صواريخ وفيسبوك وتيليغرام: حرب المعلومات والتضليل الإعلامي على أشدها في أوكرانيا

أخبار البلد - استعد الروس مبكرا لحرب أوكرانيا. حشد الجنود والدروع والصواريخ، رافقه حشد لجيش معلوماتي كبير. كان الروس يدركون أن المنافذ التقليدية للوسائط الاجتماعية ستغلق بوجههم مع أول طلقة في الحرب. الخيار كان منصة تيليغرام.

أعلنت شركة ميتا الشركة الأم لموقع التواصل الاجتماعي العملاق فيسبوك الجمعة أنها قررت منع وسائل الإعلام الرسمية الروسية من نشر إعلانات أو ممارسة أنشطة تدر عائدات على منصتها في أيّ مكان في العالم.

وأوقف موقع تويتر للتواصل الاجتماعي الإعلانات في روسيا وأوكرانيا في ظل الهجوم الروسي على الأراضي الأوكرانية لأنه يريد "ضمان رفع مستوى معلومات السلامة العامة المهمة وألا تصرف الإعلانات الانتباه عنها”.

رد الفعل الروسي كان متوقعا. فموسكو أعلنت أنّها فرضت "قيوداً على الوصول” إلى فيسبوك في روسيا ردّاً على فرض عملاق التواصل الاجتماعي "رقابة” على وسائل إعلام روسية و”انتهاكه” حقوق المواطنين الروس وحرياتهم.

وبعد ساعات أعلنت الهيئة أنّها "حدّت جزئياً الوصول إلى فيسبوك من خلال إبطاء عمل الموقع” في روسيا، على قرار ما هو عليه وضع تويتر في هذا البلد منذ سنوات.

واتّهمت الهيئة عملاق التواصل الأميركي بتقييد الحسابات الرسمية لكل من قناة "زفيزدا” الروسية المرتبطة بوزارة الدفاع ووكالة الأنباء العامة "ريا نوفوستي” وموقعي لينتا وغازيتا الروسيين الإخباريين.

وأكّدت الهيئة أنّها رصدت 23 "حالة رقابة” فرضها فيسبوك على وسائل إعلام ومحتويات روسية على الإنترنت منذ أكتوبر 2020.

ولفت البيان إلى أنّ "مكتب المدّعي العام قرّر، بالتشاور مع وزارة الخارجية، اعتبار شبكة التواصل الاجتماعي متورطة في انتهاك حقوق الإنسان والحريات الأساسية وكذلك أيضاً حقوق مواطني روسيا وحرياتهم”.

وعلى غرار ما بات يحصل مع اندلاع أيّ حرب أو نزاع، شكّل غزو أوكرانيا مناسبة لانتشار أخبار كاذبة على الإنترنت، ولاسيما على شبكات التواصل الاجتماعي.

مجلة فورين بولسي الأميركية رصدت ملامح الخطة الروسية من أول لحظات انطلاق العمليات الحربية.

جاستن لينغ، وهو صحافي مقيم في تورنتو، كتب أن رسائل الدعاية الروسية على تيليغرام انطلقت مع إطلاق الصواريخ الباليستية من روسيا، وتقدّم الدبابات عبر الحدود الأوكرانية، وتوجه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نحو إعلان الحرب. كان الجيش الإلكتروني الموالي لموسكو مستعدا لاستخدام منصة المراسلة تيليغرام وتوفير قنوات وسائل التواصل الاجتماعي الدعائية الموالية للكرملين وبث الأخبار بشروط بوتين.

في وقت مبكر من يوم الخميس، ظهرت مجموعة من القنوات على تيليغرام مثل "دونباس إنسايدر” و”بيلوم أكتا” التي لها تاريخ من الدعاية المؤيدة لروسيا. وفي غضون دقائق من الإبلاغ عن التطورات في دونيتسك وأوديسا وكييف، قدمت القنوات تفاصيل وصورا ومقاطع فيديو للحرب بالبث الحي أو بتسجيل للقطات لم تمر عليها دقائق، باللغات الروسية والإنجليزية والإسبانية والفرنسية. وأظهرت الصور الجنود الروس وهم يتجهون نحو الحرب والصواريخ تهبط خارج المدن الأوكرانية الرئيسية.

