الحبُ محمولاً فوق الأكتاف...


هل كان حباً؟ أم كان وهماً؟ منذ لقائهما الأول، سكن قلبها شعورٌ ما، حجز له مكانه الأثير في أعماقِ أعماقها، تلك الأعماق التي لا يعلم أسرارها بعد الله إلا هي، فصديقتي المشتتة بين ما كان، وما ينبغي أن يكون، وما سوف يكون، من النوع الحريص جداً على أسراره، وعلى عالمه الباطني، غير الظاهر، ولا المعروف للآخرين. ولولا علاقتي الممتدة بها، لتفاجأتُ أنها أحبته من أول نظرة، فحجم ما يجمعنا، وقيمته، ونوعيته، وعمقه ومتانته، وامتداده في الزمان وفي المكان، جعلني أستشعر بعض هذا الحب، وبعض ما كان منها من سهد وسرحان وتشتت ذهن، ومن تردد بين الإقدام وبين الإحجام.

ما يميّز حب صديقتي له، أنه، كما أخبرتني فيما بعد، من النوع الطيّب المعطاء، الحب الذي يكنّ كل أمنيات الخير للحبيب، وكل أمنيات السعادة والرفاه. حتى أنه حب لا يكتفي بالأمنيات، بل يسعى ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، لمنح المحبوب كل أسباب السعادة وتوفيرها له، والكدّ من أجل الخير له، والرفاه، وعملتْ وستظل ما حييتْ تعمل على تحقيق تقدمٍ مضطردٍ للرجل الذي تعلق به قلبها، للإنسان الذي أحبته بقلبها ووجدانها ونبلها ومختلف مشاعرها وأحلى أحاسيسها.

هذا ما كان منها، أما ما كان منه، فقد تفاجأت بعد شهور قليلة من العلاقة، وهي شهور تضمنتْ بعض اللقاءات، وفناجين القهوة، أنه متزوج ولديه أولاد؛ كانت في جولة في واحد من جبال عمّان، عندما لمحته يحاول أن يقطع الشارع وهو يحضن فوق صدره طفلا رضيعا، كان الطفل محمولاً من قبل أبيه، ورأسه يرتاح فوق كتف والده اليسار، أذهلها المشهد، تكفّل بفعل صدمة وجودية لها. في مرة قالت لي إنه قد يكون أخبرها عن زواجه وعن أولاده، في واحدة من جلسات القهوة القليلة التي جمعتهما دون غاية واضحة المعالم، ودون مآرب مبيتة، هكذا لمجرد أنهما يرتاحان لبعضهما. وأعادتْ وزادتْ لي إنه قد يكون أخبرها ذلك، وربما أنها، كما تبوح، لم تعر الأمر لحظتها اهتماماً، وربما لم تنتبه لمختلف تفاصيل ما كان يقوله لها في لقاءات الرومانسية المفعمة بشفافية الوجد، لكن ليس السمع كالعيان، كما تستنتج، بعدما رأته مصادفة يسير ومعه أولاده، يقودهم بالحب والحنان العظيم، محروساً بحس مسؤولية كبير. ظلّت صورته يسير ومعه أبناؤه رفيقة سهرها وسرحانها أياماً وأسابيع وأشهر، تقلّب وجوه المشهد، وتستعيد تفاصيله: كم جميل منظر الأب برفقة أولاده، وّشْوَشَتْ قائلة لروحها، قبل أن تترك لدموعها أن تسير في أي اتجاه تريد.. دموع حارّة حائرة، جعلتها ترى الحياة بقضها وقضيضها، وبمختلف حالاتها وانتصاراتها وهزائمها وصعودها وهبوطها مجرد حلم، وهم يصنعه خيال الكتّاب، وترسمه ألوان الفنانين.. والآن وبعد كل تلك السنين، تسألني، وكما لو أنها تسأل نفسها: هل ذهب العمر سدى؟ وهل الحياة هي مجرد أقدار وتصاريف لا حول لنا فيها ولا قوة؟!؟