كما يليق بشاعر مثله
اخبار البلد-
رغم كثرة أسباب الخلاف، كان محمود درويش أكثر أناقة من النميمة، وأكثر وسامةً من أن يردّ القسوة بمثلها!
ورغم أن الفصائل اختلفت على كل شيء، كل شيء، لكنها اتفقت كلها، على محمود درويش!
كان الرجل ضلعاً ثالثاً لخريطة بلد مكونة من ضلعين عموديين فقط، حتى إن أحد النقاد قال مرة "إن شعراء المقاومة كلهم اتكأوا على فلسطين، إلا درويش ففلسطين اتكأت عليه”، من هنا يمكن قراءة درويش كتجربة شعرية زامنت التراجيديا الفلسطينية، وتأثرت بها، وأثرت فيها، وأثْرَتْها، من دون أن "تستغلها” كوظيفة من أجل اختراع مشروع أدبي يدفع بصاحبه إلى منصات اللغو.. والكلام.. الكلام الكثير الذي قيل في رثاء الشهداء ومديح شجر الزيتون ووصف قبة الصخرة الخ الخ!
استطاع درويش، دائماً، أن يكون غير ذلك تماماً! كونه شاعرا صاحب مشروع فكري وثقافي وجمالي، ولد في مناخ قومي ووطني يعاني من "احتلال بليغ”، لكن القضية التي وصفت دائماً أنها الأكثر عدالة في العالم، لم تسرقه من لغته ومن دهائه الجمالي ومن إنسانيته الواسعة، كذلك لم تكن فكرة فلسطين الشهيدة والفقيدة لتغريه أن يظل سجيناً في بكائياتها، وأن يظل يندب أرتال الموتى الذين يتراكمون على أعتاب البيوت والبلدات كل يوم.
كان هدفه مغايراً، حمل فلسطينه معه، وذهب إلى العالم: هذه جثتي الشخصية، وهذا أنا، وهؤلاء الأشقياء إخوتي الذين خلقوا من جزمةٍ أفقا!
هكذا يترتب أن يكون الشِّعر.
وهكذا تُضاف للأوطان مهامّ جمالية وإنسانية، غير كونها منازل للطير والنحل والفلاحين الطيبين.
لم تكن حصة "محمود درويش” من البطولة الشعبية أكبر، ولم تكن أقل، من حصة أي واحد من العشرة ملايين فلسطيني المنتشرين في أربع رياح الأرض، لكن البلاد العظيمة تضع روايتها في عُهدة رجالٍ عظيمين.
وبعد ما يقرب من نصف قرنٍ من الإخلاص للشعر، بمثابرةٍ نادرةٍ، ووفاءٍ عظيم، كتب "محمود درويش” اسمه واسم أمته بكل لغة في ثقافات آسيا الوسطى وأميركا الجنوبية، والمكتبات العامة في أطراف افريقيا، بل ووصل بنشيده العالي وصوته الواثق الى بلادٍ لم يكد يصلها حبر الترجمة أو شغف الكتابة!
واستطاع، كما يليق بشاعر، أن يتلمس ذلك الإنساني المشترك بين فلاحي المتوسط ومزارعي الريف المغاربي وفقراء الساحل الهندي وجميلات المدن اللعوب وأمهات المقاتلين في غير ثورة وغير بلد، وأن يغادر تلك "الزنزانة الرقيقة” التي أريد له أن يظل أسيرها حين سمي بشاعر المقاومة.
غادرها الى مناطق أكثر جدلاً وإعمالاً للعقل، واقترب من مساحات خطرة ربما غامر كثيرون قبله بطرقها، إنما ليس بالوثوق ذاته والوضوح ذاته، فلم يسبق لشاعر أن واجه الموت بهذه النديّة والصلابة والصوفية والتسامح.
ولم يندفع "محمود درويش” الى بلاد العالم ضيقاً بنسبه الوطني، أو تبرّماً من بلاد لم تتسع له، بقدر ما رأى أن بلاده، فكرة وحضارة وتراثاً خلاقاً، أثرى وأكبر من أن تحشر في هذا التابوت المتطاول بين نهرٍ قليل الماء وبحرٍ نزق المزاج!
ولم يلبث الشاعر أن صاغ جدلية فريدة، بين قضية تحرر وطني وكفاح ضد الاحتلال وبين الإنساني والجمالي والفاتن، وبين الحرب والحب، وبين سرير الغريبة والفقد الدائم لفيء القرية الفقيدة.
