بين العشيرة والعشائرية فرق كبير

لطالما بيّنا وبيّن غيرُنا – علمياً – الفرق الكبير بين العشيرة والعشائرية (والطائفة والطائفية، والقلة والأقلية...) ولكن كثيراً من الناس لا يقرأون، وإذا قرأوا على فهمهم المسبق أو المنحاز يصرّون، حتى وإن كانوا مثقفين أو ساسة كباراً، فالعشيرة والعشائرية عندهم شيء واحد، أو وجهاًن لحقيقة واحدة، أو مصطلحان مترادفان ليس إلاّ.
نعم، إن العشيرة قديمة قدم المجتمع، ولا تزال كالأسرة قائمة إلى اليوم حتى في أكثر البلدان تقدماً. إنها أشبه بأسرة كبيرة ممتدة يربطها الدم لأنها آتية من أب واحد في المجتمع الأبوي، أو من أم واحدة في المجتمع الأمومي كالذي كان سائداً في يثرب قبل هجرة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إليها.
وإذا كان الأمر كذلك، فإنه قلما يوجد شخص مقطوع من شجرة أو عشيرة كبيرة أو صغيرة حتى الرئيس أوباما. وعليه لا يستطيع أحد إنكار وجود العشيرة أو الحمولة كما يسمونها في فلسطين أو إلغاء وجودها. وعلى الخائفين من الإنقراض عليها أن يطمئنوا وأن يطمئنوا عشائرهم عليه.
أما العشائرية (Tribalism) فهي عقلية أو اتجاه (سياسي) يسعى إلى تحويل العشيرة إلى نوع من الحزب السياسي في مواجهة العشائر الأخرى، والاحتكام إليها في العلاقات الاجتماعية والسياسية... بهذه العقلية أو التحويلة تصبح العشائرية شكلاً من من أشكال الأيديولوجية يُرجع إليها ويُفسر بها كل أمر مثل تشكيل الحكومات، والانتخابات البرلمانية، والبلدية والنقابية...والمقاضاة، والوظائف العامة: المدنية والعسكرية وربما الاستثمارات والأعمال في القطاع الخاص،أي كالأيديولوجيات الأخرى مثل الأيديولوجية القومية (Nationalism) والأيدولوجيا الشيوعية (Communism) والأيدولوجية الإسلامية (Islamism) وهكذا. عندئذ تصبح كل عشيرة – بالعشائرية – (حزبا) في مواجهة بقية (أجنحة الحزب) العشائر: الفرعية داخل العشيرة أو العشائر الأخرى عداً ونقداً.
وأحياناً على بكرٍ أخينا      :      إن لم نجد إلا أخانا.
كان ذلك ممكناً وسائداً، وحتى ضرورياً قيل نشوء المدينة ،والدولة، والأحزاب، والقيادات السياسية، والأسرة الذرية،والتعليم والاقتصاد الجديد والعولمة ، وليس بعدها . كانت العشيرة متنقلة او مقيمة كوحدة في المكان، وكانت مرتبة عمودياً ولها رئيس او شيخ او سيّد واحد ترجع إليه وتأتمر بأمره    فيما يخص صلاتها او علاقاتها بالعشائر الأخرى سلماً وحرباً.
لك المرباع فينا والصفايا     :     وحكمك والنشيطة والفضول
أما اليوم فقد توزعت العشيرة الواحدة أو تبعثرت بالحراك الإجتماعي والمكاني، والبدو استقروا  في دور وقصور، وتخرج أبناؤهم وبناتهم في جامعات السوربون ولندن وهارفارد والشرق والغرب والشمال والجنوب، والقرية تمدينت والمدينة انفتحت بل تعولمت بالتنوع البشري فيها، والدولة قائمة وقوية ويحكمها الدستور والقانون. وبعبارة أخرى: لقد حلت الروابط الجديدة أو التقاليد المدنية محل الروابط او التقاليد العشائرية (دون أن تقضي على رابطة الدم طبعاً) وإلا ما صار يترشح أكثر من واحد من أبنائها وبناتها في الانتخابات في كل بلد عربي، ولا انقسمت العشيرة بمقدار عددهم. صار شعار كل منهم وقد تعلم واستقل اقتصادياً وفكراً سياسياً... أنا سيد وأنت سيد فمن يتنازل للآخر؟
ينسب بعض الناس المخلصين أو المغرضين تفتت العشائر الانتخابي إلى الصوت الواحد، مع أنه غير مسؤول – في الحقيقة – عن ذلك، وإنما التطورات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في المجتمع التي كشف الصوت الواحد عن أثرها أو تأثيرها.
وينسب بعض آخر العنف الاجتماعي المتزايد إلى العشيرة مع أن العشيرة كالأسرة بريئة من ذلك وإنما العشائرية التي يُنفخ في قربتها المقطوعة هي أحد أسبابه، لدرجة تجعل العشائريين يكتوون بنارها ويصرخون منها.
