معنى الفلسفة بين الزمن القديم و الحاضر
فقرة فلسفية بين العلم و الأسطورة
إن الإنسان منذ نشأته و هو بمحاولته اكتشاف ما حوله و تحسين ظروف معيشته جد و اجتهد في تفسير الظواهر المختلفة سواء تلك التي تعلقت بالطبيعة أو المتعلقة بذاته كمخلوق بشري و قد تشارك إنسان اليوم مع الإنسان القديم في هذه المسألة لكن مع بعض الاختلافات في النتائج و الطريقة المتبعة للوصول إلى هذه الأخيرة.
ومن هنا و بناء على نص الموضوع نجد السؤال الذي يطرح نفسه:
بماذا اختلف تفكير إنسان العصور القديمة عن تفكير إنسان العصور الحديثة، و ما هو النمط الذي اعتمده الأقدمون لتفسير الظواهر؟ أو على الأحرى كيف كان يفكر الإنسان في المرحلة السابقة و كيف يفكر الآن؟
إن القدماء فكروا تفكيرا وهميا و أعطوا مفاهيم غير واقعية بحيث أنهم كانوا شعراء مثبتين للحقائق بكلام بلا أساس يسنده، فلا يمكن التأكد من معارفهم و حقائقهم بخلاف الإنسان الحديث الذي جعل من المنهج العلمي طريقة لوصوله إلى مفاهيم عقلية منطقية مبنية على براهين تدعم صدقها، فالقدماء لجأوا إلى الأسطورة في تفسيرهم للحوادث و الظواهر مما جعلهم يبنون معارف خيالية لا عقلية غير منسجمة مع واقعهم المعاش.
و مما يدعم هذا القول ما يلي:
1) إن البابليين اعتقدوا بأن هناك طائرا عظيما يجلب لهم الزوابع والمطر و يخلصهم من الثور الذي يحرق زرعهم و محاصيلهم، فإن البابليين باعتقادهم هذا يكونون قد صدقوا أسطورة لا وجود لها في الواقع، و إنما سمحوا لخيالهم الواسع بان يهيم بهم في تفسيرهم لظاهرتي هطول الأمطار و الجفاف، فتفسيرهم ليس واضحا بالقدر الكافي للإقناع، بينما الإنسان الحديث أثبت أن هطول الأمطار لا يكون إلا إن توفرت له الظروف المناخية الملائمة لذلك، و باستعمال المنهج التجريبي، بتوفير نفس الظروف المناخية فسوف تتساقط الأمطار بصورة حتمية، فهذا التفسير يظهر مدى تطابق النتيجة التي وصل إليها الإنسان الحديث حول ظاهرة المطر مع الواقع، و مدى إمكانية إقناع أي شخص بهذه النتيجة المنطقية.
2) فالقدماء كانوا يصدرون أحكاما على وقائع و حوادث بشكل حاسم لا يقبل الجدل و النقاش، خاصة تلك الحوادث التي كانت تفسر على أساس ديني لاهوتي، عكس المعارف العلمية التي تقوم على الشك في النتائج لتحسينها و تطويرها.
3) إن المعارف العلمية لا تطالب أحدا الاعتراف بها، فهي لذاتها قابلة للإقناع، لاعتمادها على ضوابط العقل. فالنتيجة العلمية يتقبلها العقل بكل سهولة بخلاف الأسطورة التي تطالب المؤمن بها بالاعتراف بشرعيتها و صدقها، و إن لن يستطيع التأكد منها.
وما يؤخذ على هذا الطرح، أن معارف الأقدمين و إن كانت في جلها خرافية وهمية إلا أننا لا نستطيع أن ننكر اكتشافاتهم المختلفة في المجال المعرفي.
فالصينيون القدامى لهم الفضل في اكتشاف بعض الوسائل البسيطة كالحبر و البارود، و الهنود القدامى آمنوا بقداسة الأخلاق و القيم، و الفارسين القدامى بينوا فضائل النور و كيد الظلام.
لذا يمكننا القول أن تفكير أجدادنا القدامى الوهمي اللاواقعي المستند على الأساطير كان المخاض العسير الذي تولد عنه تفكيرنا العلمي المنطقي العقلي القابل للإقناع، فكما قال مارتن: "عجبا لأمر الفلسفة! فكيف لما هو عاطفي وجداني أن يؤسس لما هو عقلاني واقعي".
اسكوبيتا الفلسفة
"إن الفلسفة لا ينكر فائدتها إلا جاهل أو معاند أو كلاهما، إلا أنك إذا أردت أن تفهمها حق الفهم، فلا بد من معرفة آراء الأقدمين، إذ الفلسفة كالمرء يكون طفلا ... ثم يصير كهلا و هو شخص واحد، كالسلسلة كل حلقة منها ارتبطت بالأخرى. فمن لم يقف على أقوال القدماء لا يتمكن من استنباط آراء المعاصرين.".
