الميليشيات

 نعرف عن الميليشيات بأنها تنظيمات مسلحة تستدعيها ظروف احتلال حيث تكتسب مشروعيتها من غايات جليلة وأهداف سامية، وإجراءات تسمح لها اللجوء إلى أي تصرف من شأنه تحرير ما احتل من الأرض؛ أي أنّ الخصم هنا هو العدو المحتل أيّا كان.؛ بحيث تتضافر جهود أبناء البلد الواحد كلهم لدحر المغتصب وفلوله.
ومع ذلك، وفي ظل الحراك المجتمعي بمرجعياته العرقية والدينية والمناطقية، فقد ظهرت ميلشيات لكل مرجعية من هذه المرجعيات حتى وصلت إلى أبناء الدين الواحد مثلا لتتفتت إلى ميليشيات طائفية ومذهبية هي أبرز ما تكون في بلادنا الإسلامية والعربية منها تحديدا كما هو موجود في العراق ولبنان إضافة إلى بلدان أخرى أقل ظهورا وبيانا ولكنها موجودة وتبحث عن فرصة وحالة سياسية معينة كي تطفو على السطح. وأما مساوئ هذا الوضع وشروره فليست بخافية على أحد، وليست بحاجة إلى توضيح وتفصيل. ويزداد الأمر سوءا إذا تبنى النظام السياسي الرسمي نفسه إحدى هذه الميليشيات دون الأخرى، أو قام نفسه بإنشائها ورعايتها كما فعل بريمر وجون أبو زيد في العراق.
وفي الأردن، وكي لا ( ندمل) رؤوسنا في التراب، علينا الاعتراف بأن مثل هذه الميليشيات قد بدأت بالظهور بصورة تدريجية مستغلين الظروف المواتية بحيث تبدأ باللفظ ولكنها لن تنتهي إلا بحمل السلاح إن لم نتدارك الأمر قبل استفحاله. وقد بدأت أولى خطوات تكوين المليشيات منذ أن رفعت أول لافتة وهتاف يطالب بكفّ اليد الأمنية، وتجيييش الرأي العام ضد أفراد الأمن العام والدرك والمخابرات العامة، ليصار بعدها إلى تكوين ميليشيات عشائرية ومناطقية تقف في وجه الميليشيات الحزبية والتنظيمية الأخرى. وإن بقي الأمر على هذا الحال فسوف يرزخ المواطن العادي الذي لا ميليشيا له إلى تجبر هؤلاء أو أؤلئك، بل وقد يستدعي الأمر إلى تكوين ما هو قريب من ذلك ليحمي نفسه وأسرته. بل وسيزداد الأمر سوءا على سوء بحيث يجد مهربو المخدرات واللصوص والزعران الفرصة سانحة لهم لإنشاء تنظيم خاص بهم كمافيات إجرامية لن يسلم من أذاهم أحد في ظل هذا الانفلات والتردي في المنظومة الأمنية وانهيارها. وسنجد لكل من هؤلاء راية يصطفون تحتها، وشعارات خاصة يتبنونها، وغلمان وصبية يقودون الشارع ويتحكمون بنبضه، ويشهرون سيف الترهيب والتهديد لكل من يخالفهم فكرا أو توجّها. ومَن ذكرت جميعهم سيكونون لقمة سائغة وصيدا سهلا إلى اختراقات خارجية بدعاوي براقة تدغدغ العواطف تحاك في دهاليز السفارات الأجنبية وأروقتها، ويقوم على تنفيذها برنارد ليفي وأمثاله.
وأما الميليشيا الأخيرة فهي التي كوّنها وأنشأها عصابة من الفاسدين، لجأت إلى الدينار والدرهم، وهم الذين كانوا السبب الرئيس في تكوين الميليشيات الأخرى التي ولدت من رحم القهر والفقر ورؤية المال العام منهوبا مسروقا من قبل هذه العصابة التي أكلت الأخضر وألقت في أفوه الآخرين يابس الخبز.
نحن في الأردن الآن في مرحلة مخاض عصيبة؛ فإن لم نتدارك الأمر بنيات صافية فسيموت الجنين وأم الجنين، وأما الخيار الثاني، فسيولد الجنين مشوها إن لم نحسن مسيرة الإصلاح جيدا، واستعجلنا الولادة مبكرا. ولكن إذا وضعنا جميعنا، دون استثناء، مصلحة الوطن فوق مصلحة الدرهم والحزب والعشيرة فسنصل بإذن الله إلى شاطئ السلامة، لأن البديل هو غرق الجميع لا قدّر الله.