ماذا سيكتب عنا التاريخ ؟
ماذا سيكتب عنّا التاريخ ؟؟سؤال كبير مرعب طرحه أحد الفضلاء في أحد المنتديات الإلكترونية , وهذا السؤال كان يمثّل لي شبحا مرعبا فكنت أعالجه بالتناسي لعليّ أنساه , وكلما برز شبحه المخيف أغمضت عيني عنه مقنعا نفسي أنني في حلم مزعج وكابوس مريع !! مقلدا صاحبة القصّة التالية : "إذ يروى أن رجلا أهوى برمحه حتى جعله بين عيني امرَأة وهي نائمة , فاستيقظت , فلما رأته فَزِعَتْ ثم غمضت عينيها وقَالت : كن حُلْماً كَنه " !!
السؤال أعلاه سؤال فضفاض واسع لو قدّم لطلبة توجيهي هذه الأيام للعلعت فضائيات , وصدرت بيانات , وتشكلت هيئات , وتدخلت منظمات , وتظاهرت أمهات , وأعتبر هذا السؤال من المعجزات , وصنّف على أنّه جزء من الإرهاب الذي يمارسه العالم الثالث عشر ضد الإنسانية , ونوع من التعذيب الذي ينزله هذا العالم بالأطفال الدلاليع ,المشغولين بالتواصل عبر الشبكة العنكبوتية بأساليب عجزت عن فهمها أو حفظ أسمائها ؛ لأنّ الضمير المتصل ( نا ) في السؤال أعلاه المبني على السكون في محلّ جرّ بحرف الجرّ ( عن ) يحتمل أن يكون عائدا على
1. الإنسانية جمعاء التي ملكت الدنيا , فاستخدمتها ضدّ نفسها .
2. العالم الثالث الذي يملك الطاقات البشرية الهائلة , والثروات التي لا تنضب وارتضى أن يموت جوعا .
3. الشعب العربي الذي يمثّل قلب العالم ويملك جميع مؤهلات السيادة والقيادة فأرتضى بأن يكون مجرد قبائل متناحرة تتزاحم شيوخها على أبواب كسرى وقيصر , ينعم عليهم القيصر بجزء يسير من مالهم الذي ينهبه ويسلبه فيحمدونه ويقدسونه ويصلون له .
4. الشعب الأردني قلب آسيا العربية وحاضن مشروع العرب الوحدوي والذي وضع في ظروف جعلته كأنّه يعيش أهوال يوم القيامة(( يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ )) .
5. القبيلة الفلانية التي كانت ترتبط مع غالبية أبناء وطنها بروابط البنعمة والخوّة والحلف , وتتطوع لقتال العدو في فلسطين والشام , وتؤوي ثوار الجوار وتناصرهم فأصبحت ترى في نفسها كيانا منفصلا في بحر من الأعداء .
6. العشيرة الفلانية التي كانت ترتبط بقبيلتها ارتباطا عضويا لتشكّل جسدا واحدا فاعلا متفاعلا مع المجتمع الإنساني فأصبحت ترى في نفسها الأهلية لتنفصل وتمزّق أرحامها .
7. نحن بصفتنا الفردية وما أدراك ما الفردية فالكلّ منّا يقول أنا حتى أنا , وهنا فإنّ البحث يجب أن ينصبّ على علاج مرض النرجسية الرهيب الذي يفتك في النفوس .
8. ويحتمل أن يكون السؤال يضمر الظرف الزماني المتمثّل بهذا الزلزال الذي يعيشه العالم العربي .
فهذه ثمانية احتمالات وقد تزيد , فهل يستطيع أحد أن يجيب عليها ؟؟ وقفت أمام هذه الاحتمالات حائرا , ففكّرت وقدّرت , ثمّ نظرت , ثمّ عبست وبسرت , وأستقرّ الرأي على ( خلط الطين بالعجين , وتقديم إجابة كطبيخ الشحاذين ) بحيث أخلط العامّ بالخاص , وأختزل الشعب بالفرد , وأذيب الفرد بأسيد الشعب , وأخصص العام , وأعمم الخاصّ غير خاضع لمنطق أو منهج بحث .... وليعذرني القارئ الحصيف إن وجد فيما أكتبه تداخلا وتكرارا لأنني عربي , والعربي وصّاف للطبيعة غير خبير بتصنيفها , والطبيعة تنتثر بدون نظام ظاهر , فلا يدرك نظامها الدقيق إلاّ أصحاب النظر الفلسفي العميق , وهؤلاء حاربهم العرب حربا تغني شهرتها عن ذكرها , وما كانت تلك الحرب لتنجح لولا أنّ العقلية العربية لا تتوائم مع تلك المباحث التي تبحث عن جذور المشكلات الإنسانية , فأنا بصفتي عربيا يكفيني أن أعلل خراب سدّ مأرب بنبش فأر صغير , ولله درّ هذا الفأر الذي تسبب بتفرق قبائل العرب وتمزّق ملكهم في بلاد اليمن في ذلك الزمن السحيق !!
فلا تثريب عليّ إذا خلطت العامّ بالخاص , وقفزت من الحديث عن الأمّة إلى الأسرة , ثمّ عدت أهذي كالمحموم عن أمور العشيرة أو الفخذ من العشيرة أو الحارة الصغرى بمفهومها الريفي ثمّ أقفز إلى الحارة بمفهومها (السايكس بيكوي ) , فأنا من أمّة شعارها " من تمنطق فقد تزندق " "ومن تعمّق فقد غرق " , وقفّلت البحث عن الأسباب لأنّ البحث عنها يسبب الصداع والدوار ,وزوغان البصر , وضعف القوى , والزهد في كثير من المتع أو العجز الجسدي عنها , وكم هي جميلة الحياة عندما نفصل السبب عن النتيجة , وكم هي رائعة عندما نعلل أحداثها وحوادثها بمثل قصّة فئران مأرب , وكم هي حلوة عندما نسقط منها ضرورة النصب والتعب والدم والعرق ونحلم بحصول المعجزات التي تأتي بمن يملؤها عدلا كما ملئت جورا , ونتمادى في الحلم أكثر فنرى العالم قد عاد للقرون الوسطى فلا طائرة ولا مدرعة ولا صاروخ ولا بندقية ولا أقمار صناعية , فنعود لذوات الخفّ والحافر , والحدّ والنصل , والسنان والعنان , ونتفاعل مع هذا الخيال اللذيذ , ونغيب عن الوعي , ويصرخ أحدنا بأعلى صوته : أنا فلان بن فلان يا معشر الروم هل من مبارز ؟؟ ويشيح بيده عاليا وهو في غيبوبته فتصيب أنف زوجته التي تجلس بالقرب منه طالبة منه أن يحضر اسطوانة غاز أو كيس من الشاي والمحفظة خاوية والشهر في طفولته , فيفيق على رائحة الدم الذي بدأ ينهمر من أنفها وهو يصيح : "خذها من يد ذياب قصاب الرقاب " ثم يحرّك رجله لاكازا جواده فيصيب عقب رجله إبريق الشاي فيندلق على الفراش , وينتبه على صراخ الزوجة التي تهدده بحماية الأسرة , والمنظمات الدولية لحقوق المرأة فيفيق من الحلم اللذيذ على كارثة .
