الحالة الغريبة للسيدة إلين سبنسر.. هل يمكن أن تستيقظ صباحا وأنت تتحدث لغة أخرى؟
أخبار البلد ــ متلازمة غاية في الغرابة، طالما ظن الناس أنها تتعلق بمس شيطاني أو تمثُّل روحاني، وطالما تسببت في عنصرية شديدة ضد بعض المصابين بها، بينما تم تمجيد البعض الآخر وكأنه أُعطي هدية من السماء، إلا أننا اكتشفنا في النهاية أنها اضطراب عصبي يجعل شخصا ما يستيقظ، بين عشية وضحاها، وهو يتحدث بلكنة غريبة قد تكون قريبة إلى لغة أخرى. في هذه المادة المعمقة، والتي لا تخلو من السلاسة والسرد القصصي أيضا، يرتحل بنا "سام كيث" من "سايكولوجي توداي" إلى جوانب هذه المتلازمة، ويكشف كيف أن قدرتنا على الكلام أعقد مما يمكن أن نظن.
بدأت القصة عندما شق الألم طريقه إلى رأسها، وأمام هذا الإحساس، لم يسع "إلين سبنسر" إلا أن تجثو على ركبتيها غير قادرة على الحراك. حدث ذلك في أحد أيام الاثنين من أسبوع كئيب غمرته الأمطار في مدينة إنديانابوليس الأميركية. في ذلك الوقت، لازَم إلين سبنسر، السيدة التي تبلغ من العمر 47 عاما وتعمل مصممة جرافيك، شعور غريب طوال اليوم، فأثناء انهماكها في العمل أمام جهاز الحاسوب، شعرت بخدرٍ في ذقنها. وبمرور الساعات، اكتسحتها موجة أخرى من الخدر امتدت لتشمل شفتَيها ومن ثَم أنفها ووجنتيها وحاجبيها وصولا إلى جبينها، كان الأمر أشبه بتلقيها حقنة مخدر من الليدوكايين عند طبيب الأسنان.
في الساعة الثامنة والنصف من مساء ذلك اليوم، كانت سبنسر منهمكة في تنظيف الأطباق عندما تملّكها شيء ما جعلها تجثو على ركبتيها من شدة الألم، وكأن شخصا ما ضربها بفأسٍ على مؤخرة رأسها. بعد ذلك استجمعت قواها بصعوبة وهي تزحف إلى الطابق العلوي لتوقِظ زوجها، لكنها بدلا من ذلك قررت اللجوء إلى النوم هربا من الألم الذي سيطر على كل ذرة من جسدها، عاقدة العزم على الاتصال بطبيبها في صباح اليوم التالي إن لم تشعر بتحسن.
وفي صباح اليوم التالي، استيقظتْ في السابعة والنصف صباحا تحت وطأة صداع شنيع أخذ يستفحل بلا هوادة، ولم يكن بيدها شيء سوى الانتظار وعدّ الدقائق إلى أن تفتح العيادة المجاورة. وأشدّ ما أرعبها هو أن الخدر بدأ يتسلل إلى كتفها الأيمن منتقلا إلى أعلى الذراع والإبط. في ذلك اليوم لم تكن هناك عيادات مفتوحة، فاتجهت إلى الطوارئ في أحد المستشفيات. اختبرت يوما طويلا ومحبِطا من الاختبارات. وفي تلك الأثناء، استمر الخدر في التغلغل إلى أن فرض نفسه على الجانب الأيمن من جسدها.
ذهبت إلى المستشفى، وبين الألم والخوف، مضت تفكر في احتمالية أن يطول هذا الخدر رئتيها أيضا، اعتقد زوجها أن المشفى قدّم إليها علاجا، ولكنها في حقيقة الأمر لم تتلقَّ سوى محلول ملحي فقط، وكان اعتقاد الزوج نابعا في الأساس من ملاحظته بأن زوجته تتلعثم في الكلام. تعامل الأطباء وقتها مع حالتها باعتبارها لغزا غامضا، لأن الاختبارات حينها لم تُفصِح عن نتائج حاسمة (على الرغم من اعتقادها أنها عانت من نزيف خفيف بالمخ بلغ من الدقة والدهاء درجة تمنعه من الظهور في فحوصات الدماغ).
عاودت سبنسر أدراجها إلى المنزل بعد الظهيرة وهي مُحَطَّمة تماما، أحضرَ لها زوجها العشاء بعد ساعات قليلة، لكنها لم تحرك ساكنا، واستغرقتْ في النوم لمدة 16 ساعة تقريبا، ثم استيقظت في صباح اليوم التالي دون أن يهدأ شعورها بالألم والخدر مقدار ذرة، لكنها استطاعت على الأقل أن تجر نفسها إلى الحمام، وفي الطريق تمتمت بشيء إلى كلبها الصغير، وكان الأمر عاديّا لدرجة أنها لا تتذكر ما قالته، ومع ذلك استمرت طريقة نطقها للجملة في حفر نقوشها على جدران ذاكرتها بصورة دائمة، لأن الصوت الذي خرج من فمها بدا كأنه لا ينتمي إليها، وكأنه مصحوب بلكنة غريبة.
