير في إنتاج الأعلاف وخاصة «البرسيم» منها.
الزراعات البعلية وخاصة القمح والشعير والتي يعد إنتاجها متواضع جداً ولا يغطي أكثر من ٥٪ من الاستهلاك الكلي، وهنا قد يكون من المناسب سن تشريع، بحيث يسمح لمزارعي الحبوب باستغلال الأراضي البور لزراعتها من قبلهم بدون مقابل حتى ولو كانت مملوكة من القطاع الخاص، من خلال ترتيبات لا تخل بحقوق الملكية لأصحاب الأراضي، وذلك جنبا إلى جنب مع الإعلان المبكر عن الأسعار التشجيعية، وليكن قبل عام من الموسم الزراعي ومهما كانت «الكلفة»، ما يعني أن ذلك سيكون حتما أقل «ثمنا» على الوطن اقتصاديا واجتماعيا.
أما على المدى الطويل، فإن زيادة سعة صوامع الحبوب الوطنية من الأهمية بمكان، بالتزامن مع انشاء مناطق حرة، وصوامع لتخزين الحبوب والصناعات الغذائية الكبيرة من خلال استقطاب القطاع الخاص المحلي والإقليمي للاستثمار في هذه المناطق وتقديم كافة أشكال الدعم بعيدا عن التعقيدات البيروقراطية، لا سيما وأنه لدينا مناطق تمتاز بمناخ مناسب لتخزين الحبوب ذات الرطوبة المتدنية، ودرجات حرارة تناسب التخزين، مثل جنوب وادي عربة والقويرة وكلاهما قريب من ميناء ومطار العقبة. وكذلك تشجيع الاستثمارات العربية البينية في مجال انتاج الغذاء مع استغلال الميزات النسبية والتنافسية لهذه الدول.
وينبغي العمل مع دول الجوار على إزالة كافة العوائق التجارية والجمركية التي تعيق انسياب المواد الغذائية من وإلى الأردن. كما ان العودة إلى الزراعات التعاقدية خارج الأردن مثل السودان ودول أوروبا الشرقية وكندا قد يكون أجدى من أي وقت مضى وخاصة فيما يخص زراعة الاعلاف.