فتأسيسا على ما تقدّم بسم الله أبدأ , وبه أستعين , ومنه استمد الحول والقوّة , وأقول : السؤال يشمل ثلاثة قرون متداخلة لكلّ قرن صفاته وخصائصه فخذها بإيجاز شديد :
1. الصنف الثائر : وهؤلاء أكثرهم من المخضرمين الذي عاشوا أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين , ويضمّ إليهم مواليد القرن العشرين حتى منتصفه .
2. الصنف الحائر : وهؤلاء يمتدون من أواخر الخمسينات حتى منتصف السبعينات .
3. الصنف اليائس : وهؤلاء يمتدون من منتصف السبعينيات إلى مواليد 2010م .
فلنتحدث بإيجاز عن كلّ صنف فنقول : الصنف الأول = الثائر يمثّل أجيال العمالقة في كلّ موقع , ففيه عمالقة الساسة ( قائد ثورة العرب الكبرى الشريف الحسين بن علي , وأنجاله , وعبد العزيز بن سعود , وسعد زغلول والملك حسين بن طلال , وعبد الناصر والملك فيصل بن عبد العزيز , وصدّام حسين ) عمالقة زعماء القبائل ( دليوان المجالي , حسين الطراونة مثقال الفايز , حديثة الخريشا , راشد الخزاعي , كليب الشريدة , عودة أبي تايه , حمد الجازي النوري بن شعلان, وسلطان الأطرش .......... الخ . وعمالقة الفكر والأدب والشعر والفن ( الشيخ محمد عبده , وسيّد قطب , وميشيل عفلق , وأحمد شوقي ,البارودي ,حافظ إبراهيم , الجواهري الزبيري , أحمد محرّم , وطه حسين , الرافعي , العقاد , ناصر الدين الأسد .... الخ
القاسم المشترك بين هذا الصنف هو الدعوة والعمل للنهضة , وأغلبهم متفق على فكرة الوحدة العربية , ويحلم بقيام الدولة العربية الموحدّة , ويحلم بأن يرى العرب قد عادوا للمرتبة اللائقة بهم بين الأمم ..... وكدّوا وكدحوا , واجتهدوا وجاهدوا إلاّ أنّ الظروف المحلية , والدولية كانت ضدّ مشاريعهم المشروعة فلم يستطيعوا تحقيق ما يصبون إليه , ورحلوا عن هذه الدنيا وفي القلوب حسرة وأمل : حسرة على عدم تحقيق أهداف الثورة والكفاح , وأمل بمن بعدهم ليواصلوا المسيرة .
الصنف الثاني ( الحائر ) وهو الصنف الذي ينتمي له السائل والمسؤول أيّ جيلنا نحن بكلّ فخر , فهذا الصنف ورث عن الصنف الأول مشاريع مختلفة حدّ التناقض فتمزّق شمله بين مشاريع الإسلاميين , والقوميين , والليبراليين , واليساريين , وبين مشاريع حملة البنادق ومشاريع حملة الأقلام , وبين المشاريع النهضوية والجهضوية , وتقسم إلى شيع وأحزاب , وكلّ حزب بما لديهم فرحون , وكلّ يقول ليس الآخر على شيء , والمصيبة أنّهم جميعا ليسوا على شيء .
وعلى الرغم من هذا التمزّق والتشرذم فإنّ بين هذا الجيل من القواسم المشتركة الكثير منها حلم الوحدة الشاملة ( من المحيط إلى الخليج ) أو الإقليمية ( توحيد جزيرة العرب ) ( وادي النيل = مصر + السودان ) (سوريا الطبيعية = الشام ) ( الهلال الخصيب = العراق + الشام ) ( المغرب العربي ) , ومنها الاهتمام باللغة العربية وآدابها باعتبارها اللسان الجامع للجنس العربي والمستعرب , والاهتمام بالثقافة بجميع فروعها , والاهتمام بالشؤون العربية وهو يردد قول حافظ إبراهيم :
لِمِصرَ أَم لِرُبوعِ الشامِ تَنتَسِبُ هُنا العُلا وَهُناكَ المَجدُ وَالحَسَبُ
رُكنانِ لِلشَرقِ لا زالَت رُبوعُهُما قَلبُ الهِلالِ عَلَيها خافِقٌ يَجِبُ
خِدرانِ لِلضادِ لَم تُهتَك سُتورُهُما وَلا تَحَوَّلَ عَن مَغناهُما الأَدَبُ
أُمُّ اللُغاتِ غَداةَ الفَخرِ أُمُّهُما وَإِن سَأَلتَ عَنِ الآباءِ فَالعَرَبُ
أَيَرغَبانِ عَنِ الحُسنى وَبَينَهُما في رائِعاتِ المَعالي ذَلِكَ النَسَبُ
وَلا يَمُتّانِ بِالقُربى وَبَينَهُما تِلكَ القَرابَةُ لَم يُقطَع لَها سَبَبُ
إِذا أَلَمَّت بِوادي النيلِ نازِلَةٌ باتَت لَها راسِياتُ الشامِ تَضطَرِبُ
وَإِن دَعا في ثَرى الأَهرامِ ذو أَلَمٍ أَجابَهُ في ذُرا لُبنانَ مُنتَحِبُ
لَو أَخلَصَ النيلُ وَالأُردُنُّ وُدَّهُما تَصافَحَت مِنهُما الأَمواهُ وَالعُشُبُ
بِالوادِيَينِ تَمَشّى الفَخرُ مِشيَتَهُ يَحُفُّ ناحِيَتَيهِ الجودُ وَالدَأَبُ
فَسالَ هَذا سَخاءً دونَهُ دِيَمٌ وَسالَ هَذا مَضاءً دونَهُ القُضُبُ
هذا الجيل الحائر تلقى ضربات موجعة على أمّ دماغه جعلته يصاب بالدوار بدءا بكارثة النكسة 1967م , ومرورا بمهزلة المليشيات المسلحة , والنصر المنقوص عام 1973م ومرورا بكامب ديفيد , ثمّ صدمة اجتياح لبنان 1982م , ومجازر صبرا وشاتيلا , وقبلها اشتعال تلك الحرب الطاحنة بين المنقذين : المنقذ العربي ( صدام حسين ) والمنقذ الإسلامي ( الخميني ) .
