2011

حصيلة العام 2011 على المستوى العربي ملتبسة. بدأ العام بموجة ثورية بآفاق مفتوحة, أطاحت بنخب حاكمة ونزعت الشرعية عن أخرى, وأطلقت الجماهير كقوة سياسية رئيسية في المنطقة. وارتبطت بالموجة الثورية طموحات التحول الديمقراطي واجتثاث الفساد وإطاحة النهج النيوليبرالي والطبقة الكمبرادورية وفك التبعية مع الاستعمار الأمريكي والغربي والتحضير لمواجهة جديدة مع العدو الإسرائيلي. هذه الطموحات ما تزال قائمة كأهداف أصيلة للموجة الثورية اللاحقة. لكن العام انتهى بانتصارات ملموسة, ولكن غير نهائية, للثورة المضادة. فلقد تمكنت الإمبريالية الأمريكية والغرب والرجعية العربية من استيعاب الموجة الثورية الأولى وإعادة توجيهها صوب هدف ليبرالي محض يتمحور حول الإصلاحات السياسية وبخاصة الانتخابية البرلمانية, بينما جرت صيانة المصالح الأساسية للحلف الغربي - الرجعي والمتعلقة بالنفط والكمبرادورية وإسرائيل.

قُمعتْ ثورة البحرين بشدّة من دون اعتراض عربي أو دولي, ووئدت التحركات الشعبية في السعودية وعُمان والكويت, وتم الحفاظ على أنظمة الخليج بمنأى حتى عن المطالب الليبرالية. ولعبت قطر دور رأس الحربة في استراتيجية القتال خارج الأسوار التي قامت على فكرة التدخلية الفعالة والديناميكة في الأقطار العربية لإعادة توجيه الموجة الثورية وصيانة الخليج من آثارها. وقد تم ذلك بالتحالف مع الإخوان والسلفيين و مجموعات وعناصر من تنظيم القاعدة. وجرى استخدام الانتخابات المموّلة والإعلام الموجّه والتفاهمات مع قوى النظام القديم في تونس ومصر, وأسلوب عقد الصفقات بين النظام والمعارضة في اليمن, وجرى استخدام الإرهاب والتدخل الأجنبي في ليبيا, للتوصل إلى سيطرة قوى الإسلام السياسي في هذه الدول. وتتركز الهجمة السياسية والدبلوماسية والإعلامية والإرهابية, الآن, على سورية, بينما يجري ترتيب إدماج حماس في التفاهمات القائمة بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل. وكل ذلك تم ويتم في سياق تأمين الخليج.

خفتت اصوات القوى العربية المعادية للكمبرادورية. وتم استبعاد الخلاص من النهج الرأسمالي النيوليبرالي عن أجندة التغيير. وكان ذلك نتيجة طبيعية لتسيّد القوى الدينية للمشهد السياسي. لم يشهد العالم العربي, بعكس منطقة متدينة أخرى كأمريكا اللاتينية, نشوء مدرسة اجتماعية تقدمية داخل الخطاب الديني. وتنظر قوى الاسلام السياسي إلى حرية التجارة والخصخصة واقتصاد السوق وتراكم الثروات, كحقائق مطلقة. وهي لا تحتج على الرأسمالية بما فيها النيوليبرالية إلا في مسألتين, الفساد والإباحية. وهي لا تدرك أن الفساد هو الزيت اللازم لتسيير النيوليبرالية, كما لا تدرك أن تكسير القيم الأخلاقية وتأليه الثراء وعبادة الاستهلاك, هي أصنام الرأسمالية, خصوصا في مرحلة الأَمْولة (تسيّد النشاطات المالية).

الكمبرادورية هي نهج الوكالة المحلية لرأس المال المالي في الغرب. وهو نهج يتطلب وكالة سياسية. وينشأ عن الكمبرادورية بالضرورة الفشل التنموي وتركّز الاستثمارات في القطاعات المالية والعقارية وفي الدرجة الثانية في قطاعات الاتصالات والمعادن. وهو ما يؤدي إلى تقلّص فرص العمل المقترن بتراجع دور الدولة الاقتصادي الاجتماعي. ومحصلة ذلك انتشار الفقر والتفسخ الاجتماعي. والدواء الذي تقترحه القوى الدينية لمعالجة هذا الوضع هو الأعمال الخيرية والهداية. وتشجع الإمبريالية هذا النمط من المعالجة الذي لا يتعارض مع هيمنتها.

من المفارقات الكبرى أن تخرج إسرائيل, الكاسب الأكبر من سنة 2011 الثورية. ففي إطار التفاهم الناشئ بين قوى الإسلام السياسي العربي وواشنطن, جرى تحييد إسرائيل من الصراع الدائر, واختفت شعارات مقاومة الاحتلال والتوسع والتطبيع عن أجندة الإسلاميين الذين أعلنوا صراحة من تونس إلى ليبيا إلى مصر إلى سورية, مواقف غير عدائية نحو إسرائيل أكثر جرأة من مواقف الأنظمة التقليدية. ومن المدهش مثلا أن حزب النور السلفي في مصر تجاوز الإخوان المسلمين في إعلان الصداقة للعدو الإسرائيلي من دون أن ينال سوى نقد العلمانيين.

من مكر التاريخ أن ينجو الأردن من هذه المعادلة. فالبرنامج الأمريكي الخليجي الإخواني في الأردن يركّز - كما في كل الدول العربية غير الخليجية - على الإصلاح السياسي الليبرالي المبتور عن حل المسألتين الوطنية والاجتماعية. وهو ما يصطدم بالحراك الأردني الذي نشأ قبل الربيع العربي, وتجذّر خلاله, في اتجاهين مترابطين هما صعود النزعة الوطنية وصعود النزعة الاجتماعية المضادة للنيوليبرالية والكمبرادورية والخصخصة والبزنس الخ, وبروز العشائر كقوة اجتماعية سياسية حاسمة.

ولعل الفوضى السياسية التي يعيشها الأردن حاليا ناجمة عن أن النظام السياسي لم يقرر بعد تحالفاته ومساره. والحقيقة أن كلفة الخيار مرتفعة. فالسير في الأجندة الأمريكية الخليجية الإخوانية, سيقود إلى مواجهة مع الحركة الوطنية الاجتماعية والعشائر ويفرض إعادة ترتيب قواعد وأجهزة الدولة, وهو ما سيعرض النظام والدولة لمخاطر صميمية, بينما السير في الخيار الوطني الاجتماعي, سيقوده إلى تغيير اقتصادي اجتماعي شامل, لا يتضمن فقط محاكمة جماعية للنيوليبراليين الفاسدين واسترداد أموال وموجودات ومؤسسات القطاع العام وتنمية المحافظات, بل ضرب الكمبرادور نفسه. وهو خيار مكلف بالطبع لكنه يجدد النظام و لا يمسّ الدولة.

إذا طالت مرحلة التردد في الخيار, سوف تضعف قدرة النظام التدخلية, و سيكون العام 2012 عام الصدام العنيف بين البرنامجين.