السعودية... هل ينقلب السحر النفطي على الساحر؟
لا يخفى على أحد أن الاقتصاد السعودي يرتكز على إنتاج الوقود الأحفوري وبشكل أساسي على تصدير هذا الوقود، من هنا فإن أنماط الطلب على الطاقة لديه اليوم لا تتسبّب في هدر الموارد القيّمة وزيادة منسوب التلوث في المملكة فحسب، بل تجعلها عرضة لأزمات اقتصادية واجتماعية جمّة، لن تقف تداعياتها عند حدودها الداخلية بالتأكيد.
في أعقاب اندلاع الثورات العربيّة، حاولت المملكة احتواء أي أزمة محتملة داخل أسوارها، فسارعت إلى تعويم شعبها بالمزيد من التقديمات الاجتماعية، بما في ذلك توفير الطاقة الرخيصة، الأمر الذي شجّع على الإسراف في استخدام الموارد والتكاسل في البحث عن طاقة بديلة للتوفير.
والنتيجة: كل المعطيات الراهنة تشير إلى ضرورة التحرّك على وجه السرعة حفاظاً على سوق النفط العالمية. هذا ما توصّل إليه التقرير الذي نشره الباحثان المتخصصان في شؤون النفط بول ستيفنز وغلادا لان في معهد "تشاتهام هاوس" البريطاني. التقرير، الذي حمل عنوان "حرق النفط لـ"تبريد" الداخل: أزمة النفط المخفية في السعودية"، شرح أسباب الأزمة وارتباط المعيار النفطي الاستهلاكي الداخلي بالخارجي، كما أورد التحديات الماثلة والخيارات المتاحة أمام الرياض في مواجهة القضية الداخلية الحساسة سياسياً: أسعار الطاقة المحليّة.
الاستهلاك المحلي .. قنبلة موقوتة
بداية، تجدر الإشارة إلى أن الاستمرار في الاستهلاك النفطي الداخلي على هذا المنوال يهدّد بالحدّ من صادرات السعودية النفطية في غضون عقد من الزمن. الأمر الذي قد يكون له تأثير حاد على الإنفاق الحكومي، المعتمد بنسبة تتخطى الـ80 في المئة على العائدات النفطية. وفي هذا السيناريو يؤدي الاقتطاع من موازنة الحكومة، في نهاية المطاف، إلى تقليص القدرة النفطية الاحتياطية لدى المملكة، متسبباً بالمزيد من التقلبات الخطيرة في سوق النفط العالمية.
وفيما تسبّبت أسعار النفط المنخفضة تاريخياً في المملكة بتفاقم هذه الأزمة، من خلال الاتجاهات التي أرستها في استهلاك المواد غير المستدامة والتي تحول دون اتخاذ تدابير لتصحيحها، تزايد الاهتمام العالمي مؤخراً من قبل العديد من الهيئات المختصة بمتابعة مخاطر "التهور" السعودي، رافقته دعوات حثيثة لإلغاء الإعانات الحكومية على الوقود الأحفوري.
يُذكر أن السعودية عضو في العديد من هذه الهيئات، بدءاً من مجموعة العشرين ومنظمة التجارة العالمية، وكانت في العام 1992 أحد الذين وقعوا على جدول أعمال الأمم المتحدة للقرن الواحد والعشرين، والذي التزمت الدول من خلاله على تطوير سياساتها المتعلقة بمعالجة أنماط استهلاك الطاقة غير المستدامة. وهي كانت كذلك من بين دول مجموعة العشرين الذين أقروا بضرورة "التخلص التدريجي من عدم كفاءة الإعانات الحكومية للوقود الأحفوري"، في أيلول العام 2009 على المدى المتوسط.
ويشكّل الاستهلاك النفطي جزءاً لا يُستهان به من الأزمة، حيث تستهلك المملكة حالياًَ أكثر من ربع إجمالي إنتاجها من النفط، أي حوالى 2.8 مليون برميل في اليوم. وهذا يعني، في حال استمرت على المنوال نفسه، أنها ستلجأ إلى استيراد النفط في العام 2038. صحيح أن هذه الفرضية ليست محتومة، فقد يتم اكتشاف احتياطات أخرى أو قد يتراجع معدّل نمو السكان وغيرها من الاحتمالات، إلا أنها تظهر حجم الخطر المحدق بقدرات المملكة النفطية.