إنّ هذه الصدمات المتوالية قد أصابت هذا الجيل بالدوار , فسقط مترنحا , زائغ البصر , عاجزا عن الحركة , ودبت فيه الحياة فجأة يوم الخميس الثاني من آب عام 1990م عندما قام صدام حسين باجتياح الكويت فصفّق له الجميع على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم ومللهم ونحلهم وانتماءاتهم , وهللوا وكبرّوا , وعيّشوا , ورقصوا , وانتفضوا واقفين , ملوحين بالهواء .
وإنني أريد أن أقف عند هذا الحدث لتوضيح سرّ الفرح والحماس الذي اجتاح الغالبية العظمى من الشعب العربي من ذلك الحدث , إذ يظنّ البعض من الجهلة أنّ ذلك بسبب الحقد على شعب الكويت ونظامه , ويحاول المنافقون والسماسرة والعملاء أن يروجوا لمثل هذا الافتراء السخيف , والحقيقة الواضحة السافرة هي أنّ سرّ الفرح هو الاعتقاد الراسخ في الوجدان العربي والإنساني بأن الوحدة لن تتم إلاّ بالقوّة , وكان دعاة النهضة والوحدة يرددون مقولة بسمارك " إنّ الوحدة الألمانية لن تتحقق بالخطب الرنانة , والمناقشات البرلمانية , ولكنّها تتحقق بالحديد والنار " وقد فعل ووحد ألمانيا كما هو معروف , إذن قوبل اجتياح العراق للكويت باعتباره الخطوة الأولى الصحيحة في تحقيق حلم الوحدة , وظنّ العرب بأنّ صدّام حسين سيكون صلاح الدين الثاني أو (بسمارك العرب ) وما درى أولئك المساكين أنّ ذلك كان آخر مسمار دقّ في نعش العرب , فكانت أم الفضائح , وكارثة الكوارث , وفالية الأفاعي , وداهية الدواهي التي أعادت العرب إلى الاحتلال الأجنبي المباشر , ووقعت شهادة وفاة الحلم العربي بالوحدة والنهضة والحرّية , وصادق على تلك الشهادة الجميع وبصموا .
بعد ذلك الحدث المريع بعام أو أقلّ من عام صرّح رجل مثقف , وسياسي من الوزن الثقيل في الأردن بكلام معناه أنّ الفكر الأممي قد عفى عليه الزمن , وأنّ الدولة القطرية هي الخيار والقدر , ومعنى هذا أنّ مقولة الشعب العربي قد سقطت , فنحن أكثر من عشرين شعبا , ومرشحون لأن نضاعف هذا العدد , والنتيجة أننا حائرون , تائهون , فجميع المشاريع النهضوية والجهضوية والثورية والبقرية قد ماتت بين أيدينا , ونحن نصيح بها اصمدي اصمدي ها قد اقتربنا من المستشفى إلاّ أنّها أسلمت الروح , فوقفنا عندها باكين متحسرين وانقسمنا إلى فئتين : الفئة العظمى قالت : " إنّ اكرام الميت دفنه " فلندفنها قبل أن تزكم أنوفنا روائحها , وقلّة منّا وهم من صنف العشاق , وما العشق إلاّ شعبة من الجنون , فقد صاحت وناحت , وهرّت ونبحت ورفضت الاعتراف بموتها , واتهمت من يزعم موتها بالجنون أو العمالة والاشتراك بالمؤامرة وأصرت على حملها على اكتافها متحملة آثار تحلل الجثث وفسادها , مغالطة حاسّة الشمّ والبصر والعقل فجاء زلزال 2011م فأكتشف حاملوها بأنّها قد تحللت وذابت وتبخرت وكفى الله العاشقين الروائح الكريهة .
زلزال 2011م قام على الشبكة العنكبوتية يحمله الجيل اليائس الذي لم يسمع بميشيل عفلق ولا جمال الدين الأفغاني , ولم يعشق شعر شوقي ولم يحفظ شعر البارودي , ولم يسمع بعنترة وعبلاء أو عبلة , ولم يرافق " سيد عملّس وأرقَطُ زُهلوُلُ وعَرَفاءُ جَيألُ " ولم يسمع بعزلة شعورية أو استئناف حياة إسلامية , هتف هذا الجيل : عاشت مصر , عاشت تونس , عاشت ليبيا , الموت للفساد , عاشت الحرية , عاشت الديمقراطية , رفع هذا الجيل الأعلام القطرية وتوشح بها , ولم نسمع جملة واحدة من ماركة ( عاش العرب ) ( الإسلام هو الحلّ ) ( أمّة واحدة ) ( إِذا أَلَمَّت بِوادي النيلِ نازِلَةٌ باتَت لَها راسِياتُ الشامِ تَضطَرِبُ ) ( الموت لأمريكا ) ( فلسطين عربية ) وأنا أضع يدي على قلبي خوفا من أن أسمع في القريب العاجل شعارات من طراز ( عاشت حماه ) ( عاشت تعز ) ( عاشت طرابلس )( عاشت حمير )(عاشت إياد ) (عاشت عبس ) ( الموت لذبيان )( الموت لتغلب ) ( يالثارات كليب ) (يالثارات الزناتي خليفة ) ...... إلخ .... نعم غابت تلك الشعارات , وتلك العنتريات , فإن كانت عاصفة الخليج الأولى عام 1990/1991م قد فضحت الأنظمة , وكارثة 2003م قد فضحت الشعوب , فإنّ زلزال 2011م قد فضح جميع دعاة النهضة من إسلاميين , وعلمانيين وقوميين , ويسار , ولو كان لديهم ذرّة احترام لنا ولأنفسهم لاجتمعوا في صعيد واحد , وتوحدوا في صلاة جنازة رائعة على مشاريعهم الميتة منذ عشرات السنين , فيرتاحون ويريحون .
