نرثي حالنا ولا نرثيك


30/12/2006 يوم أرّخ للعرب بفاجعة يوم النحر حافرا في ثنايا الذاكرة العربية بداية عهد يلفه السواد والضياع والتمزق, تم تصوير ما سبقه من عهد وتلقينه للعالم بمعايير القوى الساعية لهلاك وتصغير هذا الجزء من العالم وبمساعدة المرعوبين من عدم شرعيتهم. يوم أرّخ لشعوب الأرض والإنسانية بشرفائها من كافة الأديان والتوجهات. يوم لن يُمحى من الذاكرة لأن الجريمة التي ارتكبت فيه آلمتنا وأفجعتنا وجعلت التخلص من الصدمة أمرا صعبا لأن ما سبق ذلك التاريخ كان مرحلة تجسدت في رجل جعل رفعة أمته رأس أولوياته. جريمة بشعة خلقت كابوسا شلّ العقول عن التصديق لهول الحدث الذي ارتقى لفداحة قتل هابيل لأخيه قابيل وسيبقى المسلمون والعرب وشرفاء العالم يتذكرون زعيما كان ضحية تفانيه بالعمل الدؤوب على الإعلاء من شأن أمته والدفاع عنها. وسيبقى التاريخ يلعن ذلك الحاقد المفروض على العراقيين الذي لا ترويه إلا الدماء الشهيدة ولا تشبعه إلا الجثث الطاهرة.
لقد كان صدام هو ذلك اليوم وما سبقه من مرحلة وكانت تلك المرحلة هي صدام الذي أقلق وأرعب أعدائه بإيمانه الشديد بأمته وقضيتها وقاتل وناضل من أجلهما، كان فريدا لذلك حاربوه وكان مستنيرا لذلك أطبقوا عليه وكان صادقا لذلك كذبوه وكان مخلصا لذلك خوّنوه وكان قويا لذلك أضعفوه وكان عروبيا لذلك حاولوا أن يصهينوه وكان يفاخر بأبناء العروبة لذلك حاولوا أن يخترقوه وكان سنيا فحاولوا أن يفرسنوه وكان ينطق بالحرية والإستقلالية ولذلك قيدوه وقذفوا بأوباشهم ومن على دباباتهم ليحكموا أرض نشأة الإنسان التي علّمت الدنيا الحرف والقرءة ومهدت لحضارة البشر. وكان نبعا للعطاء ولذلك جففوا نبعه وكان كل شيء فحاولوا أن يبعدوه عن كل شيء. افتقدناه ومعه افتقدنا كل تلك الخصال التي قلما يحويها شخص بعد الأنبياء والصحابة. خصال حوت نفسها فيه لتعلو بنفسها رافدا لمدرسة ينهل منها الشرفاء كيف يكون الإنسان رمزا حوته القلوب و التراب. وكان رمزا سيقدسه التاريخ لأنه قدس أمته.
كان يؤمن بربه ودينه وعروبته وقضيته ويعلم أن المتربصين به كُثر ولذلك "غابت" عن نهجه المهادنة التي كانت ستفسر ضعفا, الشيء الذي انسحب على كل عراقي مهما كان منبته ومذهبه ولم يكن له مناص من "شدة" استدعاها الحال لكثرة الشامتين والحاسدين والمتخاذلين والمتآمرين الذين لم يهنأ لهم بال وهم يعملون على تقويض فكره ومشروعه الذي كان سيضع الأمة في مصاف الأمم التي تحتل الصفوف الأولى في العلم والقرار والتأثير والتغيير. لكنهم يرون بالمقابل ذلك تطاولا من أمة قيدت ببعض الرؤوس المصنوعة ورسموا لها إطارا ضيّقا عليها ألا تحاول العبث بمعالمه وحدوده بل تبقى متقوقعة لا تستطيع الإنفلات من شرنقة إطارها المرسوم. ولذلك استكثروا عليه لملمة جراح أمته ومداواتها واجتثاث عللها وأمراضها, وأجهضوا جهده مُهوّلين للعالم مدى خطورته المزعومة التي ستدمر العالم إن لم يقاوموه.
و"شدّته" التي فرضها الإيمان بضرورة وحتمية الدفع باتجاه الإعتلاء بأمته واستقلال قرارها مضافا لذلك تربص إيران والغرب ومن يدور بفلكهم, لهي "شدة" تذوب أمام عظمة ما حققه لشعبه وأمته. وللذين يغفلون إنجازاته نذكرهم باليسير منها. إقرار مجانية التعليم والقضاء على الأمية تحقيقا لأول أمر أنزله الله على رسول البشرية ليبلغه للناس جميعا وهو (إقرأ) فكان اهتمامه بالعلم والتعلم واضحا من خلال صناعة الآلاف من العلماء والأكاديميين في مختلف ميادين العلوم وهذا أحد أهم أسباب القلق لأعدائه حيث كان إيمانه الراسخ بأن العلم والتعلم يضعا أمته في عِداد الأمم السيادية.