وعلى قنوات تيليغرام الأخرى التي تنشر الميمات اليمينية المتطرفة، انتشرت صور لبوتين وهو يلوح بمسدس ووعد بـ”سحق هؤلاء الأوكرانيين القذرين”، مما كسب إعجاب المتابعين.

وقد تكون تيليغرام قناة وسائط اجتماعية هامشية إلى حد ما في الغرب، ولكنها (على عكس تويتر وفيسبوك ويوتيوب) خالية من القيود على الحملات الدعائية المدعومة من الدولة في روسيا، حيث لا تزال تحظى بشعبية هائلة. فعلى سبيل المثال، حشدت محطة "روسيا اليوم” أكثر من 200 ألف متابع على المنصة.

وكان حجم المعلومات المضللة الصادرة عن تيليغرام كبيرا بما يكفي لتبرير صدور بيان من هيئة مكافحة التضليل التابعة للحكومة الأوكرانية يوم الخميس، واصفا عمل هذه القنوات بأنه "إرهاب معلوماتي”. في حين أن القليل من القنوات الناطقة باللغة الإنجليزية كانت مدرجة في قائمة تلك التي وصفتها الحكومة بالخطيرة، على الرّغم من أن بعضها يضم عشرات الآلاف من المتابعين، إلا أن البيان يؤكد مع ذلك مخاوف كييف من أن تيليغرام توفر قنوات مخصصة للدعاية الموالية لروسيا.

وتكمن المفارقة في أن أقرب المواطنين إلى الجبهة الأوكرانية يكوّنون انطباعات مختلفة وغير دقيقة عما يحدث.

فالعديد من الروس الساكنين على بعد بضعة كيلومترات من القتال العنيف، يتهمون الأوكرانيين بالعدوان، شاكرين بوتين لحمايتهم، ومؤمنين بأن دونباس تشهد "عملية خاصة” محدودة، مشبّعين بأخبار وسائل الإعلام الرسمية.

ويقول إيفجويني كوتيغوف (54 عامًا) تحت تمثال لينين الذي يتوسّط الساحة المركزية في إحدى القرى في منطقة روستوف البعيدة بضعة كيلومترات عن الحدود الأوكرانية "قتال؟ لا، هذا ليس قتالا، إنه تدريبات تكتيكية، ليس هناك هجوم (تقوده) روسيا”.


جاستن لينغ: العديد من القنوات أضافت حرف "زي" إلى اسمها في إشارة إلى الحرف المرسوم على جانب شاحنات النقل العسكرية الروسية التي تتجه إلى أوكرانيا

ولا تبثّ التلفزيونات صورا عن المواجهات في العديد من المدن الأوكرانية أو عن الضحايا من المدنيين أو سكان كييف وخاركيف اللاجئين في الميترو، والتي لا تنفكّ وسائل الإعلام المستقلة والعالمية عن بثّها.

ويقول فلاديمير كارافايف (80 عامًا) ووجهه يحمل انطباع المتفاجئ "قصف في كييف؟”. ويضيف الموظّف السابق في الحزب الشيوعي، بعد استيعابه للمعلومة، "ليس هناك حل آخر”.

ويتابع "لا أعتقد أنه صراع واسع النطاق (…) بالإضافة إلى ذلك، هناك (في أوكرانيا) ظلم: النازيون في السلطة”.

هذا يجعل قنوات تيليغرام أكثر أهمية وخطورة. فليس من الواضح ما إذا كانت هذه القنوات تشارك المعلومات بتوجيه من الكرملين أم أنها خليط من مواطنين موالين لنظام بوتين. لكنها أثبتت مع ذلك قدرتها على نشر المعلومات على منصات التواصل الاجتماعي الأكثر شعبية، مع ادعاءات كاذبة قفزت من تيليغرام إلى تويتر وإنستغرام والمواقع الأخرى.