الجيل الحائر هو حلقة الوصل بين القديم والحديث , فهو الجيل الذي يتقن ركوب الحمار وقيادة المرسيدس , وهو الذي يعرف (البريمس) وسراج الكاز , والراديو , ونشرة أخبار لندن التي كان يتابعها كبار السنّ في السبعينات وما قبلها , ويعرف سلوى , وسميرة توفيق , وعبده موسى , وعيد بندان , ودهش الجهران .
الجيل الحائر هو الذي كان يهتف " بلاد العرب أوطاني " وينشد
(وَإِن دَعا في ثَرى الأَهرامِ ذو أَلَمٍ أَجابَهُ في ذُرا لُبنانَ مُنتَحِبُ
فأصبح لا يرى فرقا بين هطول المطر على حقله وتساقط القنابل على رؤوس أطفال العراق ولبنان !! الجيل الذي كان يصفّق لوصفي وحابس صغيرا , ورقص لصلعان الديجتال كبيرا !! الجيل الذي يشدّه عيد بندان , وعبده موسى , وسميرة توفيق للماضي حيث صهيل الخيل ورائحة البارود وهدير الدبابات , وزئير الميراج والفانتوم والميج , وزغاريد الفكرز والبرن فخلصه عمرو ذياب , وجورج سوف ,ونانسي عجرم , وهيفاء وهبي من ذلك الحبل الخشن الغليظ , وحلّق به إلى دنيا الزهور والعطور والسرور والحبور والخمور .
الجيل الذي حفظ في صغره " سيلحقون فلسطين بأندلس ويعطفون عليها البيت والحرم " فشاهد بأمّ عينه ما هو أسوأ وأفدح .
عفوا لقد شط بي القلم فكان هذا الاستطراد هربا من استحقاق الجواب , فاستئنافا لما كنت قطعته من حديث عن الجيل الحائر حيث قلت ( لا أحوجني الله لتركيب طقم أسنان ) "وما درى أولئك المساكين أنّ ذلك كان آخر مسمار دقّ في نعش العرب , فكانت أم الفضائح , وكارثة الكوارث , وفالية الأفاعي , وداهية الدواهي التي أعادت العرب إلى الاحتلال الأجنبي المباشر , ووقعت شهادة وفاة الحلم العربي بالوحدة والنهضة والحرّية , وصادق على تلك الشهادة الجميع وبصموا " ومن الأدلة التي تؤكد أننا جميعا كنّا مقتنعين في قرارة أنفسنا بوفاة ذلك الحلم فقد تابعنا الهجوم على العراق عام 2003م على شاشات التلفاز , ولم نخرج للشارع ولم نعقد مهرجانات صاخبة كما كنّا نفعل عام 1990م ونحن سكارى بنشوة صواريخ العابد والساجد والارتجاجي والعملاق كما سكرنا صغارا بنشوة الظاهر والقاهر والظافر والحافر والدافن عام 1967م , لقد كنت في تلك الفترة (1990م ) في حال من الهوس الحماسي الذي لا يوصف , وكنت أتابع أخبار الإذاعات , وأقرأ كل ما تنشره الصحف لأننا لم نكن نعرف الفضائيات ولا النت في تلك الفترة , وأكثر ما أزعجني , وأقضّ مضجعي مقالة للكاتب العربي الأردني فخري قعوار , نشرها في صحيفة شيحان العربية , وقال فيها ما معناه : إنّ جعجعة الإذاعات هي التي أدت بنا إلى نكبة 1967م , فجفلت من هذه العبارة , وانزعجت جدّا , وتمنيت أن أنساها , والعجيب أنني نسيت كلّ ما قيل في تلك الفترة إلاّ هذا العبارة بقيت عالقة في ذهني لا تغيب عنه .
إذن مات الحلم العربي بالوحدة والنهضة فعلا عام 1990م فأبقيناه على أجهزة الإنعاش ؛ لأنّ علماءنا الأفاضل لم يفتوا أو لم يتفقوا على أنّ الموت السريري هو الموت الذي يستوجب الدفن فيصرون على بقاء الميّت تنفخ فيه الأجهزة الصناعية حتى تتوقف جميع أجهزة جسده, والغريب أننا نحيط بسريره ننتظر حصول معجزة تعيده للحياة , وهذا ما فعلناه مع حلمنا النهضوي الوحدوي الذي سيعيدنا إلى مركز الصدارة بين الأمم .
كنا نطوف حول سرير ذلك الحلم , وننتظر حصول المعجزة التي تعيده للحياة , وكنّا نتعامى عن بروز الهويات القاتلة على أنقاض ذلك الحلم , ظهر صدام حسين طيلة تلك الفترة عراقيا يهتف للعراق , وربما هتف لفلسطين لإزعاج اليهود , فكان صدام ما بعد عام 1990م غير صدام 1979م عندما هاجم من يقولون " صدام حسين التكريتي ) فكان يقول صدام ابن الرباط والقاهرة ودمشق , صدام عربي وللعرب أو كلاما بهذا المعنى , والعقيد الذي كان يقول في أوائل الثمانينات : " إنّ خليج سرت سيصبح خليجا أحمر عند اللزوم " كنس وخنس وفكك معمل الصابون عندما أتهم بأنّه مصنع كيماوي , ورأينا حاكما كان يتفاخر بأنّه راعي الإسلام يتنصل من هذه الصفّة , ويقول للصحفي الذي مدحه بمثل ذلك اللقب بأنّه مجرد رجل من المسلمين أو بهذا المعنى ..... أمّا على المستوى الشعبي فرأينا كيف تبرز هويات ضيّقة جدا جعلتنا نتذكر أيام أجدادنا الأماثل في العهد التركي والعثماني , رأينا الجامعات التي كانت تخرّج القوميين , واليساريين , والإسلاميين والوطنيين وغيرهم من دعاة النهضة والوحدة قد تحولت إلى تكتلات عشائرية لا تعرف من أصول العشائرية شيئا , وتقوم على أساس " أنصر أخاك ظالما أو مظلوما " ثمّ جاءت القاضية بالشبكة العنكبوتية إياها فكانت منتديات القبائل التي أعادتنا إلى أيام سوق عكاظ , وكان المأمول أن تقوم على أساس " يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ " فقامت على أساس أنّ كلّ قبيلة ترى لنفسها من الأمجاد , ونقاء العنصر , وطيب المعدن ما لا يحظى به غيرها , وجهل هؤلاء أو تجاهلوا أنّ جميع قبائل العرب شركاء في الحسب والنسب وأنّ التعارف المقصود أن تعرف أجمل ما عند الآخرين فتأخذ به , وتنظر إلى عيوبهم فتجتنبها.
