وزراء الغد ونواب المستقبل


قديماً قالت العرب خذوا الحكمة من الهند، وهو أمر معروف فإن القارة الهندية بالرغم من الفقر المدقع الموجود فيها إلا أنها تتميز بوجود العديد من الحكماء على مر التاريخ، وإنني في هذه المقالة التي تأتي ضمن سلسلة من المقالات التي تحدثت فيها عن الفساد في بلاد العرب والمسلمين، سآخذ العبرة من هذه القصة الهندية في اختيار نوابهم وتعيين وزرائهم ومسؤوليهم.
وأظن أنه كتب من المقالات والعظات، وقدمت أفكار عن مكافحة الفساد أكثر من عدد المظاهرات التي خرجت في الأردن لتحارب الفساد، ولكنها كلها ( To no Avail) وصلت إلى طريق مسدود حتى الآن. ولذلك فإنني أقترح فتح تبويب جديد للمقالات يكون خارج إطار مكافحة الفساد أو أراء في الفساد ليكون تحت عنوان وزراء الغد أو نواب المستقبل أو هكذا بحيث نبتعد عن المقالات التي تتناول مكافحة الفساد عندنا، ونضع العنوان بين يدي مكافحة الفساد لترى فيه رأيها.
في إحدى انتخابات الرئاسة للولايات الهندية، استغرب المسؤولين بل ودهشوا من أن الفائز برئاسة الولاية كان رجلاً مغموراً جداً، واسمه (السيد باتني)، استغرب القوم من النتيجة التي تم تكن مزورة وكانت الصناديق تعبر عما يجول في خواطر الناس وعن رغبتهم في أن يفرزوا من يقوم على خدمتهم ومصالحهم، دون أن يكون لديه تفكير في الرشاوى أو السرقات أو الصرف على الملذات وأن يكون مكرساً وقته وجهد لخدمة بلده. وعند إظهار النتائج تبين أن (السيد باتني) كان من فئة الخصيان. وقد إزداد العجب أكثر واستوجب البحث الحقيقي وراء الأسباب الكامنة عن تفضيل الناخبين لمنح أصواتهم لخصي منبوذ؟ ولكن الهنود قوم حكماء كما قلنا وليسوا ككثير من الشعوب العربية، وهم يعملون بصمت في خدمة بلادهم دون فوضى أو اعتصامات أو إضرابات، رغم أنها مظاهر حضارية في التعبير عن الرأي إذا كانت ضمن الأطر العامة الصحيحة في التعبير.
تبين أن الناخبين الهنود أدركوا أن الشخص عندما يسرق أو يرتشي فإنه يفعل ذلك لينفق على زوجاته وأولاده، ويجمع ثروته ليورثها لهم. وحتى لو لم يكن متزوجاً فإنه ينفقها على عشيقاته وخليلاته أو مستشاراته وسكرتيراته، ولا ينفق الشخص إذا كان خصياً حيث لا عشيقات له ولا زوجات، ولا أولاد، ولا هم له بالتوريث والميراث كما يحصل في كثير من بلدان العالم العربي والموجود حتى في طبقة الوزرراء وكبار المسؤولين؛ مما يعني أنه ليس لديه ما يشجعه على السرقه أو يضطره إليها.
بهذا التفكير المنطقي والمنهجي استطاع الناخبون الهنود من ترشيح أول حاكم نزيه في تاريخ ولايتهم، وبطبيعة الحال كان من المتوقع أن تحذوا بقية الولايات حذو هذه الولاية في انتخاب حاكم ولاية نزيه يعمل لمصلحة البلد ولا يوجد لديه دوافع ولا حوافز للرشوة أو السرقة أو التلاعب بالمال العام. ولو حدث هذا وانتخبت بقية الولايات أشخاصاً مثل (السيد باتني) لتحول حكام وولاة الهند خصيان عن بكرة أبيهم، ولربما تغلبت الهند على فقرها وجهلها بسبب نزاهة المسؤولين. لكن هذا الأمر لم يحدث لأسباب عديدة منها أن الخصيان في الهند لم يكونوا بالعدد المطلوب أو الكافي لكل الولايات، ولكنهم ينطبق عليهم قول الشاعر (...... إن الكرام قليل). وإذا سلمنا بأن الحكمة ضآلة المؤمن أنا وجدها التقطها فيمكننا الأخذ بحكمة الهنود من جهة وتغيير النظرة الدونية لهم وبخاصة في بلادنا العربية.
وبما أننا مقبلون على انتخابات جديدة سواء على مستوى البلديات أو النواب فإنني أراها فكرة جديرة بالاهتمام أن يفكر فيها كل الشعب، في البحث عن شخص نزيه، ليس لديه نوايا في السرقة أو الإجتراء على المال العام، وبهذا نقطع الطريق على الحكومة حتى لو فكرت في التزوير، ونبدأ العمل بجد واجتهاد نحو مستقبل مشرق لبلادنا دون التسول على أبواب الحكومة أن تخرج لنا قانون انتخاب عصري، فنحن نفرز من الآن من ليس لديهم نوايا سيئة تجاه المال أو حتى تجاه أخلاقيات المجتمع بشكل عام، ونتخلص من كل أنواع الحرامية. ولعله شرط أكيد لضمان جودة المترشحين فيما بعد من نواب ووزراء، وحكام ولايات ومدراء عامون...
أما إذا كان الحل صعباً في المستوى المنظور فإننا نستورد في كل يوم ما هب ودب من المواد غير الصالحة للاستهلاك البشري، لا بل نهربها من وجه العدالة كما فعلنا بتهريب باخرة الذرة وغيرها الكثير الكثير، والذي سيعد إعادة سرده أو التذكير به نوعاً من الفساد الجديد وإضاعة وقت القراء. نعم يمكننا استيراد شحنة (باتني) من الهند، ونبدأ بالإعداد للمستقبل من الآن لمن يرغب أن يتبوأ منصباً عاماً أن يظهر حسن نواياه ويبتعد عن كل ما شأنه التوريث أو جمع المال أو الخليلات، ولكنها خطة استراتيجية تحتاج إلى دراسة متأنية وعدم الرد بعنتريات وانفعالات لا تسمن ولا تغني من جوع، حتى نتمكن من إيجاد العدد الكافي من الوزراء والنواب، وضمان ديمومة وجودهم في المستقبل، وأخذ الاحتياطات على جميع المستويات المهنية والطبية والعملية الأكاديمة التي تعمل على إعدادهم وتزويدهم بكل متطلبات العصر القادم الذي سننعم به دون فساد أو اعتداء على المال أو توريث ثروات أو مناصب. عندها ستختلف الحملة الدعائية للمرشحين وسيخف إقبال الكثير على ترشيح أنفسهم. وربما يظهر لنا شعارت انتخابية (أنا باتني وافتخر)، (طلقت الدنيا من أجلكم).
draliqudah@gmail.com