البورصات بين الوهم والواقع!

أخبار البلد-

 
منذ تأسيس البورصة الأولى في العالم، وذلك في العاصمة الهولندية أمستردام، وكان هذا في سنة 1611 ميلادية، والتي طرحت فيها وقتها أسهم شركة شرق الهند الهولندية لتكون بذلك أول شركة مساهمة عامة في التاريخ، سجلت البورصة نفسها كأحد أهم الابتكارات الرأسمالية التي عرفتها البشرية في القرون الأخيرة. فهي تقدم نموذجاً عملياً لفكرة توزيع الثروة اقتصادياً واجتماعياً من دون إراقة دماء ولا تفجير للثورات، وتقدم أيضاً طرحاً فعالاً ومؤثراً للغاية لفكرة الاستثمار المستدام. والبورصة القوية، كما ثبت عبر مراحل مهمة من الزمن، هي مرآة صادقة للاقتصاد؛ فإذا كانت البورصة شفافة وصادقة كذلك سيكون حال اقتصادك، وإذا كانت هناك مشاكل تعصف بالبورصة سيكون ذلك بمثابة إنذار جاد وحقيقي.
ولكن هناك جوانب أخرى لا تقل أهمية وتستحق التمعن فيها، وهي تقوم على أن وجود بورصة مالية قوية حتى ولو شهدت معدلاتها السعرية الهبوط الحاد، ستظل فرص التمويل من خلالها قائمة لأي شركة مدرجة، وهذا طبعاً من علامات الملاءة الاقتصادية عندما تتنوع فيها مصادر التمويل، وذلك لأجل تحقيق نسب النمو الإيجابية المنشودة.
ومن المهم تذكر أن البورصة الناجحة هي في واقع الأمر منظومة متكاملة، أساسها توفير حرية الحركة وحرية المخاطرة وحرية التعامل كقاعدة صلبة لنمو البورصات والقدرة على تجميع الأموال داخلياً وخارجياً وحرية اختلاف التقييمات بشكل مطلق. وغير خافٍ على أحد أن البورصات أو حرب البورصات كما أطلق عليها أحد المحللين الماليين، هي أحد أهم وأخطر أوجه التنافس والتناحر الاقتصادي بين الدول، ولذلك ستستمر شراسة هذه الحرب لأنها منافسة على الأموال.
البورصة تظل واحدة من أسهل وسائل الاستثمار وجلب رؤوس الأموال من حول العالم. ولكن هناك قيوداً من الوهم قيدت العديد من البورصات في أسواق دول العالم الثالث عموماً والبورصات العربية تحديداً، ومنعتها من الوصول إلى الطموحات المأمولة لجعل بورصاتهم منافسة ومؤثرة. حرصت السلطات التشريعية لتلك البورصات على رفع شعار أن البورصة هي مكان للاستثمار الطويل الأجل وبالتالي لا مكان فيها للمضاربين، متناسين أنه واقعياً البورصات تعشق المضاربين، وهم الذين يشترون ويبيعون سريعاً في اليوم الواحد وبدونهم لا توجد سيولة كبيرة وجاذبة في سوق المال، وكما هو معروف أن إيجاد أي آلية سيولة لجذب المستثمر هي أحد أهم عناصر تقييم النجاح للبورصة. وهذه السيولة العالية نفسها هي التي تطمئن المستثمر الطويل الأجل لأنه سيشعر بالأمان في قدرته على تحويل أسهمه إلى سيولة نقدية متى ما شاء.
وهناك الاعتقاد بأن الرقابة على البورصة ومعاملاتها يجب أن تكون لصيقة جداً وتعاقب المخالفين بلا رحمة ولا هوادة وبيد غليظة من حديد. واقعياً البورصة هي مكان للتعامل المالي يصاحبه مخاطر مرتفعة وأي تفكير في جعل البورصة مكاناً «خالياً» من المخاطرة سيجعل أصحاب الرؤوس المالية الكبرى يعزفون عن تلك السوق. الضرب الصارم والعقوبة الغليظة مطلوب أن يكونا منطقييْن وفي أضيق الحدود ومتناسقين مع المخالفة المرتكبة التي تكون صريحة وواضحة؛ لأن التوسع في المخالفات سيتحول إلى تقييد للبورصة نفسها، وهناك واقعة قريبة حصلت مع المستثمر العالمي إيلون ماسك مؤسس شركة «تسلا» عندما كان يتحدث تحت تأثير المخدر في برنامج إذاعي وقال وقتها كلاماً عن شركته وغرد بعدها على تويتر ما أثر على سعر سهم شركته وكانت النتيجة غرامة مالية سريعة وفقدانه لمنصب في الشركة وليس أكثر، لأن الغرض كان عقوبة مع الحفاظ على حراك السوق، وعلى صغار المستثمرين الذين يخشون المخاطرة اللجوء إلى صناديق الاستثمار التي يديرها مديرون محترفون، لأن البورصة هي ساحة حرب مفتوحة على الأموال لا مكان فيها للعقلاء ولا المتلاعبين، ولكن هي المكان الأمثل للذين يعرفون كيف يفكرون وكيف يحللون، سواء أكان هذا التحليل ممكناً أو مستحيلاً، لأننا لو اعتمدنا على المنطق لما كان ممكناً تصور أنه في بدايات الألفية الثانية وتحديداً في 2007 بأن شركتي «كوداك» و«نوكيا» ستلقيان انهياراً تاماً في قيمتهما وأن بعد ذلك ستتجاوز قيمة كل من شركتي «أبل» و«أمازون» التريليون دولار لكل منهما.
غياب بورصات العالم الثالث عموماً والعربية منها تحديداً عن لعب الدور المأمول منها بأن تكون عنصراً جاذباً للاستثمار له أسباب مختلفة قد يكون أهمها الارتياح باتباع الإجراءات الطبية المطلوبة رغم وفاة المريض.