إذن سقط المشروع العربي فبدأنا نبحث عن محاضن آمنة تمثّلت في العشيرة والقبيلة , والمدينة , والقرية والحارة , فأوينا إليها باستحياء , فبعد أن كانت الأحلام تتجاوز البحار تقزمت في قرية أو عشيرة أو مدينة , فحالنا كحال من كان يبني قصرا شاهقا , وأمضى عمره متحملا القرّ والحر , وهو يحاول البناء , وجاره ذو الكوخ المتواضع يدعوه ليترك هذا العمل , ويشيد لنفسه وأبناءه كوخا متواضعا , فيرفض ذلك بإباء وشمم , وبعد أن وخطه الشيب , وهدّه المرض جاء إلى جاره مستخذيا , منكسرا يرجوه أن يكنّه عنده في ذلك الكوخ !!
تلك إضاءة على الحال بشكلّ عامّ , وعموميات يتسمّ بها عصرنا هذا , استقبلنا القرن العشرين بيقظة بعد سبات عدّة قرون , فتشابهت علينا السبل كما تشابه البقر على بني إسرائيل فكان لهم موسى واحد فأرشدهم , أمّا نحن فكان عندنا مائة موسى كلّ منهم يدّعي أنّه هو الرائد الذي لا يكذب أهله , والخرّيت الذي لا يزلّ ولا يضلّ , وكلّ واحد يدعو لسبيل غير سبيل الآخر مدعيا أنّه سبيل النجاة , فعاش جيلنا تائها حائرا مترددا .
نحن معشر الجيل الحائر التائه المتردد ورثنا مجتمعا :
1. يقدّس جميع الروابط الإنسانية من أبوّة , وأمومة , وأخوة , وبنعمة , وخؤولة وقرابة , ورحم وجوار , وصداقة , وحتى صحبة الدرب كان لها حرمتها وحقوقها , وشاهدنا بأمّ عيننا في صبانا ذلك الجيل الذي سبقنا الذي تفيض قلوبهم بالحبّ والرحمة والمودّة والشفقة والحنان ,وعندما أشتدّت الأعواد , وغلظت الرقاب , وجشّت الأصوات بدأنا نشكك في هذه الروابط الإنسانية الطبيعية المتوارثة منذ الأزل , فتارة نصفها بالروابط القدرية التي فرضت على الإنسان فالإنسان لم يختر أمّه وأباه وعشيرته , وتارة نصفها بأنّها روابط حيوانية غريزية تجد مثلها في عالم الكلاب والذئاب , والغزلان , والوعول , وتارة نصفها بالرجعية التي كانت من أسباب تخلف العرب وعجزهم عن الارتقاء إلى صفة المجتمع المدني وتارة نهاجمها من باب جهل ذلك الجيل المتمسك بها , ونجحنا في تدميرها وتحطيمها واستبدلنا ما كان عليه الحال من مودّة وحبّ وتقدير بمفاهيم استوردناها من مجتمعات فاسدة تنصّ على أنّ " العمّ غمّ " , " الأخ فخّ " " الخال وبال " " الأقارب عقارب " " الأب ربّ "= سيّد مستبد وهكذا حتى جفّت ينابيع الحبّ من القلوب فذبلت أشجار الرحمة والمودّة والحنان ونما بدلا منها شجيرات الحسد والحقد والبغضاء , فظهرت عداوات بلا سبب , وتقطعت أرحام بلا ذنب وانتهكت حرمات بلا عذر .
2. ورثنا مجتمعا يقدّس الرجولة والفضيلة ويحترم أهلها ويحبّهم وإن كانوا من الأعداء , ويحارب النذالة والخسّة والرذيلة , ويسقط اعتبار الفاسدين فيحرمون من الإكرم والاحترام فما أنفككنا نشكك في تلك المقاييس , ونتلاعب في تلك الموازين , وننظّر لنسبية الأخلاق حتى تمكنّا من فرض اللون البرتقالي على حافلات طلبة العلم وصهاريج نضح المياه العادمة ليتساوى القاري ومن على وزنه , فتساوى حاتم ومادر , وسحبان وباقل , وعنترة وأبي حيّة النميري , وجلسنا مراقبين فكلما شاهدنا قامة ترتفع في ميدان في ميادين المكارم والفضائل وجّهنا لها سهام النقد والتشويه والتشكيك والتحريض وكدنا لها الليل والنهار حتى تنكمش وتتضاءل وتتقاصر وتتلاشى ..........ولأنّ " ألسنة الخلق أقلام الحق " كما في الخبر, والخوف منها كان من أهمّ عوامل ازدهار سوق الفضيلة , وهل أتعب الكرام إلاّ خشية الذمّ والرغبة بالمدح , فقد عمدنا إليها فقطعناها عن نقد الفساد والفاسدين والمفسدين فقنّنا تجريم وتحريم القدح والذمّ والتحقير وإن كان صحيحا , ومنعنا مرتكب هذه الجرائم من اثبات صحّة ما قال , فحصّنا الفساد الأخلاقي , والخروج على منظومة القيم , وهتكنا حجاب الفضيلة بمثل تلك القوانين , فلا يجوز أن نقول للكاذب كذبت , والفاجر فجرت , والبخيل بخلت , وقاطع الرحم قطعت , والنمام فتنت , ولصّ الأعراض فسقت , ولم يعدّ في قاموس مجتمعنا مصطلح " خوارم المرؤوة " و مصطلح ( ذوارب الشهود ) .