دافيد سانتلانا
"المذاهب الفلسفية اليونانية في العالم الإسلامي"
تحقيق وتقديم _ جلال شرف
الفلسفة، كلمة واحدة ذات معاني عديدة، أحيانا تكون نوعا من التفكير، و أحيانا تكون نوعا من البحث، و أحيانا أخرى تكون علم بالمبادئ و غيرها من التعريفات التي اختلفت باختلاف الفلاسفة و المؤرخين.
هذا الاختلاف بدا واضحا خلال تطور الإنسان، و منذ تفلسفه لأول مرة، لكن ما نلمسه من خلال تطور الفلسفة هو ذلك الاختلاف الذي امتد ليشمل جميع ما يحيط بها، و أحيانا كان يضربها في الصميم.
فقد اختلف حولها العلماء و الحكماء و رجال الدين والسياسيين وحتى العامة من الناس بين محب لها وعامل بها وناقم عليها و مكفر للعامل بها و غيرها من الأفكار و الاعتقادات، و قد جالت شكوك كثيرة و من أطراف متنوعة حول مواضيعها و أهميتها و تأثيرها على البشر و محيطه و مستقبله.
و هنا نجد السؤال الذي يطرح نفسه بناء على ما تقدم في الموضوع:
هل للفلسفة فائدة؟ أو على الأحرى أين تكمن حاجتنا للفلسفة؟ أو بطريقة أخرى ما الذي بجعلنا نتفلسف؟
إن فوائد الفلسفة على الإنسان لا حصر لها فهي كشجرة الزيتون التي تذر على الإنسان زيتونا صافيا في موسمه وظلالا وافرة أثناء الحر ونفاياتها عبارة عن زيت فيها شفاء لمستعمليها كذلك الفلسفة, فهي تجعل الإنسان ينظر إلى ماضيه واضعا إياه تحت المجهر ليستخلص معانيه وعبره و أخطائه وهفواته و ليمكنه من عيش حاضره والتخطيط للمستقبل الذي يحلم به هذا الإنسان في نومه ويقظته. فإن أعظم فائدة مرجوة من الفلسفة حين نقوم بها هي رصد المجهول القادم و الإعداد له من مخلفات الماضي،و باعتبارنا الإنسان محاربا، فالفلسفة تأخذ ماضيه لتجعل منه درعا لحاضره ثم تعمد إلى أخذ حاضره لتجعله سيفا في يده لمستقبله، و هنا يتبين لنا أن الإنسان يملك كنزا ثمينا يكمن في أقوال و حكمة القدامى، التي تعبر عن نتائج تجاربهم خلال حياتهم في عصور مضت، و إن على إنسان اليوم أن يأخذ جواهر هذا الكنز القديم من نصائح و معلومات، و يبدأ بتحليلها و التدقيق فيها من كل الزوايا، و ترشيحها، فيأخذ ما هو صائب و صالح لمقامه و آماله، و يترك كل ما هو سيء و مضر بأهدافه، ليتمكن بهذا المخزون المعرفي القديم أنيستنتج و يولد مخزونا معرفيا حديثا، عصريا، فإن رأي الإنسان القديم مرآة تعكس رأي الإنسان الحديث.
و ما يؤكد هذه النظرة ما يلي:
1) إذا أخذنا تعريف أفلاطون للفلسفة:" الفلسفة هي البحث في جواهر الأشياء حينما يتدرج العقل في البحث في الانسجام الوجودي بينها، والذي هو ليس إلا الخير." فإننا نجد تلك الفائدة العظيمة التي سعى أفلاطون إلى نشرها بين البشرية جمعاء حين نجح في تعميمها بين أوساط الشعب الأثيني آنذاك، ألا و هي فائدة الأخلاق و العلم و البحث عن المعرفة من جميع جوانبها، و هنا تكمن قيمة الفلسفة في معناها الصافي، فالنظر إلى فلسفة أفلاطون المثالية التي علمت البشرية طرق الخير ومفاتيحه، من علم و أخلاق و مبادئ، يؤكد لنا أن القدامى لم يتفلسفوا لتنوير أنفسهم فقط، بل لنقل ذلك النور أو جزء منه إلينا و عليه تكمن مهمتنا المتمثلة في نقل تلك المعارف و النتائج و الوقائع و النور إلى الأجيال القادمة.
2)إن الفلسفة كما نعرفها اليوم، لم توجد على هذا النحو دفعة واحدة، فقد تطورت بتطور الفكر الإنساني، و زادت بزيادة بحثه عن رفاهيته و تقدمه، و يتضح هذا التطور جليا عبر التاريخ الفلسفي، فإن أخذنا الفترة اليونانية، فإننا نجد أن فلسفة سقراط أسست لفلسفة أفلاطون، فتلميذ سقراط ورث عن معلمه قاعدة فلسفية متينة ليبني عليها فلسفته، ثم يورثها لتلميذه أرسطو الذي جعل من فلسفة أفلاطون مركز انطلاق لفلسفته التي أضاءت عقول كثيرين أشهرهم ألكسندر الأكبر. فالفلسفة بهذا المعنى كالعلوم الحديثة التي تبني نتائجها انطلاقا من القوانين السابقة،و من هنا و بالاعتماد على النظرية العكسية فبإمكاننا القول أن لولا فلسفة سقراط لما كانت انجازات الكسندر الأكبر، فهذا الأخير هو حفيد سقراط فلسفيا و هذا أكبر دليل على تطور الفلسفة و تطويرها للإنسان معرفيا و ثقافيا و سياسيا.
