من التطوّرية إلى الإسلاموفوبيا... صراعات وأفكار

اخبار البلد - 
 

تبدو المهمة سهلة حين يلقي المسلمون المهاجرون باللائمة على الحكومات وقوانينها في موضوع كراهيتهم، أو عدم ترحيبهم بمظاهر معينة من الممارسات والأفكار. والأمر حين يصل لمرحلة إدانة الآخر من دون فهم منطلقاته يجعلنا نشعر بالتفوّق عليه. من الجيد مقاربة هذه الإشكاليات في العلاقة مع الآخر لدى المسلمين المهاجرين، غير أن تجاوز الطرق القديمة في التفنيد والمحاججة أمر ضروري.
ليست المسألة أن نتحدث عن «الإسلاموفوبيا» ونرتاح من عناء البحث والتأمل، خاصة أنه شعار يلقى رواجه لدى قطاع عريض من الإسلاميين في أوروبا، بل في نظري نحتاج إلى فهم عميق يتناول جذر المشكلة، بل ولنطالع ما يكتبونه حول الموضوع بكل شجاعة. نعم ثمة مواقف قديمة منذ أوائل الأجيال المسلمة المهاجرة، ولكن مسبباتها ليست واحدة، ويمكن البحث عن جذوة النار عبر الكتب والأفكار.
رفائيل لوجييه، أستاذ معهد الدراسات السياسية في «إيكس أون بروفانس»، والكلية الدولية للفلسفة بباريس، طرح كتاباً فيه لمعات مهمة تحت عنوان: «عولمة لا حرب حضارات... التعايش والعنف في القرن الحادي والعشرين». وفي المقدمة سرد المواقف المتحيّزة ضد الحضارات. وعرض في الكتاب لأطروحة التطوّر النمطي للإنسانية، واستعرض التيارين الكبيرين المتواجهين في القرن التاسع عشر، وكلاهما - كما يقول - يتصوّر المجتمعات على أنها كائنات تطوّرية.
التياران المقصودان: الانتشارية، ومذهب التطوّرية، ويعرج على رؤى إدوارد تايلور من روّاد الأنثروبولوجيا التطوّرية، ولويس مورغان اختصاصي الهنود الأميركيين كما يصفه المؤلف، فمن الوحشية إلى الهمجية تصل المجتمعات إلى الطور الحضاري ويضرب مثلاً بالمجتمع الأميركي في القرن التاسع عشر.