3. ورثنا مجتمعا صادقا بعيد عن التكلّف لا يتصافحون بالأيدي إلاّ بعد غيبة متوسطة , ولا يقبلون بعضهم في السلام إلاّ إذا التقوا بعد غيبة طويلة , فأصبحنا نتصافح كلّ ساعة , ونقبّل بعضنا في اليوم مرتين أو أكثر , والفرق بيننا وبينهم أنّ أرواحهم تلتزم بعضها بعضا كلّ لحظة , وقلوبهم تتصافح كلّ خفقة , وأرواحنا تتلاعن ونحن نقبّل بعضنا , وقلوبنا تنبض بالبغض لمن حولنا ...... شاهدنا بأم أعيينا ما جاء في الحديث الشريف : " يخرج في آخر الزمان رجال يختلون الدنيا بالدين , يلبسون للناس جلود الضأن من اللين , ألسنتهم أحلى من العسل وقلوبهم قلوب الذئاب , يقول الله عز وجل أبي يغترون أم علي يجترئون فبي حلفت لأبعثن على أولئك منهم فتنة تدع الحليم منهم حيرانا " فأصبح حلماؤنا حيارى .
4. ورثنا مجتمعا يقشعر بدنه ويمتقع لونه من مجرد ذكر الفواحش ومهلكات الظلم .
5. ورثنا مجتمعا كالجسد الواحد إن أصاب أحدهم ألم سهر له الجميع .
6. ورثنا مجتمعا متعاون :
7. ورثنا مجتمعا سليم الجسم , سليم النفس , مع شحّ الغذاء وعدم تعقيم الماء , ولم يسمع بسوء التغذية , وما كان يعرف السكري والكولسترول والضغط والجلطة , ولم يسمع بفرويد ولا عقدة أوديب ولا انفصام الشخصية .
8. ورثنا مجتمعا نساؤه مربيات عاملات قانتات قانعات حافظات محافظات , مؤثرات أديبات لم يمنعهن الحياء من اكرام الضيف والعمل في الحقل ومخاطبة الرجال بدون تكسّر أو خضوع , ولم تخرجهن الجرأة للتبرج تبرّج الجاهلية الأولى , ولم يمنعهن الحنان من دفع الولد لتقدّم صفوف القتال لكسب الذكر الحسن , ولم يدفعهن الطمع والشره لتمني موت الأب والأمّ والزوج ليرثنه .
9. ورثنا مجتمعا صاحب نخوة ومرؤوة :
10. ورثنا مجتمعا يعرف ماله وما عليه :
11. ورثنا مجتمعا يوقّر فيه الكبير ويرحم الصغير .
12. ورثنا مجتمعا شعاره ( الأقربون أولى بالمعروف ) .
13. ورثنا مجتمعا عفيف يطبّق المقولة الخالدة " تجوع الحرّة ولا تأكل بثدييها ) .
14. ورثنا مجتمعا يرفض سلوك القطط ( جاعت وأكلت جراءها ) .
15. ورثنا مجتمعا يقول كلمة الحق وشعاره ( قطع يدي ولا الجوق ) .
16. ورثنا مجتمع كلّ من فيه يعرف قدر نفسه فيقف عنده , ويعرف قدر غيره فينزله منزلته .
17. ورثنا مجتمعا يجود بالقليل لقناعته بأنّ الحرمان أقلّ منه .
18. ورثنا مجتمعا ينظر صغاره لكباره نظرتهم للعمّ والوالد .
19. ورثنا مجتمع يتزاور للشوق وصلة الرحم .
20. ورثنا مجتمع يتسامى على الجراح , ويسارع لتنظيفها وتعقيمها وإغلاقها , ويلعن من يحكّ القرحة ليدميها لأنّه شيطان فتّان .
21. ورثنا مجتمعا كانت تضبطه أعراف وعادات وتقاليد وأخلاق فيها خلاصة العقول والأديان تغنيه عن القوانين والدساتير .
22. مجتمعا كان يعظّم اليمين , ويخاف من شهادة الزور , ويخشى الظلم , ولا يقبل به .
23. ورثنا مجتمعا كان يطلب المال ليعيش , ويكسب الحمد وهو يردد مقولة عروة الصعاليك :
دعيني أطوف في البلاد لعلني ... أفيد غنى فيه لذي الحق محمل
أليس عظيماً أن تلم ملمة ... وليس علينا في الحقوق معول
24. ورثنا مجتمعا كان يتفاخر بالمكارم .
25. ورثنا مجتمعا يصون الأعراض ويحافظ عليها .
26. ورثنا مجتمعا كان يتحرج من التلفظ بلفظ يخدش الحياء .
27. ورثنا مجتمعا يكره التعاظم , والتفاخر والانتفاخ الكاذب , ولا يتمنى لقاء العدو فإن وقعت الواقعة كان الأصبر عند اللقاء والأمضى في الوغى ولأوفى عهداً ولأكرم خيماً والأمنع لما وراء ظهره .
28. ورثنا مجتمعا يرتضي بحياة الكفاف ولا يساوم على العفاف .
29. ورثنا مجتمعا يحامي عن أطرافه محاماة الليث الجسور عن أشباله .
30. ورثنا مجتمعا في سبيل الأحساب يضحي بدون حساب .
31. ورثنا مجتمعا يفرح بالضيف , ويرحم الضعيف , ويغيث الملهوف وأشدّ ما يكون رحمة لعزيز قوم ذلّ .
32. ورثنا مجتمعا يتسابق على المكارم , ويبحث عن أفضل ما عند الآخرين فيأخذ به , وما رآه من سوء انتقده , وعاب صاحبه كفاحا .
33. ورثنا مجتمعا يخشى من أعقاب الأحاديث في غد ( قليل التشكي للمصائب ذاكرا ... من اليوم اعقاب الاحاديث في غد ) ويتّقي مأثور الكلام .
34. ورثنا مجتمعا يأخذ بالأسباب ويطلب ربّ الأرباب , مجتمع يزرع الحبّ ويتكل على الربّ .
35. ورثنا مجتمعا فيه الكبار دفاتر الصغار .