3)و إذا نظرنا إلى التاريخ البشري الحضاري فإننا نجد الحضارة تقوم على أنقاض حضارة سبقتها و هذه السلسلة الحضارية ملازمة للسلسلة المعرفية الفلسفية فنجد الحضارات الصينية و الهندية تمهد لقيام الحضارة الفارسية والمصرية الفرعونية, وهذه الأخيرة تمهد بدورها لقيام الحضارة اليونانية و الرومانية ثم تأتي على أنقاضهما الحضارة الجرمانية التي هي في نظر هيجل آخر الحضارات ومنه يتضح لنا أهمية الفلسفة بكونها عنصر متجدد بتجدد الرقي و الازدهار. فكل موروث حضاري فلسفي ينهار ليفصح الطريق لفلسفة جديدة تؤسس لحضارة الغد.
وما يؤخذ على هذه النظرة ما يلي:
إن نظرنا في الحضارات السابقة فإننا نجد كل منها في قطيعة مع الأخرى, فإن افترضنا أن الحضارة الصينية و الهندية أسست للحضارة الفارسية و المصرية القديمة لترابطهما بالفكر الأسطوري اللاهوتي فهذا ينفي تماما أن تؤسس الحضارة الفارسية و الفرعونية المصرية لحضارة اليونان, فالأولى قائمة على الأسطورة و الثانية قائمة على العقل وهما ضدان لا يلتقيان, أما بالنسبة لنظرية تطور الفلسفة من سقراط وأفلاطون وأرسطو وصولا إلى ألكسندر الأكبر فهذا اقرب إلى المستحيل منه إلى الحقيقة, فلكل واحد منهم زمانه الذي عاشه بظروفه ووضعياته التي انعكست على أفكاره وبالتالي على فلسفته, فكيف لفلسفة سقراط التي اعتبرت العالم الحسي سجنا كبيرا للروح التي مقرها الأصلي هو العالم الآخر أن تؤسس لإنجازات الكسندر الأكبر الدنيوية العظيمة من انتصارات عسكرية وسياسية, وإن نظرنا إلى آراء أفلاطون حول الفلسفة فإن هذا الرأي صالح لفترته المتميزة والمختلفة عن فترتنا الزمنية الراهنة فلا يمكن لنا أن نلتزم بأفكار ولدت قبل الميلاد أين كان المجتمع الإنساني همه الوحيد الحرية الفكرية و العقلية في النظر إلى الظواهر المختلفة, وهذا كله يأخذنا إلى النظر بحذر كبير من القائلين بفوائد الفلسفة, والتي حصروها في التطور والتكامل والاستمرارية.
وما نخلص إليه هو أن الفلسفة بالنسبة للإنسان كالسيارة التي تسير على طريق مستقبله الجبلي الوعر مسهلة له النظر إلى ماضيه بمراياها العاكسة.
بيلاريس التفلسف
إنّ التفلسف حقيقة واقعة رغم انكارنا لها، و هروبنا منها، أو مجافاتنا لها، و معارضتها. وهذه العملية الطبيعية القابعة في أعماق البشر، مازالت تحرك الأفراد و الشعوب، على سبيل الرغبة حينا، أو قصد بلوغ الأهداف أحيانا أخرى.
إنّ التفلسف يأخذ معناه من جمع أجزاء مختلفة تتراس لتعطي قالبا ضخما تصهر فيه من كل ايديولوجيا مبدأ متميزا عن الآخر، و منه للتبسيط فالتفلسف هو عملية سد فراغ التفكير، و رأب صدع العمليات الذهنية، لبلورة نتائج تبدوا صالحة إلى حد ما، فيصدقها القلب، و يقبلها الضمير الإنساني.
و هنا و بناء على ما تقدم نجد السؤال التالي:
ما أهمية التفلسف بالنسبة لنا نحن أبناء آدم؟
تكمن أهمية التفلسف في تعدد الحقائق، و اختلافها باختلاف مستقبليها، و استقبالهم لها، كما تدخل في مجالها أيضا مدى الرغبة و الحاجة اليها، مستعينين بالمناهج و الطرائق المتنوعة.
إننا نسلك طريقا مدججا بألغام سيكلوجية متعددة الاحجام و شدة الانفجار، فمنها المتعلق بالدين، و منها المتعلق بالسلطة، إضافة إلى الاجتماعي و الاخلاقي و فنون العيش الكثيرة.
فالإنسان المضطرب و العجيب من حيث التراكيب، بحاجة إلى التفلسف رغم أنه بمثابة ابن عاق له، فقد نجد فريقا من الباحثين ينكرون هذه العملية، و لكنهم يقومون بها على سبيل الحاجة لا الندية.