باتت الصورة مشوشة أمام عقلها المسكين الذي عجز عن فهم ما يحدث، فشقت طريقها إلى المرآة في محاولة للتحدث مرة أخرى، وإذ بالهواجس التي سكنت رأسها تُمْسي حقيقة مُؤكَّدة. وبعدما تيقنت من غرابة صوتها، دهمها الارتباك واضطربت حواسها، غير أنها استمرت بالتحدث بصوتٍ عالٍ مع نفسها في محاولة لإصلاح هذا العطب.
في تلك الأثناء، خاضت العديد من التجارب لنطق بعض الجمل بلغتها الأم، إلا أن جميع محاولاتها باءت بالفشل وخرجت بلكنة فرنسية، فكلما جرّبت نُطق كلمة مثل "weird" والتي تعني "غريبا"، خرجت "word"، واستمرت محاولاتها المستميتة لتحرير نفسها من هذا التلعثم مجرِّبة كلمات أخرى مثل "different" والتي تعني "مختلفا"، لكن مرة أخرى ذهبت مساعيها أدراج الرياح وخرجت على هيئة "dee-fah-rawnt".
بعدها ارتسمت على عينيها نظرة فاجعة، وأخذت تبكي بنشيجٍ حاد، لقد خرجت الأمور عن نطاق سيطرتها، وبدأت تتساءل في حيرة بالغة: ألم تُولَد وتترعرع في ولاية إنديانا الأميركية وظلت طوال حياتها تتحدث بلغة الغرب الأوسط؟ فمن أين لها الآن بهذه اللكنة الفرنسية؟!
بعد مرور 10 سنوات على هذه الحادثة، لم تستطع سبنسر أن تتخلص من هذه اللكنة حتى يومنا هذا. توصلت إلى أسباب مرضها في لحظة عابرة سبقها بعض البحث على الإنترنت، أدركت سبنسر أنها أُصيبتْ باضطراب عصبي نادر يُسمَّى "متلازمة اللكنة الأجنبية (FAS)". وتُعَد السكتة الدماغية بجانب بعض الأضرار الأخرى التي قد تلحق بالدماغ أقوى أسباب الإصابة بهذه الحالة. وفي الوقت الذي لم يَنفُذ فيه الأطباء إلى حقيقة ما يحدث أو السبب وراء تحول لهجتها، اضطرت سبنسر إلى مواجهة مأساتها مع العديد من المراوغات والزلات اللغوية.
مضت هذه الزلات اللغوية تظهر بوضوح في بعض المقاطع التي تنطقها، مثل مقطع "th" في كلمتي أب وأم (mother and father) اللتين ظهرتا على هيئة (mudder and fadder). تظن سبنسر أن لهجتها عبارة عن مزيج من الفرنسية والهولندية والألمانية مع لمحة بسيطة من لهجة جنوب إفريقيا التي تتميز بالتشديد على الحروف الساكنة، أما الحقيقة التي لا تشوبها شائبة هي أن ما تتحدث به أبعد ما يكون عن لهجتها الأم.
نظرا إلى أن اللغة تنبعث من داخلنا، وتبعث فينا شعورا بالانتماء إلى ذواتنا وإلى المجتمع حولنا، فإن متلازمة اللكنة الأجنبية قد تكون طعنة قتّالة لصاحبها تجبره على الانزواء بعيدا عن الأصدقاء والفرار حتى من شريك حياته. وعن هذا تقول "شيلا بلومستين"، عالمة اللغة بجامعة براون الأميركية والتي درست هذه المتلازمة: "إن أصواتنا تمثل جزءا قويّا من هُويتنا، فتخيل معي أن يتغير هذا الجزء بين عشية وضحاها، فتستيقظ وأنت تراقب نفسك بشعورٍ غامض كأنك لم تعد الشخص الذي كنته بالأمس".
على حين جذبت الطريقة التي تتحدث بها سبنسر أكبر قدر من الاهتمام، فقد لعبت على الجانب الآخر أدوارا سلبية أثّرت على قدراتها الأخرى، مثل صعوبة التخطيط، فضلا عن تذكر الأشياء، وقد مضت تراقب حديثها خشية أن تقع في شَرَك كلمات هي في غِنًى عنها. وأمام هذا التغير الذي دب في أعماقها، سقطت فريسة للإرهاق. تقول إن الأشخاص ذوي النيات الحسنة يصارحونها أحيانا برغبتهم في امتلاك مثل هذه اللكنة الفرنسية، لكن من واقع خبرتها مع هذه التجربة الأليمة، جاءت نصيحتها بأن يفكروا مليّا فيما يتمنونه قبل أن يتفوهوا به.