36. ورثنا مجتمعا مجالسه مجالس ملوك فلا هرج ولا صخب , ولا كلام بذيء , ولا مقاطعة ولا مهاترة ولا مكابرة .
37. ورثنا مجتمعا كان على الكلام عنده (جمارك ) باهضة .
38. ورثنا مجتمعا يأكل أكل صقر , ويؤثر إيثار ديك , ويصول صولة أسد , ويصبر صبر جمل .
39. مجتمعا يجود من الموجود , ويكره الإسراف والخراب .
40. ورثنا مجتمعا يقيس الإنسان بفعله وخلقه وعقله .
41. مجتمعا يجمع جرأة الأعراب وأدب الكتّاب فلا يستنكف عن نقد لاذع بلسان عفيف , وكلمة حق ورثنا بدون تعنيف .... وإني على ما كان من عنجهية..... ولوثة أعرابيتي لأديب!
42. ورثنا مجتمعا لا يحتقر أحدا وشعاره " كلّ عود فيه دخان " و " الأجواد في كلّ بلاد " .
43. ورثنا مجتمعا أرضه لا تنبت الكذب والنفاق .
44. ورثنا مجتمعا يستخدم ما وهبه الله من عقل وحواس أحسن استخدام , ولا يتهم سمعه وبصره فيتلاعب به الدجالون والمخادعون .
45. ورثنا مجتمعا نساؤه مربيات عاملات قانتات قانعات حافظات محافظات , مؤثرات أديبات .
46. ورثنا مجتمعا شعاره ( أنت ومالك لأبيك ) .
47. ورثنا مجتمعا قائما على مبدأ " وأمرهم شورى " ولكنّه يعرف أنّ الشور لأهل الشور .
48. ورثنا مجتمعا آمنا .
49. ورثنا مجتمعا مؤمنا إيمان عميق وإن تهاون في مظاهر العبادة .... يؤمن بأنّ مصائب الدنيا بسبب الذنوب "وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ".
50. ورثنا مجتمعا يثقّ بحكمة كباره فأتاه المتآمرون من حيث لا يحتسب فدفع ثمن تلك الثقة غاليا .
51. ورثنا مجتمعا ديمقراطيا لا يخضع إلاّ لما يؤمن به .
52. ورثنا مجتمعا يخضع للحقّ ولا يأنف من الاعتراف بالذنب , ويتحمّل مسؤولية الخطأ .
53. مجتمعا يحارب كلّ ما يعكّر صفوه وأمنه واستقراره .
54. ورثنا مجتمعا يملك كنوزا من العلم والحكمة رغم أميته .
55. ورثنا مجتمعا يمقت الخيانة , والتزلف , والكذب .
56. ورثنا مجتمعا يقدّس الملح , والتحرّم بزاد الآخر .
57. ورثنا مجتمعا يخضع لرأي الأغلبية وينفر من الاستبداد ويكره الشقاق والخلاف .
58. ورثنا مجتمعا يقيده العهد , ويأسره الوعد , وتملكه الكلمة .
59. ورثنا مجتمعا يموت جوعا ولا يأكل الجيف .
60. ورثنا مجتمعا حييا .
61. ورثنا مجتمعا عاملا منتجا .
62. ورثنا مجتمعا سخيا مقتصدا .
63. ورثنا مجتمعا حسّه مرهف .
64. ورثنا مجتمعا لا يحمل الحقد , وسليم من الحسد .
65. ورثنا مجتمعا يسعى لنفع الجميع فإن عجز كفّ الأذى .
66. ورثنا مجتمعا لا يعرف الكيد والتآمر فيحارب بشرف ويصادق بإخلاص .
67. ورثنا مجتمعا يتعاون لسقاية كلّ بذرة طيبة , ويحارب كل نبتة خبيثة .
68. ورثنا مجتمعا مالك للسانه عند الغضب فلا يقول إلاّ الحقّ لئلا يصرعه الحقّ .
69. ورثنا مجتمعا يجبر عثرات الكرام ويعين أهل المعروف والندى.
70. ورثنا مجتمعا إن اقتنع سار غير متردد ولا ملتفت .
71. ورثنا مجتمعا يعاقب من شذّ عن منظومته الأخلاقيه باسقاط اعتباره الاجتماعي .
72. ورثنا مجتمعا يحسن الظنّ بالناس إلاّ أنّه قلّما يخدع .
73. ورثنا مجتمعا وفيّا .
74. ورثنا مجتمعا غير اتكالي ولا يفرّ من الواجب .
75. ورثنا مجتمعا يبني أحكامه على أسس موضوعية معقولة .
76. ورثنا مجتمعا يحفظ الجميل بدون من ولا أذى .
77. ورثنا مجتمعا يتحرّج من أكل الحرام وطرد الحرام .
78. ورثنا مجتمعا يمقت الافتراء .
79. ورثنا مجتمعا يحافظ على الغريب .
80. ورثنا مجتمعا يرفض الإشاعات .
81. ورثنا مجتمعا متعاونا .
82. ورثنا مجتمعا لا يعشق الألقاب ولا يصرفها لمن لا يستحقها .
83. ورثنا مجتمعا بسيطا في حياته صادقا في مشاعره .
84. ورثنا مجتمعا يستعيذ بالله من ثلاث : ( مقابلة الوجه الأغم , وقتل ابن العمّ , وبناء البيت بدون إبل أوغنم ) .... وكان يحمد الله على " شمّة الهواء " = نعمة الحياة .
85. ورثنا مجتمعا يستحق حمل السلاح ؛ لأنّه لا يستخدمه إلاّ للضرورة القصوى التي يتفق الجميع على مشروعيتها .
86. ورثنا مجتمعا يستحق أفراده بناء الأسرة ؛ لأنهم يدركون طبيعة المسؤولية العظمى المترتبة على ذلك .
87. ورثنا مجتمعا حليما كريما يتقى غضبه إن غضب , وتتقى صولته إن جاع .