أما تحقّق هذه الفرضية فيعني أن المملكة ستجد نفسها مضطرة للاستدانة لتغطية نفقاتها الداخلية وكذلك تكاليف استيراد النفط، لا سيما في ظلّ ازدياد عدد السكان إلى 27 مليون نسمة، علماً أن أكثر من ثلثهم ما زالوا تحت سن الـ14 كما أن معدلات البطالة بينهم إلى ارتفاع مستمر (النسبة الرسمية المعلن عنها 15 في المئة، في حين تشير مراكز الإحصاء إلى 30 في المئة).
أسعار النفط المنخفضة.. سلاح ذو حدّين
ما اعتبرته المملكة خلاصاً لها من "براثن" الربيع العربي الذي يقترب، يشي كل ما يحمله بأنه سينقلب كارثة لن يقتصر تأثيرها على الصعيد المحلي. أسعار النفط المنخفضة تنبئ بأزمة خطيرة، وإن تأخرت. أما غياب السياسات الشاملة التي تؤطّر هذا القطاع فيشكل سبباً جوهرياً في تعجيل وقوع الأزمة. ويتجلى ذلك بداية في غياب التنسيق كلياً بين الوزارات والهيئات المحلية المعنية بالقطاع. يُذكر أن السياسة النفطية تُدار تقليدياً بواسطة وزارة النفط والثروة المعدنية، التي حصرت اهتمامها دائماً بالتنقيب عن النفط والغاز كما على إدارة توزيع حصص الإنتاج النفطي لا سيما مع المستوردين في الخارج. وفي حين تحدّد هذه الوزارة أسعار النفط محلياً، تتولى وزارة الطاقة والمياه مسؤولية إدارة قطاع الطاقة بما في ذلك التخطيط والاستثمار لضمان تأمين الطاقة الكافية. ولكن، لغاية الآن، لم يكن هناك أي محاولة من أي جهة لإقرار سياسة عامة لإدارة الاستهلاك.
وفيما تدرج الحكومة تعديل أسعار الطاقة على لائحة سياساتها الإصلاحية، فهي تتعامل مع هذا البند بقدر بالغ من الحساسية والحذر، نظراً للاضطرابات السياسية المحيطة بها في المنطقة، في وقت يضغط المسؤولون السعوديون باتجاه زيادة المساعدات للشعب لا تخفيضها.
يُذكر أن أسعار النفط في السعودية هي الأدنى من بين دول مجلس التعاون الخليجي، وقد تمّ تخفيضها في الواقع بالتزامن مع الارتفاع العالمي للأسعار، حيث أرادت السلطات السعودية حينها التدليل على نيتها المشاركة في المنافع التي تكتسبها من صادراتها. وقد وقفت الأسعار اليوم على 12 إلى 16 سنتاً أميركياً لليتر البنزين، و6.7 سنتاً أميركياً لليتر الديزل.
مخاطر الأزمة على السوق العالمية
تتمتع السعودية بالقدرة على إنتاج 12.5 مليون برميل من النفط يومياً. وفي وقت تنتج من 9 إلى 10 ملايين برميل من النفط الخام والغاز الطبيعي، تصدّر بين 6 و7 مليون برميل من النفط الخام والمنتجات المكررة والغاز السائل.
وحسب وكالة الطاقة الدولية، فإن السوق العالمية ستعتمد على منظمة"أوبك" لتلبية الطلب المتزايد على النفط، بينما تتوجه الأنظار بشكل أساسي إلى السعودية والعراق.
في المقابل، تشير التقديرات التقريبية إلى أن نمط الاستهلاك الحالي في السعودية سيحرم السوق العالمية بحلول العام 2020 من أكثر من 2 مليون برميل في اليوم، إذا ما قيس الامر بالسيناريو الذي كانت وضعته وكالة الطاقة الدولية.
وكانت شركة "أرامكو" النفطية السعودية حذرت في وقت سابق من أن قدرة المملكة على تصدير النفط الخام ستتدنى بمعدل يتراوح بين 3 ملايين برميل في اليوم و7 ملايين برميل بحلول العام 2028، ما لم تتم السيطرة على نمو الطلب المحلي على الطاقة.
