مسلسل المفاوضات العبثية



أما وقد اقتربت المفاوضات الفلسطينية مع الكيان الصهيوني من نهاية عقد من الزمن، فإن عقدا جديدا يوشك أن يبدأ، إذا لم يكن قد بدأ بالفعل. عشرون عاما من المبادرات والمفاوضات والمؤتمرات، تصدرت أخبارها عناوين الصحف ونشرات الأنباء، ولم نتقدم خطوة واحدة إلى الأمام، لم نحقق شيئا على أرض الواقع، فلا أرضاً حررنا ولا دولةً أقمنا، تماما كالمنبتّ، لا أرضا قطع، ولا ظهرا أبقى.

نراهن في كل مرة على أن الرئيس الفلسطيني سيبقى على موقفه ولن يتنازل قيد أُنملة عن قراراته، خصوصا قراره المتعلق بعدم العودة إلى المفاوضات إلا بعد وقف الاستيطان الصهيوني على ما تبقى من أرض فلسطين، لكنه، للأسف، يخذلنا في كل مرة، وها هو يعود الآن إلى المفاوضات دون أن يُبدي الكيان الصهيوني أي مرونة تُذكر، أو أي بادرة تستدعي بدء جولة جديدة من المفاوضات. ليست المرة الأولى التي يتراجع فيها الرئيس، لقد تراجع مرارا وتكرارا لدرجة أن الرجل فقد مصداقيته أو يكاد.

مع كل جولة جديدة من المفاوضات يرتفع سقف الشروط الصهيونية، ومعها ينخفض سقف المطالب العربية، وهكذا دواليك، لدرجة أن القضية الفلسطينية قد اختُصرت أخيرا في مسألة وقف الاستيطان. القضية الفلسطينية قضية أرض وشعب، أرض مقدسة لا يجوز التنازل عن أي شبر فيها، من بحرها إلى نهرها، وشعب يجب أن يعود إلى أرضه ووطنه، وأن يستعيد حقوقه كاملة غير منقوصة، بما فيها تعويضه عن المآسي والويلات التي لحقت به طيلة هذه المدة. من هذه النقطة فقط يجب أن يبدأ المفاوض الفلسطيني وأن يتشبث بكل الثوابت الفلسطينية حتى الرمق الأخير. قد يقول قائل بأن مطلباً كهذا يبدو نرجسيا ومستحيلا وغير منطقي، خصوصا في الظروف الراهنة وحالة الضعف والتشرذم التي يعيشها العمق العربي في الوقت الحاضر. هذا صحيح، لكن متى كانت الشروط الإسرائيلية منطقية وواقعية وقابلة للتطبيق؟

إذا كانت الجولة الجديدة من المفاوضات قد بدأت فعلا، وأن الرئيس قد قرر أن يفاوض ويفاوض، فإن المفاوضات في مسلسلها الجديد ستتجاوز حتما مسألة وقف الاستيطان إلى ما هو أبعد. أغلب الظن أن الكيان الصهيوني سيلقي بمسألة الاستيطان وراء ظهره باعتبارها مسألة محسومة لصالحه لا يجوز التفاوض عليها، ويبدأ التفاوض، كما لم يفعل من قبل، على يهودية الدولة الصهيونية كشرط لتقديم بعض التنازلات الهامشية جدا، كأن يسمح مثلا بالتحويلات المالية المستحقة للسلطة الفلسطينية، والتي تحتجزها إسرائيل بين الفينة والأخرى للضغط على السلطة، أو غيرها من الإجراءات الإدارية التي لا تمس على الإطلاق جوهر القضية الفلسطينية.

يبدو أن الكيان الصهيوني مصمم هذه المرة على انتزاع اعتراف فلسطيني وعربي ودولي بيهودية الدولة الصهيونية، وقد بدأ التمهيد لذلك بخطوات عديدة، فبعد اعتراف الرئيس الأمريكي أوباما وحكومة اسبانيا بيهودية الدولة، انتقل الكيان الغاصب إلى مطالبة الدول العربية، خصوصا السعودية، بدفع تعويضات هائلة عن ممتلكات اليهود منذ عصر الرسول، يأتي ذلك ضمن سياسة الابتزاز والمساومات الشيلوكية التي عادة ما ينتهجها الصهاينة بهدف تحقيق أهدافهم العدوانية، بدءاً من تفريغ الأرض الفلسطينية ممن تبقّى من أهلها الشرعيين، وانتهاءً بإقامة دولتهم من الفرات إلى النيل.

على الرئيس الفلسطيني أن لا ينحني، وأن يأخذ في الحسبان أوراق الضغط التي يمتلكها، وهي كثيرة، وأهمها تلك التغييرات الجذرية التي يشهدها الوطن العربي من أقصاه إلى أقصاه، والتي ستصب حتما في مصلحة الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة، وها هي البشائر قد بدأت تلوح في الأفق، فصبرا يا أيا مازن.