فساد الإصلاح



يستهوينا التاريخ الإنساني بكل إرثه الثقافي ، والعلمي ، والسياسي ، والحضاري ، وكأنه ما زال يسكن فينا ، أو نسكنه مطمئنين ، فهل الإنسان صناعة التاريخ؟ أم أن التاريخ هو صناعة الإنسان؟ وهل الإنسان يُعيد نفسه ، أم التاريخ مكرر؟ فنحن إذا استعصى علينا أمر غرفنا من معينة ما يسد حاجتنا ، وكأن التاريخ يحمل في ذاته بذرة بقائه ، فهو صالح لكل زمان ومكان وإنسان.
إن ما يُصيب أمتنا اليوم من أزمات مختلفة في كل مجالات الحياة ، قد أشغل بال الجميع قادة، ومنقادين ، وأعتقد أن أكثر الأزمات ظلامية وظلماً ووجعاً هي التي يكتوي بنارها كل أفراد المجتمع، فيسود الرعب والارتباك ، وتقل فُرص العقل في التفكير السليم ، ونستسلم لجراحنا ، وعندها لا ينفع العلاج .
الكل في هذا الوطن يعيش في دوامة أزمة الفساد ، صغيرنا ، وكبيرنا ، عاقلنا ، وجاهلنا ، فهل هناك وجع أكثر إيلاماً من ذلك ، لقد فسد البعض فأفسد عيشتنا ، بعد أن ألقى في بئر صفونا حجراً فأشغل بال العقلاء.
من جاء قبلنا قال : الخراب سهل ، والبناء صعب ، وفي الواقع المعاش فأنت تستطيع أن تهدم بناية مهما علت في السماء بيوم واحد ، ولكن إذا ما أردت بنايتها فكم من الأيام تحتاج ؟؟ وساعة الهدم تكون وحدك ، وقلة من المساعدين ، ولكن في البناء أنت بحاجة إلى جهد عدد كبير من المختصين . وعندما تكون فاسداً فإن من معك مخلص لمنظومة الفساد ، وحين تبغي الإصلاح فإنه سيسقط على الطريق بعض من معك في خانة الفساد ، فالوقت الطويل الذي يحتاجه الإصلاح امتحان ليس سهلاً لك ، ولمن معك ، وأهم ما في الأمر فأنت حين تكون فاسداً فأنت تعمل بالخفاء سراً ، ومن المستحيل مراقبتك وردعك ، لكنك عند الإصلاح فأنت تعمل تحت الأضواء الإعلامية ، وهذا يُتيح للفاسدين معرفتك ومعرفة من يعمل معك ، وطريقة عملك ، فيُعدون الخطط لإفشالك ، وصيد من تُغريه شباكهم ، ورغم قناعتي أنه ليس من الصعب إفساد المصلح ، لكنها مهمة تكاد تكون مستحيلة إصلاح الفاسد ، ومع ذلك فإنني على يقين أن الإصلاح مهمة وطنية بحاجة إلى تضحية كبيره ، وإذا صلُحت النوايا ، صلُح العمل ، والإصلاح بحاجة إليهما معاً .
وأخيراً أقول : إن الفساد هبوط سهل للذات إلى دونية الإنسان وحيوانيتة ، والإصلاح صعود صعب للذات إلى القمم السامية ، وأعجب من مثقفين ، ومسؤولين ، وأصحاب قرار يتزاحمون على الهبوط، ولا يلتفتون إلى سلم الصعود.