في المقابل، الانتشارية تنتقد التطوّرية باعتبارها «ليست سوى نظرة نرجسية يلقيها الأوروبيون على تنوّع الثقافات من قمة حداثتهم الفكرية والعلمية والاقتصادية»، بل يرى الانتشاريون أن «الحداثة لم تعد قمة تتلاقى عندها كل الحضارات، ولكنها مركب أو دائرة ثقافية متمحورة حول أوروبا، وضربت جذوراً لها في فضاءات خاصة من خلال الاتصالات التجارية واللغوية وتدفقات الهجرة، وباختصار كل أشكال التبادلات الممكنة».
لم تتوقف النظريات الأنثروبولوجية حول الأطوار البشرية ودراسة المجتمعات الآسيوية والأفريقية، بل سالت مع الأفكار والإعلام ودخلت لعقائد الأحزاب السياسية، وعليه فإن هذا التفجّر النظري الأنثروبولوجي ساعد على تسريع انتشار المقولات الحادة ضد الآخرين بثقافاتهم وحضاراتهم، ولكن ما هو السبب الذي جعل هذه المقولة محل احتضان سياسي وفكري؟!
يتحفنا لوجييه بهذا النص الذي يتضمن مفهوماً مهماً: «من الأهمية بمكان إدراك أن هذه الأفكار تمثل الاستعادة التبسيطية... لعدد من المفاهيم النابعة من التيارات التاريخية الكبرى للأنثروبولوجيا، هذا العلم المعرّف بالانتشارية الذي يقترح تعريف الإنسان بمفرده وتنوعه. هذا التيار الأنثروبولوجي، الذي صار تقريباً مهجوراً من الناحية العلمية منذ قرابة نصف قرن، أعيد تشكيله إن شئنا القول على شكل أطروحة صدام حضارات ذات منحى أكثر سياسية مصحوباً بمشتقاته. ولا بد من العودة إلى المصادر الأنثروبولوجية لهذه الأطروحة من أجل أن نستوعب جيداً ما هي الرهانات العميقة لنجاحها الحالي، خصوصاً لمختلف مفاهيمها؛ مثلاً مفهوم (عدم الأمان الثقافي) المخصص لترسيخ قناعة بأن هناك حرب حضارة في قلب المجتمع الفرنسي بذاته، قد تجري ليست في ضواحي الحواضر الكبيرة وحسب، لذا من الضروري العودة إلى أصول المجتمع الأنثروبولوجية».
ثمة مبررات أنثروبولوجية طغت على التأثير الفكري والسياسي، وليس سراً أن العديد من النظريات حول التطوّر وتحول التاريخ يربطها بجذور أنثروبولوجية كما في حديث كانط وأوغست كونت وهيغل وفاتيمو ونيتشه وهنتنغتون ونيتشه، ومفهوم «عدم الأمان الثقافي» الذي يطرح لدى الفرنسيين يجعل المتحيزين ضد الحضارات والأعراق الأخرى أكثر حدية.
لنتأمل في نقدٍ وجّهه الفيلسوف الفرنسي إدغار موران، حيث قرن في مقالة له بين موقف «الإسلام الأصولي» الذي يحث على القتل وبين الكتابات الإسلاموفوبية لزمور وويلبك، اللذين أصبحا يمثلان نزعة مَرَضية إسلاموفوبية خطيرة ليس فقط في فرنسا، ولكن أيضاً في ألمانيا والسويد. وعن تجربته مع مثل هذه الاندفاعات النظرية يقول موران: «في شبابي، انضممت إلى حزب صغير هو حركة طلاب الجبهة التي روّجت للنضال على جبهتين: ضد الفاشية وضد الستالينية في الوقت نفسه. وبعد تحولي إلى الشيوعية في ظل الاحتلال، ثم رجوعي عن ذلك بعد ستة أعوام، رأيت نفسي أقاتل مرة أُخرى على جبهتين: ضد الشيوعية السوفياتية وضد الاستعمار الأوروبي. ومنذ عقود، أحاول مقاومة توجهين همجيين متعارضين في الظاهر: الهمجية التي جاءت من أعماق العصور التاريخية المحملة بالكراهية ونزعة السيطرة والازدراء، والهمجية الباردة والجليدية الناتجة من حضارتنا، والمتمثلة في هيمنة الربح الجامح والحساب. لقد تمكنت من مقاومة هستيريا الحرب حين جُرّم كل ألماني، ثم الهستيريا الستالينية حين جُرّم كل انتقاد للشيوعية، ويمكنني الآن مقاومة الهستيريا الجديدة.
في ظل ظروف فرنسا اليوم، أشعر بالحاجة إلى القتال على جبهتين: جبهة مقاومة كراهية الأجانب وأشكال العنصرية وكراهية الإسلام ومعاداة السامية، وهي جبهة تمثل همجية الحضارة الحديثة، وجبهة العمل ضد جميع أشكال التعصب القاتل التي تحمل في داخلها الهمجية القديمة كافة. ومن الواضح أن هذا العمل ينطوي على قمع العنف القاتل، لكنه يشمل أيضاً تفاديه الذي يمكن أن يتضمن بحد ذاته تبنّي سياسة للضواحي (المدن الفرنسية) والحدّ من عدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية والتعليم الإنساني المتجدد».
في آخر المطاف، لا يكفي أن نعيد كل انتقادٍ لموضوع الإسلاموفوبيا ولا أن نستبسل في مواجهة الغرب بمحاولة احتقاره حضارياً كما يفعل المتطرفون. إن البعد النظري التطوّري العلمي أسهم في خلق مجموعة من الأفكار ضد الحضارات والمجتمعات والأعراق، وهذا كله يواجَه، كما اقترح لوجييه وموران، بالعمل الفكري الدؤوب لمواجهة هذه العوارض الناقصة في مجال فهم الشعوب لبعضهم، أو لعوائق التقاء الحضارات والثقافات، وهذا ليس صعباً خاصة أن الذروة للنظريات الإقصائية تجاه الشعوب ذهب أهلها الكبار وبقيت مثل الخطوط العريضة والشعارات في الإعلام وعلى أجندة بعض الأحزاب. الأهم ألا يتحكم الحمقى في علاقة المجتمعات والأديان والثقافات، بل العقلاء وأهل الخبرة والعلم.