و هذه الحاجة جعلتهم يستبدلون اسم التفلسف بأسماء أخرى للعملية الواحدة في المنهج و الهدف و الطريقة المتبعة للوصول إلى النتائج المرغوب فيها. و من أشهر هذه الاسماء نجد تلك المتداولة بين سطور كتابات المواد العلمية، كالذكاء و البداهة، و طرق الخلاص. ناسين أو متناسين بذلك أن الفرق في العمليات الذهنية يكمن في الطرق و الهدف و المبدأ، لا في الاسماء التي قد تعبر عن الجوهر من جهة، أو عن الاشكال من جهات معينة و مستنسخة في الآن معا.
إن تمايز الحقائق جعل الكائن المقدس يسعى للاهتمام ببعضها على حساب البعض الآخر، من جهة مبدأ عيش الواجب أن يكون بينما هناك قائلين بشد الانتباه إلى كل جوانب الحقيقة، كمصدر للتعدد و التثاقل و نبذ المسؤولية التي حملوها ما لا تطيق، بالمشاركة في تركتها الثقيلة على أكتاف الرجال قبل غيرهم.
إن التبريرات الاخلاقية و عدم الاعتراف بأسوأ الأخطاء المرتكبة في حق النفوس قبل كل شيء جريمة الجرائم، فهي موت معنوي يغتال الاحلام, و ثقافة الحياة. و لهذا ما على البشر إلا مصارحة هذه الذات المسكينة، الفقيرة معرفيا و إحساسيا و شعوريا.
و هنا نقف عند مصارحة النفس قبل مصالحتها، فالنفس تعطي من يعطيها، و تحمي من يحميها، و تصادق من يصدّق لغتها، و يفهم معانيها، إن البشري الذي يُصنف في خانة عديمي الضمير هو الإنسان الذي يعيش أوهام ذاته الغارقة في توازن الاقصاء بالترويح على ما فات بما لا يفيد، و هذا التوازن في أصله قائم على اللاتوازن، فهو يرتكز على أركان متحركة قابلة لدخول دائرة فقدان السيطرة على أنواع التوجس و النبض العادي للأفكار، المستوحاة من الوجود الموجد للوحدات المعروفة في أوساط زوايا أرواح العباد.
كما أننا نجد من يقاوم هذه العملية بما لا تستجديه المقاومة، أي أننا نجد أناسا يحاولون الهروب إلى الأمام من قيود حاضر لا يمكن تخطيها في أفضل الأحوال. و لهذا كان التفلسف ضروريا لحل عقد الأزمات و التي قد تجعل من مواقعها بدايات تحوّل لا مناص منه، بل أبعد من هذا. فالتفلسف يربي في كنفه فهما دقيقا بمجريات أسوأ الامور لتفادي وقوعها في مستقبل ليس بالقريب و لا بالبعيد، إنه مستقبل آت لا محال.
فلو تخيلنا هذا العالم بدون تفلسف فحتما سنرسم في مخيتنا، تلك الصورة لإنسان يحاكي الحيوان في طبيعة قاسية، لا ترحم مرتاديها في أبسط البسيط، بل و أبعد من هذا، فإن حتى نقد أو بالأحرى انتقاد التفلسف و الهجوم على الفلاسفة هو تفلسف في حد ذاته.
فالتفلسف لا يحل الأزمة فقط، فهو الذي يؤسس لها و يديرها، ثم به نحلها في مظهر نحن راضين عنه قبل حدوثه.
و عليه نجد التفلسف فلسفة كبيرة تقع على ساحل البحر المعرفي الأصيل، و حولها بساتين العلوم الكثيرة و مزارع التجارب متصلة.
و نتائجها فائضة و فيها جميع أنواع الحقائق. و هي أعرق الفلسفات الموجودة على ساحل البحر المعرفي، و أطيبها نتائجا و أحسنها قوانينا و قواعدا.
فيها العلم الذي يتميز بشدة حلاوته و نكهاته المختلفة، و فيها الفن الذي لا مثيل له. و تمتاز هذه العملية في وسطها بنقاشاتها العجيبة ذات الواجهات اللامعة الخلابة، و الاشكاليات الفاخرة التي توفر للفلاسفة كل أسباب الراحة، و النقد ذا الهندسة العجيبة.
و في خلاصتها يوجد معناها الكبير الذي يعج بحركة الأفكار القادمة و الذاهبة. و غير بعيد عنها ترسوا قوارب الحكايات التي تأتي بالخيرات الكثيرة من البحر الشعبي.
أما في الجانب الغربي منها توجد أقوال الحكماء الكثيرة، و لكل حكمة سوق، فهناك سوق المثاليين، و سوق الطبيعيين، و سوق اللاهوتيين و غيرها من الأسواق التي توفر للزائرين تحفا رائعة.
و قد كانت هذه العملية العقلية منذ الزمن القديم عملية يقين، و اشتهر كثير من أهلها بالصواب و السمو. فهي عملية تتطور كل يوم إلى الأحسن.
فكما ورد في مجلة لوغوس: "ليس لزماننا من شوق أعظم من رؤية الأصول الحقيقية تعبر عن نفسها أخيرا...".[1]
________________________________________
:[1] مجلة لوغوس، العدد التجريبي أفريل2011، كنوز للنشر و التوزيع- تلمسان، صفحة البيان التأسيسي.