88. ورثنا مجتمعا طهرّه الله من أخبث أنواع الحسد, التي فصّلها الغزّالي وهو يتحدث عن أسباب الحسد حيث يقول: " السبب السابع ( خبث النفس وشحها بالخير لعباد الله تعالى ) : فإنك تجد من لا يشتغل برياسة وتكبر ولا طلب مال إذا وصف عنده حسن حال عبد من عباد الله تعالى فيما أنعم الله به عليه , يشق ذلك عليه ,وإذا وصف له اضطراب أمور الناس , وإدبارهم وفوات مقاصدهم , وتنغص عيشهم فرح به , فهو أبدا يحب الإدبار لغيره , ويبخل بنعمة الله على عباده كأنهم يأخذون ذلك من ملكه وخزانته , ويقال البخيل من يبخل بمال نفسه , والشحيح هو الذي يبخل بمال غيره , فهذا يبخل بنعمة الله تعالى على عباده الذين ليس بينه وبينهم عداوة ولا رابطة , وهذا ليس له سبب ظاهر إلا خبث في النفس ورذالة في الطبع عليه وقعت الجبلة , ومعالجته شديدة لأن الحسد الثابت بسائر الأسباب أسبابه عارضة يتصور زوالها فيطمع في إزالتها وهذا خبث في الجبلة لا عن سبب عارض فتعسر إزالته إذ يستحيل في العادة " ... إنتهى .
لست أزعم أننا ورثنا مجتمعا ملائكيا تتحقق فيه مثالية أفلاطون , ولكنني أدّعي أننا معشر الجيل الحائر ورثنا مجتمعا طبيعيا متجانسا شُكّل نسيجه بتجارب تراكمية تمتدّ إلى أعماق التاريخ فتوحدت أفكاره ومشاعره وأعرافه ونظامه , وكان يشكّل أرضا خصبة لبناء الدولة العربية الموحدة المدنية الجامعة بين الأصالة والمعاصرة , القادرة على الاستفادة من تلك الطاقة البشرية الهائلة , فكان مما ذكرته طائفة من صفاته وأخلاقه وطبائعه, وأخترت بعض النماذج لأبين بعض ما غيرّنا وبدلنا , وتركت الباقي للقرّاء ليبحثوا عمّا فعلنا , وعمّا غيرنا وبدلنا , فهل نحن من أهل هذه الآية : (( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ )) وهل يجوز للشاعر أن يخاطبنا عندما نلقي بمسؤولية خيبتنا على أسلافنا قائلا :
أقلّوا عليهم لا أبا لأبيكم ... من اللوم وأو سدّوا المكان الذي سدّوا
أؤلئك قوم إن بنوا أحسنوا البنى ... وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدّوا
يسوسون أحلاماً بعيداً أناتها ... وإن غضبوا جاء الحفيظة والجد
فإن كانت النعمى عليهم جزوا بها ... وإن أنعموا لا كدّورها ولا كدّوا
وإن قال مولاهم على جلّ حادث ... من الدهر ردوا فضل أحلامكم ردّوا
مطاعين في الهيجا مكاشيف للدّجى ... بنى لهم آباؤهم وبنى الجدّ
وهل نغضب إذا قال قائلنا :
ورثنا المجد عن آباء صدق ... أسأنا في ديارهم الصنيعا
إذا الحسب الرفيع تواكلته ... بناة السوء أوشك أن يضيعا
أو قال :
( ليس الكريم بمن يدنس عرضه ** ويرى مروؤته تكون بمن مضى )
( حتى يشيد بناءهم ببنائه ** ويزين صالح ما أتوه بما أتى )
وهل إذا قال قائلنا :
لسنا وإن أحسابنا كرمت ... يوماً على الأحساب نتكل
نبني كما كانت أوائلنا ... تبني ونفعل مثل ما فعلوا
قال له الصادقون القائلون للحقّ صدقت وبررت ؟؟
والسؤال الأكبر والتحدّي الأعظم هو هل أزمتنا أزمة مال واقتصاد وقوانين ودستور أم هي أزمة نفوس خاوية , وعقول فارغة , وهمم خائرة , وألسنة طويلة وأيد جذماء ؟؟ إنّ الجيل الجريء الذي يقود التغيير هو ليس جيلنا الحائر المتردد , إنّه جيل الشباب ولكن وما أدراك ما لكن ؟؟؟؟ إنّه يضطرب اضطراب الطائر الذبيح , فهو يقفز هنا وهناك من شدّة الألم , ولا يملك مشروعا نهضويا يسير على هداه ؛ لأننا لم نورثه إلاّ الخيبة , والحيرة , والضياع , فهو سيبقى يضطرب منفذّا سياسة (( الفوضى الخلاقة )) حتى تخلق تلك الفوضى قيودا جديدة تكبّله قرنا آخر من الزمن !! سيستبدل قيود الحديد بقيود الحرير , ولكنّ النتيجة أسوأ لأنّ قيد الحديد يزعج صوته , ويؤلم عضه , وقيد الحرير لا صوت ولا ألم .
وختاما ماذا عسى أن يكتب عنّا التاريخ , ربما قال : " بدأت يقظة العرب في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي فحاولوا النهوض طيلة النصف الأول من القرن العشرين فأخفقوا فاستعاضوا عن طريق الرفعة والنهوض بالدربكة والطربقة والضجيج والعجيج وهم سكارى , وليتهم إذ أخفقوا قد عادوا لسباتهم الأزلي فأراحوا العالم من دربكتهم وطربقتهم وضجيجهم " ربما هذا ما سيكتبه المؤرخ المشغول بجمع إنجازات الإنسانية عبر التاريخ , فلا يرى أن يثقل كتابه بغير هذه الفقرة , فمن لم يزد على الدنيا كان زائدا عليها على حد تعبير الرافعي , والزائد لا مكان له فيها .
وقد يأتي مؤرخ فيلسوف أو عالم اجتماع يهتم بدراسة السنن الكونية التي تحكم سير المجتمعات في حال نهوضها أو انحطاطها فيجد فينا مادّة خصبة لتجلي هذه السنن بأوضح وأنصع صورها .
وقد لا يكتب عنّا المؤرخون شيئا إلاّ على سبيل التفكّه والتسلية لأننا نمارس حياة لا تخضع للسنن الكونية التي تحكم سير المجتمعات الإنسانية , وربما جاء متفلسف فكتب عنّا باعتبارنا ظاهرة فريدة في كوكب الأرض تبحث بدافع حبّ الاستطلاع , وحمد الله على نعمة المعافاة من الابتلاء .
وكتبه الراجي عفو ربه الباري فلاح أديهم المسلَم بني صخر