كان قراره مستقلا حرا لا شبهة به لاسترضاء أحد بل قراره تشكله مصلحة أمته ورفعتها وإيمانه بندية أمته وقدرتها على التفوق. نفطه كان لأمته ولا سلطان للغرب عليه. دعمه لقضية العرب وقد ذهب لباريه وهو يردد تمنياته بنصرها والدنيا شاهدة على ذلك. بناء جيش مدرب ومسلح تكاد تعجز عنه دول متقدمة ناهيك عن الخدمات والطرق والجسور والجامعت والمدارس والمساجد واستصلاح الأراضي وغير ذلك الكثير. ولا ننسى دحره للخطر الفارسي الذي أجبر الخميني على قوله الشهير"كأني أتجرع السّم عندما قبلت وقف إطلاق النار" ومنحه الأكراد حكما ذاتيا لإدارة شؤونهم بنفسهم. وكأردنيين سنبقى ندين له بدعمه للأردن ببيعنا النفط بأسعار رمزية جدا.
فهل نرثيك أم نرثي حالنا؟ هل نمدحك أم نذم أنفسنا؟ هل نلومك أم نلوم الزمان الذي لم يستطع الإرتقاء لزمانك؟ هل نلوم العالم الذي تكالب عليك أم نلومك لأنك أتيت في زمان ليس زمانك؟
لن يغيب عن أدبياتنا توقيت " تضحيته " يوم عيد الأضحى ليعمّقوا الجرح في نفوس الشرفاء الذين قدروا نبل وصدق ورجولة الضحية. وقد أعلنها بتبجح وتشفي النائب العراقي بهاء الأعرجي من الفضائيات قائلا: "سنقدمه هدية في عيد الأضحى" ولم نصدق إيمانا منا بأن الإنسانية تتجلى بالأوقات الصعبة لكنهم بذلك قد ضربوا مثلا بأن ليس لهم من الإنسانية نصيب. كان توقيت يبعث على الإشمئزاز وينم عن جبن المستكين إذا استقوى والظالم إذا استولى وعدم إنسانيته عندما اختاروا ذلك التوقيت. وضحوا به تشفيا وإشفاءا لغلهم وتعبيرا عن مرضهم الذي استشرى بأبدانهم وعقولهم منذ مئات السنين ليرسموا معالم عهد سيبقى ملطخا بالدم كما كان سفك الدم الطاهر مسطرا لتاريخهم. كان دم الحسين بن علي رضي الله عنه ثمنا لنكوصهم وتخليهم عنه وتركه كفا يقابل مخرزا. أناس أثبتوا بما لايدعو للشك أنهم يعيشوا في زمان بينه وبين أبسط المشاعر الإنسانية مسافة يستحيل جسرها. أثبتوا أن الكرْهَ والحقد ديدنهم ودينهم. أثبتوا أنهم يتغذون على البغضاء وأحقاد صنعوها بأنفسهم حتى صدقوها واتخذوا منها "إلها" يتقربون منه بإيغالهم بإرضاع الحقد والكراهية لنسلهم جيلا بعد جيل مألهين مُعمّميهم ومشخصِنين الإله لتبرير وتكريس فهمهم الخاطئ للدين وأتباعه.
نرثي الزمان ولا نرثيك !! ونحن نرى الفرس الصفويين يتمادون في غيهم بروحانياتهم الدخيلة وطقوسهم الغريبة وبخزعبلاتهم وأكاذيبهم ودسائسهم المأفوفة. هل كانوا يجرؤون على ذلك والزمان كان زمانك؟ نراهم يقضون مضاجعنا بنشر مفاهيم ثورتهم مرة وبالدفاع عن فلسطين مرة أخرى متخذين من دعمهم للمقاومة وسيلة خبيثة لاختراقنا والتغلغل في مجتمعاتنا النقية كمن يدس السم في الدسم. وبالطبع كل ذلك يحقق ما تصبوا إليه أمريكا بهدف حماية ربيبتها والعمل على تفوقها على حساب العرب وقضيتهم الأولى. فالخلاص من صدام الفكرة والمشروع هو تحقيق الخلاص من منغصات تقلق إسرائيل أولا وخلق ما يشغل العرب المسلمين مع الفرس الصفويين ثانيا. وها نحن نعيش أحد مراحل مشروعهم المناهض الذي يتم تنفيذه ونحن محجمون عن مقاومته بذريعة عدم إثارة الطائفية. فإيران متمترسة داخل الدول العربية من خلال صنيعاتهم من أحزاب ومتطوعين من دول وأفراد ناهيك عن شراء الذمم لتحويل أهل السنة عن دينهم الحنيف بسطوة المال وبخبث تتورع الصهيونية عنه.