ويقول لينغ "منذ بدء العملية، فإن العديد من القنوات أضافت حرف ’زي‘ إلى اسمها في إشارة إلى الحرف المرسوم على جانب شاحنات النقل العسكرية الروسية التي تتجه إلى أوكرانيا”.

وزعمت هذه القنوات سابقا أنها تستخدم "معلومات استخبارية مفتوحة المصدر”، وهي أساليب استخدمت الى حد كبير من قبل محققين خارجيين يتابعون نشاط الدولة الروسية، مثل بغبير بيلينغكات. وقد تكون هذه محاولة لتشويه سمعة فكرة استخبارات المصادر المفتوحة أو لمجرد التلاعب بها. وغالبا ما تشارك قنوات استخبارات المصادر المفتوحة المفترضة هذا المحتوى عبر شبكتها، بما في ذلك عبر اللغات، وهي لا تكاد تخفي دعمها القوي للعمليات العسكرية الروسية.

وفي حين أن معظم المحتوى على هذه القنوات هو عبارة عن مجموعة من البيانات المتاحة للجمهور، وتنظيم منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي على يد المواطنين الروس والأوكرانيين، وإعادة تجميع المعلومات المضللة المؤيدة للكرملين، يؤدي تأطير هذه القنوات على أنها منافذ "استخبارات مفتوحة المصدر” إلى منحها طابعا من الشرعية لا تحكمه وسائل الإعلام الحكومية الروسية. وغالبا ما يصرح أعضاء اليمين المتطرف عبر الإنترنت، الذين يشكلون الجزء الأكبر من المؤيدين للروس بأهمية "إجراء أبحاثك الخاصة”، وتوهم هذه القنوات بفعل ذلك بالضبط.

ومع استمرار الغزو، زعمت هذه القنوات أن المدن الأوكرانية المهمة قد سقطت في أيدي الجنود الروس، وهي مزاعم اختفت لاحقا ولكنها وجدت مصداقية على الإنترنت بالفعل.

وقبل دقائق من تأكيد وزارة الداخلية الأوكرانية إطلاق صواريخ باليستية، نشرت قناة "إنتل سلافا” صورا للصواريخ التي يتم إطلاقها من داخل روسيا.

ومع اقتراب مطلع النهار في كييف، أفادت قناة "كاونتر إنتليجنس غلوبال” أن القوات الروسية عبرت الحدود عبر بيلاروسيا في الشمال وكانت تتحرك للاستيلاء على ماريوبول في جنوب أوكرانيا. وجاء في التقرير إن "ماريوبول هي مدينة روسية مرة أخرى”.

وكان هذا هو الخط الأمامي في حرب المعلومات. حيث تكهن العديد من المحللين بأن روسيا ستدمر الاتصالات الأوكرانية، لكن يبدو أن الهدف يتمحور حول منطق "الصدمة والترويع”. وبينما ورد أن الاتصالات تعطلت في منطقة دونباس، التي شهدت أعنف قتال، ظلت الاتصالات سليمة في معظم أنحاء البلاد، ممّا سمح لطوفان الصور ومقاطع الفيديو بإظهار التأثير الكامل للقصف الجوي الروسي.

الروس حريصون أن يبقى الأوكرانيين على اطلاع من خلال منصات الإنترنت والسوشيال ميديا على تطورات المعركة، خصوصا بنسخة المعلومات والصور والتفسيرات المنحازة للكرملين. ويعتقد جيش المعلومات هذا أن من الضروري زرع الخوف في نفوس الأوكرانيين لهزيمتهم حتى قبل أن يسمعوا دوي الانفجارات بالقرب منهم.