**
هل نحتاج مناسبة لنظل نقرأ درويش كل يوم؟
– نعم. أن نتعلم الكتابة!
ورغم أن الفصائل اختلفت على كل شيء، كل شيء، لكنها اتفقت كلها، على محمود درويش!
كان الرجل ضلعاً ثالثاً لخريطة بلد مكونة من ضلعين عموديين فقط، حتى إن أحد النقاد قال مرة "إن شعراء المقاومة كلهم اتكأوا على فلسطين، إلا درويش ففلسطين اتكأت عليه”، من هنا يمكن قراءة درويش كتجربة شعرية زامنت التراجيديا الفلسطينية، وتأثرت بها، وأثرت فيها، وأثْرَتْها، من دون أن "تستغلها” كوظيفة من أجل اختراع مشروع أدبي يدفع بصاحبه إلى منصات اللغو.. والكلام.. الكلام الكثير الذي قيل في رثاء الشهداء ومديح شجر الزيتون ووصف قبة الصخرة الخ الخ!
استطاع درويش، دائماً، أن يكون غير ذلك تماماً! كونه شاعرا صاحب مشروع فكري وثقافي وجمالي، ولد في مناخ قومي ووطني يعاني من "احتلال بليغ”، لكن القضية التي وصفت دائماً أنها الأكثر عدالة في العالم، لم تسرقه من لغته ومن دهائه الجمالي ومن إنسانيته الواسعة، كذلك لم تكن فكرة فلسطين الشهيدة والفقيدة لتغريه أن يظل سجيناً في بكائياتها، وأن يظل يندب أرتال الموتى الذين يتراكمون على أعتاب البيوت والبلدات كل يوم.
كان هدفه مغايراً، حمل فلسطينه معه، وذهب إلى العالم: هذه جثتي الشخصية، وهذا أنا، وهؤلاء الأشقياء إخوتي الذين خلقوا من جزمةٍ أفقا!
هكذا يترتب أن يكون الشِّعر.
وهكذا تُضاف للأوطان مهامّ جمالية وإنسانية، غير كونها منازل للطير والنحل والفلاحين الطيبين.
لم تكن حصة "محمود درويش” من البطولة الشعبية أكبر، ولم تكن أقل، من حصة أي واحد من العشرة ملايين فلسطيني المنتشرين في أربع رياح الأرض، لكن البلاد العظيمة تضع روايتها في عُهدة رجالٍ عظيمين.
وبعد ما يقرب من نصف قرنٍ من الإخلاص للشعر، بمثابرةٍ نادرةٍ، ووفاءٍ عظيم، كتب "محمود درويش” اسمه واسم أمته بكل لغة في ثقافات آسيا الوسطى وأميركا الجنوبية، والمكتبات العامة في أطراف افريقيا، بل ووصل بنشيده العالي وصوته الواثق الى بلادٍ لم يكد يصلها حبر الترجمة أو شغف الكتابة!
واستطاع، كما يليق بشاعر، أن يتلمس ذلك الإنساني المشترك بين فلاحي المتوسط ومزارعي الريف المغاربي وفقراء الساحل الهندي وجميلات المدن اللعوب وأمهات المقاتلين في غير ثورة وغير بلد، وأن يغادر تلك "الزنزانة الرقيقة” التي أريد له أن يظل أسيرها حين سمي بشاعر المقاومة.
غادرها الى مناطق أكثر جدلاً وإعمالاً للعقل، واقترب من مساحات خطرة ربما غامر كثيرون قبله بطرقها، إنما ليس بالوثوق ذاته والوضوح ذاته، فلم يسبق لشاعر أن واجه الموت بهذه النديّة والصلابة والصوفية والتسامح.
ولم يندفع "محمود درويش” الى بلاد العالم ضيقاً بنسبه الوطني، أو تبرّماً من بلاد لم تتسع له، بقدر ما رأى أن بلاده، فكرة وحضارة وتراثاً خلاقاً، أثرى وأكبر من أن تحشر في هذا التابوت المتطاول بين نهرٍ قليل الماء وبحرٍ نزق المزاج!
ولم يلبث الشاعر أن صاغ جدلية فريدة، بين قضية تحرر وطني وكفاح ضد الاحتلال وبين الإنساني والجمالي والفاتن، وبين الحرب والحب، وبين سرير الغريبة والفقد الدائم لفيء القرية الفقيدة.
**
هل نحتاج مناسبة لنظل نقرأ درويش كل يوم؟
– نعم. أن نتعلم الكتابة!