ما سبق يؤكد على أن قدرة المصدّر الأول للنفط على الحفاظ على استقرار السوق، سواء بزيادة حجم الصادرات أم تقليصه، ستتعرّض لأضرار بالغة، لا سيما فيما يتعلق بحجم الاحتياط الذي يضمن الحفاظ على ارتفاع معدّل الصادرات النفطية.
وفي حال تآكلت هذه القدرة، وفشل أصحاب الاحتياطات النفطية الآخرين مثل إيران والعراق في الاستثمار بشكل كافٍ في قطاع الطاقة الانتاجية، فستصل أسعار النفط العالمية إلى مستوى غير مسبوق. وفيما قد يساعد هذا السيناريو في دعم ميزانيات منتجي النفط على الأمد القصير، إلا أن هذا الارتفاع في الأسعار قد يليه، على المدى الطويل، انحراف في السياسات الوطنية وانتقال إلى أسواق ناشئة بعيداً عن النفط. وهذا سيجرّ بلا شكّ أضراراً فادحة، لا يمكن التنبؤ بها، على الاقتصاد السعودي.
احتواء الأزمة.. السبل والتحديات
يبدو أن مقاربة السلطات السعودية الحالية للأزمة ما زالت عاجزة عن تفادي مخاطرها في المستقبل. فقد لجأت المملكة إلى إدخال بدائل جديدة للطاقة، ولكن الدلائل تشير إلى أن إضافة الطاقة المتجددة والطاقة النووية سيؤخر في ظهور العجز المالي لبضع سنوات لا أكثر، وبهذا تبني الحكومة سياساتها على عامل شراء الوقت على أمل النجاح في خفض اعتماد الاقتصاد الوطني على العائدات النفطية.
وإزاء جهود السلطات الخجولة، تبرز مجموعة من العوامل التي تجعل من رفع سعر النفط مهمة شاقة في أجندة الحكومة السعودية، ليس أقلها الدور الذي تلعبه "الطاقة الرخيصة" في العقد الاجتماعي للمملكة السعودية وفي تطور سياساتها الصناعية. من جهة ثانية، وبما أن المجموعات النافذة في البلاد تستفيد كما المجموعات الفقيرة من بقاء الوضع على ما هو عليه، فإن معارضة تدبير مماثل ستكون قوية وفاعلة.
وإذا أردنا إدراج التحديات التي تنتظر الحكومة، على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي، فإنها قد تضم:
- إدارة التحوّل إلى أسعار مرتفعة في صفوف الطبقات ذات الدخل المنخفض والمتوسط.
- إقرار سياسة متماسكة وفعالة لحفظ موارد الطاقة، إذا أخذنا بالاعتبار الهيكل الرأسي للحكومة وعدم وجود قنوات لجمع ردود الفعل التي سيقوم بها الناس.
وعليه يتعيّن على الحكومة وضع خطوط أولية سهلة التطبيق لسياسة رفع الأسعار، قد تتمثّل بداية باستحضار تجارب دول مماثلة، كما ببدء إقناع الناس عبر حملات دعائية وتثقيفية بأهمية هذه الخطوة.
ومن جهة أخرى، ينبغي أن تتصف أهداف السياسة بالواقعية والوضوح. الأمر الذي يمكن أن يساعد في توحيد جميع الوزارات والقطاعات المعنية في إطار سياسة شاملة، علماً أن على السياسة المنتظرة أن تلحظ إصلاح الأمور التي توصف بالثانوية، مثل إعادة تأهيل البنى التحتية، التي تساعد في ترشيد استهلاك الطاقة حتى في ظل غياب إصلاحات الأسعار، كما لا بدّ من الأخذ بعين الاعتبار تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص، وتأهيل الموارد البشريّة من خلال التركيز على الكفاءات العالية.
ويبقى إقناع الناس بأن هذه السياسة ضرورية، أو بأن الأزمة حقيقية، عاملاً أساسياً، فكيف يتقبّل أناس "يغرقون" في فائض من احتياطات النفط والغاز، أن نعمتهم ستتحوّل إلى نقمة؟