إذا أردنا أن نعرف المصير النهائي للعشائر والعشائرية فلننظر إلى ما حدث لهما في الغرب، فقد كانت العشائر والعشائرية سائدين فيه قبل قيام الدولة واندلاع الثورة الصناعية وظهور الاقتصاد والتعليم الحديثين، ثم حلّت الدولة والأحزاب والتيارات السياسية والاجتماعية والاقتصادية... ومؤسسات المجتمع المدني محل العشائر والعشائرية، لكن العشيرة كرابطة قرابة أو دم بقيت مجرد شجرة يعرف المرء من خلالها من أين جاء وإلى أين انتهى. إن كلاً من عشيرة – كنيدي- وعشيرة بوش، وعشيرة بلير، وعشيرة بوتين،وعشيرة برلسكوني... لا تزال موجودة او معروفة بسلسلتها أو بشجرتها المدونة وليس المدّعاة بالتاريخ الشفوي الذي لا سند له.
ولكن أبناء تلك العشائر وبناتها لا يرجعون إليها سياسياً أو انتخابياً أو اقتصادياًً أو ثأرياً... وإنما يلجأون إلى الدولة والقانون الذي يحمي المجتمع المنظم أفقياً بالأحزاب ومؤسسات المجتمع المدنيًَ وبموجب قاعدة: كل شاة معلقة بعرقوبها.
لو كانت العشائرية (العقلية) سائدة في تلك البلدان لما نجح تسعة من أبناء المهاجرين والمهاجرات المسلمين والمسلمات في بريطانيا في الانتخابات النيابية الأخيرة، ولما أُشركوا في حكومتها الجديدة، ولما فاز باراك أوباما برئاسة أمريكا، وزميله ساركوزي برئاسة فرنسا.
ما لم يكن لدى الذين يبكون او يتباكون على تراجع دور العشيرة والعشائرية في المجتمع وعلى مصيرهما، أجندة ما، فإنهم يناطحون التاريخ، لأنهم يعتقدون أو يدّعون أن العشائرية قدر أو حالة أبدية لا تتسبب بالعنف. لو كان الأمر كذلك – كما يدعون – لما كان هناك حاجة للبكاء او التباكي. إن التاريخ معلم جيد ولكن يوجد – دوماً – طلبة لا يتعلمون منه كما يقول أحد المفكرين.
ألهى بني تغلب عن كل مكرمة :     قصيدة قالها عمرو بن كلثوم.
لقد أدت العشائرية (قيس ويمن) على مر التاريخ العربي التي حاول الإسلام القضاء عليها فيه ولم ينجح إلى انهيار جميع دولهم الواحدة بعد الأخرى، وكانت أحد أهم أسباب ضياع فلسطين، لأن استرجاع العشيرة والعشائر يعني تراجع الدولة والقانون وربما فسادهما.
تضعف العشائرية اليوم وتزول بالتطورات الحديثة المنافية لطبيعتها وليس للتآمر عليها كما يوحي بعض الناس، لكن رواسب الظواهر الاجتماعية القديمة تستمر أحياناً ولمدة طويلة في العمل في والدولة والمجتمعات الحديثة ،على الرّغم من زوال الظروف التي أدت – في حينه – إلى نشوئها فظاهرة الثأر مثلاً كانت ضرورية في حينه نتيجة عدم وجود الدولة وانعدام الأمن غير أنها لا تزال مستمرة إلى اليوم مع أنها لم تعد لازمة بعد وجود الدولة ومسؤوليتها عن توفير الحماية والأمن لجميع مواطنيها وسكانها.
يلجأ بعض الناس إلى العشائرية ويستغلونها لمصالح ضيقة من مثل الإيحاء بالقوة البشرية الهائلة للعشيرة التي يمثلون والتي بها غيرهم – ضمناً  او علناً –يهددون أو يبتزون لانتزاع  الرضوخ أو المراكز والوظائف العامة وأحياناً الخاصة، وكأنهم في ساحة معركة، وأن يمتخض عنها مجرد غنائم توزع على الربع كل حسب قربه من او دعمه للزعيم او الوجيه. غير أنهم لما كانوا لا يستطيعون – بسبب الندرة والمنافسة العشائرية الداخلية الشديدة والردع العشائري المتبادل – إرضاء جميع أفراد العشيرة اوالعشائر الفرعية فإنهم بالعشائرية نفسها يزيدون العشيرة تمزيقاً وتفتيتاً، ويعيقون تطور دولة القانون والمؤسسات وربما يمهدون لحرب أهلية.
تأبى الدولة الديموقراطية الحديثة ذلك ولا تنحني له او تخضع، لأن الدستور والقانون وتوزيع الفرص بين المواطنين أفقياً على أساس الكفاءة والعدل والمساواة هي المرجعية أو الحل، ولا مرجعية أو حل بغيرهما.
*  يعني أن ربع الغنائم لشيخ القبيلة، ثم ما يصطفيه منها، وحكمه للقبيلة،وطلائع هذه الغنائم أي ما تقدم منها في أثناء سيرها، ثم ما فضل من الغنائم بعد القسمة.