إن الإنسان منذ نشأته و هو بمحاولته اكتشاف ما حوله و تحسين ظروف معيشته جد و اجتهد في تفسير الظواهر المختلفة سواء تلك التي تعلقت بالطبيعة أو المتعلقة بذاته كمخلوق بشري و قد تشارك إنسان اليوم مع الإنسان القديم في هذه المسألة لكن مع بعض الاختلافات في النتائج و الطريقة المتبعة للوصول إلى هذه الأخيرة.
ومن هنا و بناء على نص الموضوع نجد السؤال الذي يطرح نفسه:
بماذا اختلف تفكير إنسان العصور القديمة عن تفكير إنسان العصور الحديثة، و ما هو النمط الذي اعتمده الأقدمون لتفسير الظواهر؟ أو على الأحرى كيف كان يفكر الإنسان في المرحلة السابقة و كيف يفكر الآن؟
إن القدماء فكروا تفكيرا وهميا و أعطوا مفاهيم غير واقعية بحيث أنهم كانوا شعراء مثبتين للحقائق بكلام بلا أساس يسنده، فلا يمكن التأكد من معارفهم و حقائقهم بخلاف الإنسان الحديث الذي جعل من المنهج العلمي طريقة لوصوله إلى مفاهيم عقلية منطقية مبنية على براهين تدعم صدقها، فالقدماء لجأوا إلى الأسطورة في تفسيرهم للحوادث و الظواهر مما جعلهم يبنون معارف خيالية لا عقلية غير منسجمة مع واقعهم المعاش.
و مما يدعم هذا القول ما يلي:
1) إن البابليين اعتقدوا بأن هناك طائرا عظيما يجلب لهم الزوابع والمطر و يخلصهم من الثور الذي يحرق زرعهم و محاصيلهم، فإن البابليين باعتقادهم هذا يكونون قد صدقوا أسطورة لا وجود لها في الواقع، و إنما سمحوا لخيالهم الواسع بان يهيم بهم في تفسيرهم لظاهرتي هطول الأمطار و الجفاف، فتفسيرهم ليس واضحا بالقدر الكافي للإقناع، بينما الإنسان الحديث أثبت أن هطول الأمطار لا يكون إلا إن توفرت له الظروف المناخية الملائمة لذلك، و باستعمال المنهج التجريبي، بتوفير نفس الظروف المناخية فسوف تتساقط الأمطار بصورة حتمية، فهذا التفسير يظهر مدى تطابق النتيجة التي وصل إليها الإنسان الحديث حول ظاهرة المطر مع الواقع، و مدى إمكانية إقناع أي شخص بهذه النتيجة المنطقية.
2) فالقدماء كانوا يصدرون أحكاما على وقائع و حوادث بشكل حاسم لا يقبل الجدل و النقاش، خاصة تلك الحوادث التي كانت تفسر على أساس ديني لاهوتي، عكس المعارف العلمية التي تقوم على الشك في النتائج لتحسينها و تطويرها.
3) إن المعارف العلمية لا تطالب أحدا الاعتراف بها، فهي لذاتها قابلة للإقناع، لاعتمادها على ضوابط العقل. فالنتيجة العلمية يتقبلها العقل بكل سهولة بخلاف الأسطورة التي تطالب المؤمن بها بالاعتراف بشرعيتها و صدقها، و إن لن يستطيع التأكد منها.
وما يؤخذ على هذا الطرح، أن معارف الأقدمين و إن كانت في جلها خرافية وهمية إلا أننا لا نستطيع أن ننكر اكتشافاتهم المختلفة في المجال المعرفي.
فالصينيون القدامى لهم الفضل في اكتشاف بعض الوسائل البسيطة كالحبر و البارود، و الهنود القدامى آمنوا بقداسة الأخلاق و القيم، و الفارسين القدامى بينوا فضائل النور و كيد الظلام.
لذا يمكننا القول أن تفكير أجدادنا القدامى الوهمي اللاواقعي المستند على الأساطير كان المخاض العسير الذي تولد عنه تفكيرنا العلمي المنطقي العقلي القابل للإقناع، فكما قال مارتن: "عجبا لأمر الفلسفة! فكيف لما هو عاطفي وجداني أن يؤسس لما هو عقلاني واقعي".
اسكوبيتا الفلسفة
"إن الفلسفة لا ينكر فائدتها إلا جاهل أو معاند أو كلاهما، إلا أنك إذا أردت أن تفهمها حق الفهم، فلا بد من معرفة آراء الأقدمين، إذ الفلسفة كالمرء يكون طفلا ... ثم يصير كهلا و هو شخص واحد، كالسلسلة كل حلقة منها ارتبطت بالأخرى. فمن لم يقف على أقوال القدماء لا يتمكن من استنباط آراء المعاصرين.".
دافيد سانتلانا
"المذاهب الفلسفية اليونانية في العالم الإسلامي"
تحقيق وتقديم _ جلال شرف
الفلسفة، كلمة واحدة ذات معاني عديدة، أحيانا تكون نوعا من التفكير، و أحيانا تكون نوعا من البحث، و أحيانا أخرى تكون علم بالمبادئ و غيرها من التعريفات التي اختلفت باختلاف الفلاسفة و المؤرخين.