ولأيام قبل الغزو، كانت قنوات تيليغرام هذه تضخ تدفقا من المعلومات، بعضها من مصادر موثوقة، وبعضها تخميني، وبعضها خاطئ تماما. كما ذكرت عدة قنوات بشكل دوري أن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي قد فرّ من أوكرانيا، وهو ادعاء غير صحيح.

وحتى مع تصاعد الهجوم الروسي قدمت هذه القنوات ادعاءات غريبة وغير صحيحة. فقبل الساعة السابعة صباحا بقليل في كييف، زعمت إحدى القنوات أن هناك "تقارير أولية تفيد بأن أوديسا أصبحت في قبضة الروس”. وأكدت وزارة الدفاع الأوكرانية في غضون ساعة عدم هبوط أنه طائرة في أوديسا. وعلى الرغم من أن التقارير غير صحيحة، سرعان ما قفز الادعاء إلى تويتر.

وتفتخر هذه القنوات أيضا بوجود خط رؤية في استراتيجية بوتين.

وزعمت قناة "إنتل سلافا” قولا نسبته إلى مصدرها أن "مكتب الرئيس يتوقع اليوم احتلال خاركيف وأوديسا”، وانتشرت رسالة أيضا على قنوات أخرى مؤيدة للكرملين وشاركت حوالي 20 ألف مرة على مدار الساعة. وتناقلت كون "قوات أوكرانيا المسلحة غير قادرة على صد هجوم روسيا”.

ويتعارض هذا الادعاء بالطبع مع وعد بوتين المعلن بعدم احتلال البلاد. وكان هذا مجرد ادعاء واحد من بين العديد التي جاء بعضها من الوزارات الروسية، والبعض من وكالة الأنباء الرسمية تاس، والبعض من قنوات التواصل الاجتماعي غير الرسمية أو شبه الرسمية التي كانت موجهة في الغالب نحو إضعاف العزيمة الأوكرانية أو إرباكها.

ومع استمرار الضربات الجوية، زعمت قناة "إنتل سلافا” أن "لواء الطيران التكتيكي السابع للقوات الجوية الأوكرانية لم يعد موجودا”. وسرعان ما تكرر هذا الادعاء على تويتر، لكن لم يتأكد ذلك بشكل مستقل.

الروس حريصون على أن يبقى الأوكرانيون على اطلاع من خلال منصات الإنترنت والسوشيال ميديا على تطورات المعركة

ويعتبر لينغ أن من أغرب جوانب فضاء معلومات تيليغرام الموالي لروسيا هو مشاركة الأميركي جون سوليفان، الذي يستخدم الاسم المستعار "جايدن إكس”.

كان سوليفان مسؤولا عن التقاط لقطات لموت أشلي بابيت داخل مبنى الكابيتول الأميركي في السادس من يناير 2021. وفي الأيام التي تلت ذلك، قدم المدّعون اتهامات ضده للمشاركة باقتحام مبنى الكابيتول. وكان سوليفان قد أنشأ مجموعة تسمى "تمرد الولايات المتحدة الأميركية” قبل اعتقاله، ويزعم المدّعون أنه هدد ضباط الشرطة الذين كانوا يحرسون مبنى الكونغرس.

وطوال فترة الغزو الروسي، نشر سوليفان أو أعاد بث العشرات من الرسائل والصور ومقاطع فيديو من الهجوم وجلّها قادمة من مصادر موالية لروسيا. وفي مرحلة ما، نشر سوليفان مقطع فيديو يظهر فيه جثث جنود أوكرانيين، مع نص مُلصق من قناة أخرى يقول "تم التخلص منهم نتيجة اشتباك ليلي… من الأفضل إلقاء أسلحتكم بطريقة سلمية”.

وقبل ثلاثين عاما هزم الاتحاد السوفياتي معنويا بسبب كثافة الإعلام الغربي المضاد. تعلّم الروس الدرس وها هم يردون بنفس الطريقة، وإن كان بأدوات مختلفة.