لقد أدرك الذين تعاونوا على الخلاص من صدام أنه كان صمام أمان لدولهم وأنظمتها بتحجيمه إيران وردعها عن محاولة تنفيذ عدائيتها تجاه العرب وأن العراق بصدام كان سيكفينا بتقزيم المتضخمين وقص أرجل أخطبوطهم لمنعهم من أن يقربونا. أدركوا أنهم تسرعوا حين دعموا فكرة القضاء على صدام ولمسوا نتائج غيابه حيث في الليلة الظلماء يفتقد البدر. ولنعلم ان
ماحك جلدك مثل ظفرك فتولى أنت جميع أمرك
أما إن تولى أمرنا من لا يغارعلينا فلا شك أننا أكلنا يوم أكل الثورالأبيض.
ألم يكسب صدام مؤيدين في رحلته الأخيرة ربما أكثر مما كان يكسب في حياته؟ ألم يدرك الكثير من معارضيه الحقيقة ويتحولوا قلبا وقالبا لمؤيدين؟ ومنهم المثقفون والشعراء والعلماء والسياسيون عربا وغيرعرب؟ فهؤلاء وجدوا أن الحرب لم تكن على صدام بل كانت على الأمة بكاملها بشخص صدام. أكاذيب وافتراءات كثيرة حيكت ضده لتشويه رمزيته وسيرته عند محبيه وفي البيت الأبيض من ينفث دخانه الأسود بقنابله وقذائفه جاهل أرعن لا يفقه من السياسة شيء ولا يعلم أن التاريخ لايغفل عن شيء, أحمق لا يدرك أبجديات التوازنات الدولية والعلاقات المستقبلية، جاهل حتى بأسماء ولايات دولته كان أداة لتنفيذ ما يحاك من زبانيته تحت مسميات مختلفة من أمن قومي ومخابرات ومراكز دراسات ومحللين ومستشارين وعملاء وما أكثرهم وكل أولئك يمتثلون للصهيونية ومخططاتها التي التقت مع نزعته الدينية المتعصبة التي تلتقي في جذورها ومفاهيمها مع اليهودية الصهيونية المتطرفة.
وهنا أستذكر قول الشاعر أحمد حسن المقدسي :
ما جئتُ أرثيـــــك يامن للعُلا ذهبـــــــا بل جئتُ أرثي وأبكي بعدك العَربا
خمسٌ عِجافٌ على شعب العراق مَضتْ قِنديلُ فرحته من زيته نَضَبـــــــــا
ألا نرثي الزمان الذي غيب القدر فيه مليكنا الراحل الحسين طيب الله ثراه عندما أطلق على العراق اسم "البوابة الشرقية" وكان يعي ويدرك ببصيرته النافذة أكثر من غيره معنى أن يكون العراق قويا وأن البوابة الشرقية تفتح على جار لا يُؤمَن جانبه وتحتاج الى حراسة مشددة حتى تمنع ذلك الجار من الدخول عبرها؟
هل ننسى وقوف الأردن بقيادة الحسين لجانب العراق عند احتلال الكويت؟ ووقوفه لم يكن تأييدا لاحتلال الكويت بل قراءة دقيقة وصادقة من قائد قلّ نظيره محنك وداهية عصره لمجريات ما حدث وما سيحدث؟ كان يؤمن بالحل العربي حتى يجنبنا ما كان يستشعره من شرّ قادم. لقد عارض الأسلوب الذي تمت به معالجة الأمر الجلل. علاج كانت كلفته مُبالغ بها بسبب التسرع والشروط التعجيزية والحيلة التي انطلت على البعض وركوب موجة التخبط من بعض الدول. لقد خالف طيب الله ثراه كل الدنيا لاستشعاره ما يمكن أن تؤول إليه حال العرب والمنطقة، وها هو استبصاره قد اتضح وكما أسلفت ها نحن نعيش ما كان يخشاه. لكن تم تفسير موقفه بشكل مخطوء ومتعمد لإضفاء الشرعية على ما كان يحاك في الغرف المغلقة.
فلنرثي حالنا ونرثي زماننا ولن نرثيك لأنك فينا وستبقى وليكن رثاؤنا الدافع للنهوض وعدم النكوص مستلهمين من نهجك ما ينير درب مسيرتنا لنعلو. نتذكرك رمزا عشت بطلا وانتقلت للآخرة شهيدا. رحمك الله وغفر لك وأدخلك فسيح جناته. وأختم بجزء من قصيدة رثاء للشاعر العامي الشيعي عباس جيجان الذي كان معارضا ثم اعتدل وهو يخاطب رغد صدام, القصيدة التي أبكت سامعيها وأدمعت عيونهم وأدمت قلوبهم :
رَغد يا رَغد لا تِبجين
بَسْ دمعة حِزن للزين مسموحة
أبوجْ الْكِتبْ إسمَه بْجَبْهَةِ التاريخ
كَعْبَة الوطن عنده وعالية سْطوحَه
***
ما دَنق بْراسَه وانحنى لْجلاد
رغم سِلسِلَوا رجْله وْشدوا جْفوفه
حمى الله الأمة والغيارى على الأمة. والله من وراء القصد.
ababneh1958@yahoo.com