هذا الاختلاف بدا واضحا خلال تطور الإنسان، و منذ تفلسفه لأول مرة، لكن ما نلمسه من خلال تطور الفلسفة هو ذلك الاختلاف الذي امتد ليشمل جميع ما يحيط بها، و أحيانا كان يضربها في الصميم.
فقد اختلف حولها العلماء و الحكماء و رجال الدين والسياسيين وحتى العامة من الناس بين محب لها وعامل بها وناقم عليها و مكفر للعامل بها و غيرها من الأفكار و الاعتقادات، و قد جالت شكوك كثيرة و من أطراف متنوعة حول مواضيعها و أهميتها و تأثيرها على البشر و محيطه و مستقبله.
و هنا نجد السؤال الذي يطرح نفسه بناء على ما تقدم في الموضوع:
هل للفلسفة فائدة؟ أو على الأحرى أين تكمن حاجتنا للفلسفة؟ أو بطريقة أخرى ما الذي بجعلنا نتفلسف؟
إن فوائد الفلسفة على الإنسان لا حصر لها فهي كشجرة الزيتون التي تذر على الإنسان زيتونا صافيا في موسمه وظلالا وافرة أثناء الحر ونفاياتها عبارة عن زيت فيها شفاء لمستعمليها كذلك الفلسفة, فهي تجعل الإنسان ينظر إلى ماضيه واضعا إياه تحت المجهر ليستخلص معانيه وعبره و أخطائه وهفواته و ليمكنه من عيش حاضره والتخطيط للمستقبل الذي يحلم به هذا الإنسان في نومه ويقظته. فإن أعظم فائدة مرجوة من الفلسفة حين نقوم بها هي رصد المجهول القادم و الإعداد له من مخلفات الماضي،و باعتبارنا الإنسان محاربا، فالفلسفة تأخذ ماضيه لتجعل منه درعا لحاضره ثم تعمد إلى أخذ حاضره لتجعله سيفا في يده لمستقبله، و هنا يتبين لنا أن الإنسان يملك كنزا ثمينا يكمن في أقوال و حكمة القدامى، التي تعبر عن نتائج تجاربهم خلال حياتهم في عصور مضت، و إن على إنسان اليوم أن يأخذ جواهر هذا الكنز القديم من نصائح و معلومات، و يبدأ بتحليلها و التدقيق فيها من كل الزوايا، و ترشيحها، فيأخذ ما هو صائب و صالح لمقامه و آماله، و يترك كل ما هو سيء و مضر بأهدافه، ليتمكن بهذا المخزون المعرفي القديم أنيستنتج و يولد مخزونا معرفيا حديثا، عصريا، فإن رأي الإنسان القديم مرآة تعكس رأي الإنسان الحديث.
و ما يؤكد هذه النظرة ما يلي:
1) إذا أخذنا تعريف أفلاطون للفلسفة:" الفلسفة هي البحث في جواهر الأشياء حينما يتدرج العقل في البحث في الانسجام الوجودي بينها، والذي هو ليس إلا الخير." فإننا نجد تلك الفائدة العظيمة التي سعى أفلاطون إلى نشرها بين البشرية جمعاء حين نجح في تعميمها بين أوساط الشعب الأثيني آنذاك، ألا و هي فائدة الأخلاق و العلم و البحث عن المعرفة من جميع جوانبها، و هنا تكمن قيمة الفلسفة في معناها الصافي، فالنظر إلى فلسفة أفلاطون المثالية التي علمت البشرية طرق الخير ومفاتيحه، من علم و أخلاق و مبادئ، يؤكد لنا أن القدامى لم يتفلسفوا لتنوير أنفسهم فقط، بل لنقل ذلك النور أو جزء منه إلينا و عليه تكمن مهمتنا المتمثلة في نقل تلك المعارف و النتائج و الوقائع و النور إلى الأجيال القادمة.
2)إن الفلسفة كما نعرفها اليوم، لم توجد على هذا النحو دفعة واحدة، فقد تطورت بتطور الفكر الإنساني، و زادت بزيادة بحثه عن رفاهيته و تقدمه، و يتضح هذا التطور جليا عبر التاريخ الفلسفي، فإن أخذنا الفترة اليونانية، فإننا نجد أن فلسفة سقراط أسست لفلسفة أفلاطون، فتلميذ سقراط ورث عن معلمه قاعدة فلسفية متينة ليبني عليها فلسفته، ثم يورثها لتلميذه أرسطو الذي جعل من فلسفة أفلاطون مركز انطلاق لفلسفته التي أضاءت عقول كثيرين أشهرهم ألكسندر الأكبر. فالفلسفة بهذا المعنى كالعلوم الحديثة التي تبني نتائجها انطلاقا من القوانين السابقة،و من هنا و بالاعتماد على النظرية العكسية فبإمكاننا القول أن لولا فلسفة سقراط لما كانت انجازات الكسندر الأكبر، فهذا الأخير هو حفيد سقراط فلسفيا و هذا أكبر دليل على تطور الفلسفة و تطويرها للإنسان معرفيا و ثقافيا و سياسيا.
3)و إذا نظرنا إلى التاريخ البشري الحضاري فإننا نجد الحضارة تقوم على أنقاض حضارة سبقتها و هذه السلسلة الحضارية ملازمة للسلسلة المعرفية الفلسفية فنجد الحضارات الصينية و الهندية تمهد لقيام الحضارة الفارسية والمصرية الفرعونية, وهذه الأخيرة تمهد بدورها لقيام الحضارة اليونانية و الرومانية ثم تأتي على أنقاضهما الحضارة الجرمانية التي هي في نظر هيجل آخر الحضارات ومنه يتضح لنا أهمية الفلسفة بكونها عنصر متجدد بتجدد الرقي و الازدهار. فكل موروث حضاري فلسفي ينهار ليفصح الطريق لفلسفة جديدة تؤسس لحضارة الغد.
وما يؤخذ على هذه النظرة ما يلي:
إن نظرنا في الحضارات السابقة فإننا نجد كل منها في قطيعة مع الأخرى, فإن افترضنا أن الحضارة الصينية و الهندية أسست للحضارة الفارسية و المصرية القديمة لترابطهما بالفكر الأسطوري اللاهوتي فهذا ينفي تماما أن تؤسس الحضارة الفارسية و الفرعونية المصرية لحضارة اليونان, فالأولى قائمة على الأسطورة و الثانية قائمة على العقل وهما ضدان لا يلتقيان, أما بالنسبة لنظرية تطور الفلسفة من سقراط وأفلاطون وأرسطو وصولا إلى ألكسندر الأكبر فهذا اقرب إلى المستحيل منه إلى الحقيقة, فلكل واحد منهم زمانه الذي عاشه بظروفه ووضعياته التي انعكست على أفكاره وبالتالي على فلسفته, فكيف لفلسفة سقراط التي اعتبرت العالم الحسي سجنا كبيرا للروح التي مقرها الأصلي هو العالم الآخر أن تؤسس لإنجازات الكسندر الأكبر الدنيوية العظيمة من انتصارات عسكرية وسياسية, وإن نظرنا إلى آراء أفلاطون حول الفلسفة فإن هذا الرأي صالح لفترته المتميزة والمختلفة عن فترتنا الزمنية الراهنة فلا يمكن لنا أن نلتزم بأفكار ولدت قبل الميلاد أين كان المجتمع الإنساني همه الوحيد الحرية الفكرية و العقلية في النظر إلى الظواهر المختلفة, وهذا كله يأخذنا إلى النظر بحذر كبير من القائلين بفوائد الفلسفة, والتي حصروها في التطور والتكامل والاستمرارية.
وما نخلص إليه هو أن الفلسفة بالنسبة للإنسان كالسيارة التي تسير على طريق مستقبله الجبلي الوعر مسهلة له النظر إلى ماضيه بمراياها العاكسة.
بيلاريس التفلسف
إنّ التفلسف حقيقة واقعة رغم انكارنا لها، و هروبنا منها، أو مجافاتنا لها، و معارضتها. وهذه العملية الطبيعية القابعة في أعماق البشر، مازالت تحرك الأفراد و الشعوب، على سبيل الرغبة حينا، أو قصد بلوغ الأهداف أحيانا أخرى.
إنّ التفلسف يأخذ معناه من جمع أجزاء مختلفة تتراس لتعطي قالبا ضخما تصهر فيه من كل ايديولوجيا مبدأ متميزا عن الآخر، و منه للتبسيط فالتفلسف هو عملية سد فراغ التفكير، و رأب صدع العمليات الذهنية، لبلورة نتائج تبدوا صالحة إلى حد ما، فيصدقها القلب، و يقبلها الضمير الإنساني.
و هنا و بناء على ما تقدم نجد السؤال التالي:
ما أهمية التفلسف بالنسبة لنا نحن أبناء آدم؟
تكمن أهمية التفلسف في تعدد الحقائق، و اختلافها باختلاف مستقبليها، و استقبالهم لها، كما تدخل في مجالها أيضا مدى الرغبة و الحاجة اليها، مستعينين بالمناهج و الطرائق المتنوعة.
إننا نسلك طريقا مدججا بألغام سيكلوجية متعددة الاحجام و شدة الانفجار، فمنها المتعلق بالدين، و منها المتعلق بالسلطة، إضافة إلى الاجتماعي و الاخلاقي و فنون العيش الكثيرة.
فالإنسان المضطرب و العجيب من حيث التراكيب، بحاجة إلى التفلسف رغم أنه بمثابة ابن عاق له، فقد نجد فريقا من الباحثين ينكرون هذه العملية، و لكنهم يقومون بها على سبيل الحاجة لا الندية.
و هذه الحاجة جعلتهم يستبدلون اسم التفلسف بأسماء أخرى للعملية الواحدة في المنهج و الهدف و الطريقة المتبعة للوصول إلى النتائج المرغوب فيها. و من أشهر هذه الاسماء نجد تلك المتداولة بين سطور كتابات المواد العلمية، كالذكاء و البداهة، و طرق الخلاص. ناسين أو متناسين بذلك أن الفرق في العمليات الذهنية يكمن في الطرق و الهدف و المبدأ، لا في الاسماء التي قد تعبر عن الجوهر من جهة، أو عن الاشكال من جهات معينة و مستنسخة في الآن معا.
إن تمايز الحقائق جعل الكائن المقدس يسعى للاهتمام ببعضها على حساب البعض الآخر، من جهة مبدأ عيش الواجب أن يكون بينما هناك قائلين بشد الانتباه إلى كل جوانب الحقيقة، كمصدر للتعدد و التثاقل و نبذ المسؤولية التي حملوها ما لا تطيق، بالمشاركة في تركتها الثقيلة على أكتاف الرجال قبل غيرهم.
إن التبريرات الاخلاقية و عدم الاعتراف بأسوأ الأخطاء المرتكبة في حق النفوس قبل كل شيء جريمة الجرائم، فهي موت معنوي يغتال الاحلام, و ثقافة الحياة. و لهذا ما على البشر إلا مصارحة هذه الذات المسكينة، الفقيرة معرفيا و إحساسيا و شعوريا.
و هنا نقف عند مصارحة النفس قبل مصالحتها، فالنفس تعطي من يعطيها، و تحمي من يحميها، و تصادق من يصدّق لغتها، و يفهم معانيها، إن البشري الذي يُصنف في خانة عديمي الضمير هو الإنسان الذي يعيش أوهام ذاته الغارقة في توازن الاقصاء بالترويح على ما فات بما لا يفيد، و هذا التوازن في أصله قائم على اللاتوازن، فهو يرتكز على أركان متحركة قابلة لدخول دائرة فقدان السيطرة على أنواع التوجس و النبض العادي للأفكار، المستوحاة من الوجود الموجد للوحدات المعروفة في أوساط زوايا أرواح العباد.
كما أننا نجد من يقاوم هذه العملية بما لا تستجديه المقاومة، أي أننا نجد أناسا يحاولون الهروب إلى الأمام من قيود حاضر لا يمكن تخطيها في أفضل الأحوال. و لهذا كان التفلسف ضروريا لحل عقد الأزمات و التي قد تجعل من مواقعها بدايات تحوّل لا مناص منه، بل أبعد من هذا. فالتفلسف يربي في كنفه فهما دقيقا بمجريات أسوأ الامور لتفادي وقوعها في مستقبل ليس بالقريب و لا بالبعيد، إنه مستقبل آت لا محال.
فلو تخيلنا هذا العالم بدون تفلسف فحتما سنرسم في مخيتنا، تلك الصورة لإنسان يحاكي الحيوان في طبيعة قاسية، لا ترحم مرتاديها في أبسط البسيط، بل و أبعد من هذا، فإن حتى نقد أو بالأحرى انتقاد التفلسف و الهجوم على الفلاسفة هو تفلسف في حد ذاته.
فالتفلسف لا يحل الأزمة فقط، فهو الذي يؤسس لها و يديرها، ثم به نحلها في مظهر نحن راضين عنه قبل حدوثه.
و عليه نجد التفلسف فلسفة كبيرة تقع على ساحل البحر المعرفي الأصيل، و حولها بساتين العلوم الكثيرة و مزارع التجارب متصلة.
و نتائجها فائضة و فيها جميع أنواع الحقائق. و هي أعرق الفلسفات الموجودة على ساحل البحر المعرفي، و أطيبها نتائجا و أحسنها قوانينا و قواعدا.
فيها العلم الذي يتميز بشدة حلاوته و نكهاته المختلفة، و فيها الفن الذي لا مثيل له. و تمتاز هذه العملية في وسطها بنقاشاتها العجيبة ذات الواجهات اللامعة الخلابة، و الاشكاليات الفاخرة التي توفر للفلاسفة كل أسباب الراحة، و النقد ذا الهندسة العجيبة.
و في خلاصتها يوجد معناها الكبير الذي يعج بحركة الأفكار القادمة و الذاهبة. و غير بعيد عنها ترسوا قوارب الحكايات التي تأتي بالخيرات الكثيرة من البحر الشعبي.
أما في الجانب الغربي منها توجد أقوال الحكماء الكثيرة، و لكل حكمة سوق، فهناك سوق المثاليين، و سوق الطبيعيين، و سوق اللاهوتيين و غيرها من الأسواق التي توفر للزائرين تحفا رائعة.
و قد كانت هذه العملية العقلية منذ الزمن القديم عملية يقين، و اشتهر كثير من أهلها بالصواب و السمو. فهي عملية تتطور كل يوم إلى الأحسن.
فكما ورد في مجلة لوغوس: "ليس لزماننا من شوق أعظم من رؤية الأصول الحقيقية تعبر عن نفسها أخيرا...".[1]
________________________________________
:[1] مجلة لوغوس، العدد التجريبي أفريل2011، كنوز للنشر و التوزيع- تلمسان، صفحة البيان التأسيسي.